جنون عمّتي بعثَ الرعب في الضيعة

يقال أنّ خطوة واحدة تفصل بين الصحّة العقليّة والجنون وهذه المقولة تذكّرني بما حصلَ لعمّتي رحمها الله. وأحداث قصّتي وقعَت منذ أكثر مِن ثمانين سنة في قرية في أعالي الجبل.

كانت ثُريّا فتاة شابة وجميلة وكانت تأمل كَكل فتيات سنّها أن تجد عريساً وسيماً وثريّاً بِشرط ألا تبقى في الضيعة حيث كانت تشعر أنّ التخلّف الموجود مِن حولها لا يناسب أفكارها وطموحاتها الواسعة. وبقيَت ترفض العرسان حتى أن وجَدَت أخيراً الذي كانت تنتظره. كان إسمه رفيق وكان مِن سكاّن العاصمة حيث أسّسَ شركته التي لاقَت نجاحاً وإزدهاراً ملحوظاً. وبعد بضعة سنوات تزوّجَ مِن إمرأة أعطَته ثلاثة أولاد ومِن ثمّ ماتت بعد صراع مع المرض. وبقيَ رفيق يربّي أولاده لوحده وحين أصبحوا في سنّ الرشد قرّرَ أن يرتبط مِن جديد. وحين رأى ثُريّا أُغرِمَ فوراً بها لأنّها كانت تمثّل بالنسبة له الأمل في إستعادة شبابه والبدء مِن جديد. أمّا ثُريّا فلم تجده وسيماً أو حتى جذّاباً ولكنّها قَبِلَت به بسبب ثراءه ومنزله الفخم في المدينة. وبالرغم مِن تنبيهات أهلها حول فارق العمر بينها وبين رفيق أصرَّت ثُريّا على الزواج منه. وأقامَ لها العريس فرحاً لم يسبق له مثيل وأخَذَها إلى البندقيّة لقضاء شهر عسل جميل.

وعادَت معه إلى منزله في العاصمة وهناك بدأت الحياة التي كانت تحلم بها. أمّا بالنسبة لعلاقتها مع أولاده فكانت هادئة لأنّهم كانوا كلّهم منشغلين بحياتهم الخاصة ولم يجدوا مانعاً ليتزوّج أبوهم مِن جديد ويجد رفيقة تسهر على راحته بعدما ضحّى بنفسه مِن أجلهم. وكانت عمّتي ستعيش حياة هنيئة لولا ما حدث بعد أقل مِن سنة على زواجها.

ففي ذات نهار وصَلَ خبر مرض أمّ رفيق التي طلَبَت أن يأتي إبنها لتراه قبل أن تغادر الحياة. فركَضَ إلى الضيعة وبقيَ هناك بضعة أيّام. وحين توفَّت حماتها لحِقَت به ثُريّا لتكون موجودة في الدفن والتعازي. ولكثرة حزن أب رفيق على زوجته أصيبَ بأكتئاب عميق أثّرَ إلى حدّ كبير على صحّته فقرّرَ إبنه أن يستقرّ في الضيعة مع زوجته خوفاً عليه. وإستاءَت ثُريّا كثيراً للخبر ولكنّ زوجها وعَدَها أنّ مكوثها هناك لن يطول وأنّها مسألة بضعة أسابيع. ومَضَت الأسابيع مِن ثمّ الأشهر ولم يتغّير شيء. وإستنكار ثُريّا لم يؤثّر على شيء لأنّ رفيق كان يرفض رفضاً قاطعاً ترك أباه في هكذا وضع. وأخَذَت عمّتي تصليّ أن يموت حماها وينتهي عذابها وسط سكان الضيعة التي كانت تكرههم لمجرّد كونهم أناساً بسطاء وفقراء.

وفي ذات ليلة دخَلَت ثُريّا الصالون حيث كان زوجها جالساً وقالت له أنّها تريد العودة لوحدها إلى منزل المدينة فأجابَها:

 

ـ أليس لديكِ أيّ شفقة؟

 

ـ هذا أبوكَ أنتَ... مِن سنة لم أكن أعرف أيّ مِن أهلكَ.

 

ـ وإن يكن... أنا زوجكِ وأبي مريض... على الأقل تظاهري أمامي بأنّكِ مهتمّة لأمره!

 

ـ أنتَ تعلم أنّني أكره العيش هنا... وهذا سبب زواجي منكَ.

 

ـ فقط؟ ألم تحبّيني؟

 

ـ أنتَ تعرف الجواب... لم أغشّكَ يوماً.

 

ـ كم أنتِ أنانيّة! كل ما عليكِ فعله هو الصبر قليلاً... أبي رجل عجوز ولن يطول الأمر.

 

ـ وماذا لو عاشَ سنين بعد؟ تريدني أن يذهب شبابي سدىً مِن أجل رجل لا أعرفه؟

 

ـ كلامكِ جارح... لِذا سأجاوب على طلبكِ: لن تعودي إلى المدينة إلاّ معي... وإن كنتِ تريدين الرحيل فإعلمي أنّني سأطلّقكِ ولن تحصلي على شيء وستضطرّين إلى العودة إلى هنا كما كنتِ في السابق أي فقيرة. ماذا تقولين؟

 


عندها أدركَت عمتّي أنّه مِن الأفضل لها أن تبقى. ولكن منذ ذلك المساء تغيّر شيء فيها وإلى الأبد فإمتلأ قلبها بالحقد تجاه زوجها وكل مَن كان يعيش في تلك الضيعة. وبما أنّها لم تكن سعيدة قرّرَت ثُريّا أنّ لا أحد يحقّ له أن يكون سعيداً وبدأَت تفكرّ بالسبل المتاحة لها لتنكيد عيشة الجميع. وأوّل شيء فَعلَته هو الأنتقال إلى غرفة أخرى كي يعلم رفيق أنّه لن يلمسها بعد ذلك. ومِن ثمّ قرّرَت أنّها لن تدخل غرفة حماها ولن تسأل عنه حتى لو كان الأمر متعلّق بحياته.

وبدأَت الناس تتكلّم بعدما أخبرَت الخادمة الجميع بالذي يحصل في المنزل حتى أن جاءَت أمّها للتكّم معها وإقناعها بالرجوع إلى صوابها. ولكنّ الأمر أشعَلَ غضب ثُريّا خاصة عندما لفظَت والدتها تلك الجملة: "ماذا سيقول أهالي الضيّعة عنّا." وصمّمَت ثُريّا أن تريهم شرّها الحقيقيّ فباشرَت بكتابة رسائل مجهولة تبعثها مع ولد صغير بعد أن أشترَت صمته. وفي تلك الرسائل كانت تهدّد الناس وتعِدهم بالقتل إن لم يهتمّوا بشؤونهم الخاصة. ولأنّ سكاّن الضيعة كانوا يجدون المكاتيب تحت أبوابهم في الصباح لم يستطع أحد معرفة هويّة مرسلها. وعمَّ الإستنكار المكان ولكن ما مِن أحد فكّرَ ولو للحظة أن تكون تلك الشابة الجميلة والرقيقة هي الفاعلة.

وبدأ الكل يشكّ بجاره أو أحد أقاربه وتصاعدَت اللهجات والخلافات وكانت ثُريّا سعيدة لرؤيتهم هكذا. وبدأَت تكتب رسائل أكثر دقّة موجهة الكلام لأصحاب البيوت مع تفاصيل عن حياتهم الشخصيّة ومنتهية بوعد في قتل ذلك أو ذاك وبطرق شنيعة جدّاً حتى أن سادَ الخوف. وصار الكل يتجنّب الخروج بعد غروب الشمس خوفاً مِن أن يأتي القاتل وينقضّ عليهم وأصبحَت القرية خالية تماماً بدأً مِن السادسة مساءً. ووصَلَ مكر ثُريّا إلى أن تبعثَ لنفسها رسالة تهديد لتبعد الشبوهات عنها. وبقيَ الوضع هكذا حتى أن قتَلَت ثُريّا إحدى هرّات جارتها ووضَعَتها على باب المرأة. ومنذ ذلك اليوم بدأت الناس تخرج وبيدها سلاحاً كمطرقة أو منجل أو حتى بندقيّة صيد.

وكان مِن الواضح أنّ عمّتي كانت قد فقدَت عقلها فمَن يفعل ذلك إلاّ المجانين؟ والله وحده يعلم إلى أيّ مدى كانت ستصل إليه لو تابعَت خطّتها. البعض يقول أنّها كانت ستنتهي بقتل أحد فمَن يؤذي حيواناً يستطيع أذّية إنساناً. والأمر الذي أوقفَ ثُريّا هو إعتراف الصبيّ الذي كان يفرّق المكاتيب حين رآه أحد السكاّن يضع شيئاً تحت بابه ليلاً. وحين سُئلَ الولد كيف يجرؤ على الخروج في هكذا ساعة رغم خطر الموت بدأ يتمتم ويتلبّك وفُضِحَ أمره حين وجدوا معه رزمة مِن الرسائل. وإعترف بكل شيء وأوشى بثُريّا.

وحين جاء وفد مِن أهالي الضيعة إلى منزل رفيق وأخبروه بما علموا به نادى زوجته وسألها عن الأمر فنكَرَت طبعاً. ولكنّ شيئاً في نظراتها فضحها: كانت تبتسم داخليّاً وكان الأمر واضحاً للكل. وأسرع أحدهم بالإتصال بالشرطة وجاءَت دوريّة إلى المكان وأخَذَت عمّتي للتحقيق. ورافقَها زوجها خوفاً عليها لأنّه كان يحبّها رغم كلّ شيء ويشعر بالذنب لما حصل. وإعترفَت ثُريّا بإفتخار بالذي فعَلَته ولم تبدِ أي ندم أو تأنيب ضمير بل عندما سألوها إن كانت ستعيد الكرّة إن إستطاعَت ذلك أجابَت: "بالتأكيّد!" عندها أدركوا أنّها بحاجة إلى أطباء نفسيّين وليس إلى السجن فأمَرَ القاضي بأرسالها إلى المصحّ العقليّ. وهناك إكتشفوا أنّها تعاني مِن هذيان الإضطهاد الحاد والخطِر لأنّها كانت تستعدّ للقضاء على زوجها وبصورة نهائيّة.

وبقيَت ثُريّا في المصحّ حتى آخر أيّامها. كان أبي في ذلك الوقت لا يزال مراهقاً وتأثّرَ كثيراً بالذي حصَلَ لأخته مِن الناحية النفسيّة والإجتماعيّة. فعندما كبر لم تقبل به أيّ فتاة خوفاً مِن يكون جنون ثُريّا وراثيّاً ناهيك عن الكره الناس الذي واجهه شبه يوميّاً. لِذا تركَ أبي الضيعة وقصَدَ المدينة كما فعَلَت أخته مِن قبله ولكن لدوافع مختلفة. وهناك تعرّفَ إلى أمّي التي أحبَّته وتزوَّجَته حتى بعدما أخبرها قصّة جنون ثُريّا. فالأشياء في العاصمة لها وقع آخر وتقبّل أكبر ربّما بسبب إختلاط الناس وإنشغالهم فلو بقيَ أبي حيث كان أظنّ أنّه كان عاشَ حياة تعيسة مليئة بالذنب والعقاب على شيء لم يفعله.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button