جلسة لتحضير الأرواح!

بكيتُ كثيرًا موت أمال أختي الحبيبة التي توفّيَت بحادث سَير حين كانت في الثامنة عشرة. كنتُ مُقرّبة كثيرًا منها، ربّما لأنّني كنتُ أصغرُها بسنة واحدة، على خلاف باقي اخوتي الذين كانوا أكبر منّا ولدَيهم اهتمامات أخرى خاصّة بهم. رحلَت أمال إلى الأبد، وشعرتُ بوحدة عظيمة بالرغم مِن مُساندة عائلتي لي بعد الفاجعة. بقيَت حياتي فارغة إلى حين صرتُ راشدة وقادرة على السفَر لإكمال دراستي في الخارج، ووافقَ أهلي بسرعة آملين أن أنسى أمال وتكون لي حياة سعيدة مليئة بالبسمة والبهجة. غادرتُ ذويّ وبلدَي باكية وكلّ مكان يُذكّرني بأختي المسكينة.

وصلتُ لندن واستقرَّيتُ في حرَم الجامعة، ثمّ رحتُ أمشي في شوارع مدينة لَم أرَها سوى في الكتب أو الأفلام. كان الطقس رديئًا كما العادة هناك، لكنّني أحبَبتُ هذا التغيير المُناخيّ المُتقلِّب. إندمَجتُ بسرعة مع زميلاتي والأساتذة بفضل امتلاكي للّغة الانكليزيّة.

وصارَ لي صديقة بين زميلاتي في الصفّ واسمها دوروثي، فاتّفقنا سريعًا حول مواضيع عديدة. هي الأخرى كانت تبحثُ عن ذاتها لكن في بلدها، على خلافي. طلَبنا مِن القيّمين أن نتشارك الغرفة نفسها، وتمَّت الموافقة ربّما بفضل والد دوروثي الذي كان ذا نفوذ. لكنّ الرجُل لَم يهتمّ يومًا بابنته الوحيدة، بل فقط بأعماله حتى بعد موت زوجته. فترَكَ المسكينة دوروثي بين يدَيّ مُربّية أولاد صارمة وباردة. وبما أنّنا كنّا وحيدتَين في تلك المؤسّسة الضخمة والقديمة، قرّرنا أن نعتبر بعضنا أخوتَين، فقطعنا قسَمًا جدّيًّا حول تلك الأخوّة ومنذ ذلك الحين لَم نعُد نفترق. ساعدَتني صديقتي بالمواد الأدبيّة وأنا في المواد العلميّة، وصعدنا المراتب في الصفّ لِدرجة أنّ الجميع أسمانا "الثنائيّ الناجح". وأعترفُ أنّ في تلك المرحلة، إستطعتُ اجتياز حزني على أمال التي باتَت ذكرى جميلة وحزينة. واعتبرَتُ وجود دوروثي في حياتي بمثابة هبة أرسلَتها لي أختي لتُخفّف مِن شوقي وأسَفي عليها.

ثمّ قمنا بقسَم آخر، وكان فكرة صديقتي، وهو ألا نُدخِل الصنف الذكوريّ إلى حياتنا، فما حاجتنا لهم؟ ألَم نكن سعيدتَين كما نحن؟ لَم أرَ مانعًا مِن ذلك، فلَم أكن مُعجبة بأحد حتى ذلك الحين.

مرَّت السنة الأولى بنجاح فائق، وقرّرتُ زيارة بلدي، فعرضتُ على دوروثي مُرافقتي، فلَم يكن لدَيها أحد تذهب إليه خلال الفرصة الصيفيّة.

أحبَّها جميع أفراد عائلتي ما عدا والدتي. ربّما هي انزعجَت مِن الحلف الذي كان قائمًا بيني وبين صديقتي البريطانيّة، واعتبرَت أنّ لا أحد يجدرُ به أن يحلّ مكان ابنتها الفقيدة. حاولتُ إفهامها أنّ لأمال مكانة خاصّة جدًّا في قلبي إلى الأبد، لكنّها بقيَت تُردّد: "لا أحبُّ الأجانب عامة وهذه الصبيّة خاصّة... عليكِ قطع علاقتكِ بها يا ابنتي".

بالطبع لَم أفعَل، ففي آخر المطاف كانت ستنتهي الفرصة الصيفيّة بعد أسابيع وسأعودُ مع دوروثي إلى حياتنا في الغربة. شعرَت صديقتي باستياء أمّي منها، لِذا صارَت تتفاداها ولا تجلسُ معها لوحدهما أبدًا وكان ذلك أفضل لِكلَيهما. ودّعتُ مُجدّدًا عائلتي الحبيبة وطرنا إلى لندن حيث كانت سنتنا الثانية بانتظارنا.

 


لكن بعد أسابيع معدودة، تعرّفتُ في إحدى الندوات على وائل، طالب شرقيّ جذّاب، وكان الإعجاب مُتبادلاً. إحترتُ في أمري، فكان مِن المُستحيل أن أُخبِر دوروثي عنه بعد القسَم الذي قُمنا به، لِذا فضّلتُ إبقاء الأمر سرّيًّا. شرحتُ لوائل الوضع وهو قبِلَ أن يبقى في الظلّ لفترة بعد أن ضحِكَ على سذاجة قسَمنا. ومنذ ذلك اليوم، بدأَتُ أكذبُ على صديقتي وأخترعُ لها الحجج كلّما نوَيتُ لقاء حبيبي. في البدء كان الأمر مُثيرًا، لكن سرعان ما ملَلتُ تلك اللعبة وقرّرتُ إطلاع دوروثي على وجود شاب في حياتي.

كانت ردّة فعلها عنيفة وتفاجأتُ بها كثيرًا. صحيح أنّني توقّعتُ أن تزعَل منّي، لكن ليس أن تشتمني وتُحطّم مُحتويات الغرفة مِن كثرة غضبها. حاولتُ تهدئتها لكنّها صرخَت بي:

 

ـ إبتعدي عنّي أيّتها الأفعى! أنتِ غشّاشة وكاذبة! لقد أقسَمنا لبعضنا ألا نُدخِلُ رجُلاً إلى حياتنا! وماذا عن قسَمنا بأن نكون أخوات؟ هل ذلك أيضًا كذبة مِن كذباتكِ؟!؟

 

ـ لقد وقعتُ في الحبّ يا دوروثي، والأمر أقوى منّي. لماذا تُريدين حرماني مِن هذا الشعور الجميل؟ عليكِ أن تفرحي لي بدلاً مِن شتمي. لو كانت أمال مكانكِ...

 

ـ تبًا لكِ ولأختكِ!

 

ـ لا أسمحُ لكِ بشتم اختي المتوفّاة! هي كانت بالفعل أختًا لي وليس مثلكِ فتاة أنانيّة ومجنونة! يا لَيتها بقيَت على قيد الحياة لَما جئتُ إلى هنا!

 

سكتَت دوروثي فجأة وقالَت لي بصوت ناعم وخافِت:

 

ـ أنا آسفة، لقد تماديتُ بشتم أختكِ... لَم يكن يجدرُ بي قول تلك الكلمات الجارحة. طبعي حادّ أحيانًا لكنّ ظروف حياتي هي التي جعلَتني هكذا.

 

وغمرَتني باكية وأنا سامحتُها. وأنتم لو كنتم مكاني لسامحتموها أيضًا.

لَم نُعد صديقتَين كالسابق بعد تلك المُشاجرة فقد تركَت دوروثي الغرفة لتستقرّ في أخرى مع طالبة غيري . مِن جهتي، أدركتُ أنّ لا أحد يُمكنه أن يحلّ مكان أمال وأنّها أختي الوحيدة إلى الأبد. شاركتُ شعوري هذا مع حبيبي وائل، مُضيفة أنّني بالفعل اشتقتُ لأمال وكَم أتمنّى أن تكون موجودة إلى جانبي.

بعد أيّام، عادَ إليّ وائل بخبَر غريب عجيب: كانت هناك صبيّة في الجامعة تستطيع التواصل مع الموتى، وسألَني إن كنتُ أودّ أن توصلَني بأمال. إحترتُ لأمري، فلَم أكن أصدّقُ تلك الأمور التي هي مُنافية لكلّ الأديان السماويّة، لكنّني كنتُ بحاجة للاطمئنان عليها أو الاشتكاء لها ممّا حصَلَ لي مِن ضياع بعد موتها. لِذا قبِلتُ بالعرض، فما كان الضرَر منه؟

شرحتُ لتلك الصبيّة التي اسمها مارغريت ظروف موت أمال ونبذة عن شخصيّتها، وكَم أنا تألَّمتُ وأتألّم مِن جرّاء فقدانها، وأعربتُ لها عن رغبتي بمعرفة كيف وأين هي وإن كان بالإمكان أن أقول لها كَم أحبّها. هزَّت مارغريت برأسها حين انتهَيتُ مِن الكلام وأجابَت: "ليس هناك مِن مُشكلة". وإنتظرتُ بفارغ الصبر موعد "الجلسة" التي كانت ستُقام في غرفة وائل وبحضوره، فهو أصرَّ أن يكون موجودًا ليدعَمَني. كان ذلك الشاب بالفعل يُحبُّني ويخافُ عليّ، وشكرتُ ربّي، أو أمال، لإرساله لي.

لكن في الليلة التي سبقَت موعد "الجلسة"، رأيتُ أختي المتوفّاة في حلم أزعجَني: كانت أمال غاضبة وتدفشُ بقوّة وائل حتى أنّه سقطَ عن سلالم الجامعة ومات. إستفقتُ مرعوبة إلا أنّني رددتُ الأمر إلى توتّري قبل ما كان سيُقام في الليلة التالية.

 


جلستُ ومارغريت ووائل حول طاولة مُستديرة وأمسكنا بأيدي بعضنا بعد أن أُطفِئ النور وأُضيئَت الشموع. كانت هناك رائحة بخور وشعرتُ بجدّيّة الجلسة. ثمّ بدأَت الصبيّة تُتمتمُ كلمات بلغة غير معروفة وصرخَت فجأة:

 

- أمال يا أمال! إظهري لنا! أختكِ هنا وتُريدُ الاطمئنان عليكِ! هيّا نحن بانتظاركِ! أين أنتِ يا أمال!؟!

 

وفي اللحظة نفسها سمعنا طرقًا على الباب. لَم يكن طرقًا عاديًّا بل قويًّا وكأنّ أحدًا يُريدُ اقتحام الغرفة. خفتُ كثيرًا لكنّ وائل شدَّ على يدي ليُطمئنَني فهدأتُ قليلاً. تابعَت مارغريت مُناداتها لأختي إلى أن سمعنا خدشًا على الباب... وتحرّكَت المسكة ودخَلَ ضوء مِن الرواق. كادَ قلبي أن يتوقّف مِن الرعب لكنّني تمالكتُ نفسي. وإذ بي أرى خيال صبيّة عند الباب مُحاطًا بهالة مِن النور. يا إلهي! هل جاءَت أمال بنفسها مِن القبر؟!؟ لَم أعلَم ما حصَلَ لاحقًا لأنّه أُغميَ عليّ، لكنّني سمعتُ صوتًا يقول لي:

 

- عودي إلى البلَد... عودي إلى أهلنا، فهناك مكانكِ يا أختي

 

وعندما إستفقتُ كنتُ على سرير غرفتي ووائل مُمسكًا بيَدي. كان وجهه مشدودًا وفي عَينَيه نظرة لَم أستطع تفسيرها. فصرختُ له:

 

- أرأيتَ ما رأيتُه؟!؟ إنّها أمال! وتُريدُني أن أرحل مِن هنا! ساعدني في توضيب أمتعتي، هيّا.

 

إلّا أنّني عدتُ إلى النوم سريعًا لأستفيق بعد ساعات طويلة. كان حبيبي غير موجود، فهو رحَلَ حتمًا لمُتابعة حصصه.

بدأتُ أجمَع أغراضي مِن الغرفة، واتّصلتُ بمكتب شؤون الطلّاب لأخذ موعد مع المسؤولة واطلاعها على قراري بترك الجامعة... حين انتبَهتُ لأمرَين: لماذا كلّمَتني أمال بالإنكليزيّة قبل أن أفقد وعيي؟ كان يجدرُ بها أن تُكلّمني بِلغتنا. وحتى ولو فعلَت، كانت ستكون لها لكنة شرقيّة فهي لَم تكن تُجيد الإنكليزيّة مثلي. والأمر الثاني هو أنّ خيال أمال في الباب كان أصغر حجمًا مِن حجم أختي التي كانت طويلة القامة. إذًا ما الذي حصل حقًّا؟ هل كانت تلك لُعبة؟ لكن ما هدفها؟

رحتُ أنتظرُ وائل خارج صفّه، فهو الذي دلَّني على مارغريت. وحين سألتُه مئة سؤال حول الموضوع وواجهتُه بما لاحظتُه، تلبّكَ بشكل ملحوظ. أجبرتُه على الإجابة فقال لي:

 

- أنا غريب هنا... وهناك أمور عليّ فعلها كي أندمِج في المجموعة.

 

نظرتُ إليه بدهشة وصرختُ فيه:

 

- أُريدُ اسمًا! هيّا!

 

نظَرَ وائل حوله وهمَسَ لي: "دوروثي" ثمّ اختفى بسرعة.

هكذا إذًا... تُريدُني صديقتي القديمة أن أرحَل وكدتُ أن أقَع في فخّها. كانت أختي أمال قد حذّرَتني قبل ليلة مِن الجلسة أثناء نومي مِن وائل الخائن. لا، لن يلعب أحدٌ بعقلي أو يتخلّص منّي بسهولة!

أعدتُ أمتعتي إلى مكانها ثمّ رحتُ أدقّ على باب غرفة دوروثي التي كانت تُشاركها مع... مارغريت! تفاجأتُ بوجودهما معًا، فلَم أكن على علم بذلك، لكنّني قلتُ لهما:

 

- أنا إنسانة موضوعيّة ومؤمنة... لِذا سأتركُ عالم الأرواح والمكر لكما وأُتابعُ بسلام دراستي لأنال شهادتي وأبرعُ باختصاصي. أختي هي مع الله الذي يقرأ القلوب والعقول ويتصرّف معنا مِن هذا المُنطلَق. قلبي وعقلي نظيفان وضميري مُرتاح، على خلافكما... فتحضّرا لِنَيل عقابكما.

 

نظرتا إليّ بمزيج مِن الدهشة والخوف وابتسمتُ في سرّي. وبالطبع قطعتُ علاقتي بوائل الجبان فهو لَم يكن يستحقّ حبّي وثقتي.

درستُ كالمجنونة وحصدتُ أعلى العلامات وتخرّجتُ بدرجة ممتاز. بعد ذلك، عدتُ إلى بلَدي وأهلي واصحابي لأعيشَ بينهم وأنعَم بحبّهم. ومع الوقت، شوقي وحزني على أمال تحوّلا إلى شعور هادئ وقبول بمشيئة الله. لكنّني أعلَم أنّها، بطريقة أو بأخرى، تسهرُ عليّ مِن حيث هي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button