جريمة من أجل المال (الجزء الثاني)

بدأَت حياتي كسيّدة مُجتمع وأحببتُ الأمر. صحيح أنّني لَم أكن بالأصل فقيرة، إلّا أنّني وُلِدتُ ونشأتُ في عائلة متوسّطة الدخل أي بعيدة عن الاجتماعيّات الراقية. علّمَني عادل ما لَم أكن أعرفه بخصوص آداب المُجتمع، بينما اهتمَّت صبيّة بالتنظيف وسيّدة أخرى بتحضير الطعام. حياة حسَدَني عليها الكثيرون... هذا قبل أن تبدأ الأحداث. فما لَم أكن أعلمه، هو أنّ نور، عاملة التنظيف، كانت تتلقّى أجرًا خاصًّا مِن ميرفت، إبنة زوجي، لإبقاء عَين عليّ وإطلاعها على كلّ صغيرة وكبيرة.

لقد أحببتُ نور لأنّها كانت صغيرة السنّ ومِن عائلة أرسلَت بناتها إمّا للزواج أو العمل لتستطيع تخفيف الوطأة عليها وكسب بعض المال. لِذا كنتُ أحميها دائمًا مِن سخط دنيا الطبّاخة التي كانت أكبر سنًّا وتصبّ دائمًا غضبها على المسكينة. في ذلك الوقت، وثقتُ بالناس حسب مظهرهم، وكنتُ مُخطئة.

بقيَ زوجي يذهبُ إلى أعماله فهو لَم يكن مِن النوع الكسول، الأمر الذي أبقاه شابًّا بالرغم مِن سنّه.

أمّا بالنسبة لحَملي، فكانت الأمور تجري كما يجب وبدأتُ أُجهّز غرفة جميلة للجنين حين يولَد. ضحكتُ بسرّي فقد كان صغيري سيحظى بحياة جميلة ولن يشغل باله بأمر جني المال أو تحصيل العلم. شكرتُ ربّي على ذلك وتمنَّيتُ أن تسير حياتنا جميعًا على أفضل حال.

لكن في إحدى الليالي، إستيقظتُ على ألَم حاد في بطني دفعَني إلى الصراخ عاليًا. خافَ عادل كثيرًا وأسرعَ بنقلي إلى المشفى. طوال الطريق بقيتُ أُردّدُ: "الجنين! الجنين! قلّ لهم إنّني حامل! الجنين!".

لَم يعلَم الأطبّاء بالتحديد السبب وراء فقداني جنيني، فأبقوني ثلاثة أيّام في المشفى للمعالجة مِن الذي أسموه "إحتمال تسمّم غذائي أو حساسيّة أو قضاء وقدر". لَم يُعجِب ذلك التشخيص زوجي الذي صرَخَ بهم عاليًا ونعتَهم بالجهلة.

عدتُ إلى البيت مكسورة وفي قلبي حزن لا مثيل له. أعطوني أقراصًا لمعالجة الإكتئاب وحضنَني عادل وكلّ طاقم البيت. حتى أهلي لَم يستطيعوا الترفيه عني بعد أن فقدتُ بهجتي.

بكيتُ جنيني الذي لَم يبقَ في أحشائي سوى شهرَين، ثمّ استوعبتُ أنّ هكذا أمورًا تحدثُ لسيّدات عديدات في العالم وأنّ عليّ طَي تلك الصفحة الأليمة، على الأقل مِن أجل زوجي، والمحاولة مُجدّدًا.

 


إلا أنّني لاحظتُ تغيّرًا ملحوظًا في تصرّفات نور التي كانت دائمة الفرح وتُساعدُني في كلّ شيء. فهي أصبحَت وكأنّها تتفاداني أو بالتحديد تخافُني، مع أنّني لَم أوجِّه لها يومًا أي مُلاحظة قاسية، بل العكس. سمعتُها في أحد الأيّام تبكي في المطبخ وداليا تقولُ لها:

 

ـ عليكِ الرحيل... إحمدي ربّكِ أنّني إنسانة عاقلة أو لكنت ذبحتُكِ بهذا السكين!

 

ـ قد أستحقُّ فعلًا الذَبح... يا إلهي...

 

ـ بكاؤكِ لن يجدي، صدّقيني، عليكِ التصرّف.

 

لَم أفهَم معنى ذلك الحديث الغريب العجيب، وزادَ امتعاضي مِن الطبّاخة التي لَم تفوّت فرصة للتنمّر على نور.

تكلَّمتُ وعادل عن إنجاب طفل بأسرع وقت، وهو وافقَ بعد أن تأكّد مِن أنّ ذلك هو فعلًا ما أُريدُه. لِذا، حين كانت نور توضّبُ الغرفة التي أعدّدتُها لجنيني المسكين، طلبتُ منها ترك كلّ الأغراض مكانها لأنّها ستكون لجنيني القادم باذن الله. عندها صرَخَت الصبيّة:

 

ـ لا! لا تُحاولي مُجدّدًا سيّدتي!

 

ـ ولِما لا؟ لا أزال شابّة يا نور. ولماذا هذا الهلَع؟ ما حصَلَ لي لا يعني أنّه سيحصل مرّة أخرى.

 

ـ أرجوكِ سيّدتي، أرجوكِ! فلَن تتحمّلي فقدان جنين آخر.

 

ـ لقد قال الأطبّاء...

 

ـ الأطبّاء لا يعرفون شيئًا وإلا...

 

ـ وإلا ماذا؟ ما الأمر يا نور؟ ما هذا القلَق المُبالَغ به؟

 

ـ أحبُّكِ كثيرًا سيّدتي ولا أُريدُ أن أراكِ حزينة مرّة أخرى.

 

ـ لا تُبالي، فأنا أؤمِن بمشيئة الله.

 

ـ سيّدتي... هل أنّ الله مُسامح ورحوم؟

 

ـ بالطبع يا نور، هذا إن كان المرء فعلًا نادمًا على أفعاله ومُصمّمًا على عدَم ارتكاب الرذيلة، فالله يعلمُ ما في القلوب ولا نستطيع غشّه ببضع كلمات صلاة أو وعود عابرة وكاذبة.

 

ـ حتى لو ارتكَبَ أحدٌ جريمة؟

 

ـ جريمة؟!؟ لستُ أدري يا نور. لماذا تسألين عن الجرائم؟

 

ـ مِن دون سبب... أخذتُ الجريمة كسبب أقصى لطلَب الغفران.

 


إستغربتُ طبعًا كلام الصبيّة، إلا أنّني لَم أتصوّر أبدًا أنّها قصدَت أي شيء يخصُّني.

بعد يومَين على التمام، وبينما كان عادل مُسافرًا بداعي العمل، نزلتُ المطبخ لأتفقّد كعادتي سَير تحضير الوجبات، فقالَت لي دنيا:

 

ـ سيّدتي... عليكِ طَرد نور وعلى الفور!

 

ـ إسمعي يا دنيا، أنا أحبُّكِ كثيرًا وأُقدّرُ عملكِ لكنّ الأمر عائدٌ إليّ وإلى السيّد عادل... إلى جانب ذلك، لا أُحبُّ الطريقة التي تتعاملين بها مع هذه المسكينة، فهي أصغر منكِ سنًّا وعليكِ احتضانها وتوجيهها وليس التنمّر عليها وإقناعي بالتخلّص منها!

 

ـ أنا لا أريدُ التخلّص منها بل أن أخلصّكِ أنتِ منها.

 

ـ لستُ مُنزعجة منها بتاتًا يا دنيا، بل العكس.

 

ـ على الأقل كفّي عن شرب شاي الأعشاب الذي تجلبُه هي لكِ في كلّ مساء!

 

ـ ماذا؟!؟ ما دخل ذلك في أداء نور؟ هل أصابكِ الخَرَف؟!؟"

 

وفي تلك اللحظة بالذات دخلَت نور المطبخ وصَرَخَت بدنيا:

 

ـ لماذا قلتِ لها عن الشاي؟!؟ لقد صمَّمتُ بنفسي عدَم إعطائه لها! لقد وثقتُ بكِ!"

وأجابَتها دنيا بعنف:

 

ـ إخرسي أيّتها القاتلة! كان يجدرُ بي حقًّا ذبحكِ! فمِن حيث آتي، هكذا يُعامَل القتلة!

 

حاولتُ تهدئة المرأتَين واستيعاب معنى حديثهما حين ركعَت نور أمامي صارخة:

 

ـ إن كان على أحد ذبحي فليكن أنتِ يا سيّدتي! أقسمُ لكِ بأغلى ما لدَيّ أنّني كنتُ أجهلُ ما هو مفعول تلك الأعشاب! ظننتُها ستحملكِ على الغثيان فقط.

 

ـ أي أعشاب؟ ما الذي تتكلّمين عنه؟ ولماذا تُعطيني ما يُسبّب لي الغثيان؟ ما الذي فعلتُه لكِ كي تُعامليني هكذا؟

 

ـ لستُ مَن قرَّرَ ذلك بل السيّدة ميرفَت.

 

وأخبرَتني نور باكيّةً أنّ إبنة زوجي أعطَتها مالًا لتُخبرُها عن كلّ الذي يجري في البيت، ثمّ كيسًا صغيرًا لتصبّ منه يوميًّا في الشاي الخاص بي. عندها فقط فهمتُ ما جرى. تماسكتُ كي لا أصفَع تلك الحمقاء الباكية التي قتلَت، ولو مِن دون أن تدري، جنيني البريء. طلبتُ منها إعطائي كيس الأعشاب وحملتُه على الفور إلى الصيدليّة لفحصه. كان جسمي يرتجفُ مِن الغضب والإستنكار، فلو تبيّنَ أنّ ما في الكيس هو فعلًا ما أجهضَني، فذلك يعني أنّ ميرفَت خطّطَت لقتل جنيني وذلك كي لا يكبر ليرِث يومًا أباه. هل هناك أفظَع مِن ذلك؟!؟ أرسَلَ الصيدليانيّ محتوى الكيس إلى المُختبر بعد أن طلبتُ منه السرّيّة المُطلقة، وأنتظرتُ النتيجة.

عادَ عادل مِن السفر بعد أن أخبرَني الصيدليانيّ أنّ ما في الكيس هو مجموعة أعشاب غير مُضرّة إلّا إن كانت مَن ستشربها حاملًا. ثمّ نظَرَ إليّ وقال: "ألَم تُجهضي جنينكِ مؤخّرًا سيّدتي؟". لَم أجِبه بل أخذتُ الكيس ورحلتُ صامتة.

أخبرتُ زوجي على الفور بكلّ ما علِمتُه وهو استدعى نور وسألَها مئة سؤال. ثمّ سكَتَ مطوّلًا وقال: "دعي الأمر لي". بعد دقائق، أخَذَ هاتفه وطلَبَ مُحاميه واتّفقَ معه على موعد.

علِمتُ لاحقًا أنّ عادل كتَبَ باسمي جميع ممتلكاته، وترَكَ لولدَيه مبلغًا زهيدًا لتبقى العمليّة قانونيّة. ثمّ أسرَعَ بإطلاعهما على ما فعلَه كي تكفّ ميرفَت وأخوها، الذي كان حتمًا شريكها في التخطيط، عن مُحاولة أذيّتي. فهكذا لَم يعد لهما سبب لإزاحتي مِن دربهما. إضافةً إلى ذلك، هدَّد عادل إبنته بفَضح ما فعلَته وإرسالها مع أخيها إلى السجن.

إستغنَينا عن خدمات نور خوفًا مِن أن تُغريها ميرفَت مُجدّدًا، وأبقَيتُ دنيا التي بفضلها علِمتُ الحقيقة، فمَن يدري، قد تكون ميرفَت قرّرَت في المرّة القادمة قتلي بدلًا مِن محاولة قتل ذريّتي.

لزِمَني وقت طويل لاستيعاب ما حصَلَ لكثرة فظاعته، وتوقّفتُ عن محاولة الإنجاب مدّة سنتَين مِن شدّة خوفي وعدَم شعوري بالأمان.

أعطاني الله توأمًا وكأنّه بذلك يُعوّضُ لي عن خسارتي، وكنتُ وعادل أسعد شخصَين في الكون! فهذان الصغيران، صبيّ وبنت، كانا بشكل مِن الأشكال البديلَين عن ميرفَت وأخيها بالنسبة لزوجي، ووعدتُه بتربيتهما على حبّ الناس وليس مالهم.

عاشَ عادل حتى أن بلَغَ التوأمان سنّ الرابعة عشرة وبكيتُه كثيرًا، فهو كان بالفعل حبّ حياتي والرجل الذي تتمنّاه كلّ إمرأة. لَم تحضُر ميرَفت أو أخوها مراسم الدفن ولَم أستغرِب الأمر، فبعد أن كتَب لي عادل كلّ شيء لَم نسمَع أيّ خبر عنهما، فهما لَم يعودا مضطرَّين للتمثيل وادّعاء الحبّ لأبيهما.

كيف لأحد أن يقتل جنينًا عمدًا؟ كيف لأحد أن يؤذي بذرة حياة هشّة لا تُريد سوى العَيش لتصبح إنسانًا ذا طموح وآمال وإحساس؟ كَم أنّ الشرّ رهيب! فهو لا يعرفُ سوى الطمَع والأنانيّة والمنفعة. إحمِنا منه يا رب!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button