جريمة من أجل المال (الجزء الأول)

وجدتُ نفسي في دوّامة لَم أطلب التواجد فيها، فآخر ما تصوّرتُه هو أن يكون زواجي من عادل قد أجَّجَ الطمَع والحقد إلى هذه الدرجة. المشكلة كانت أنّ الرجل الذي ربطتُّ حياتي به كان فاحش الثراء... ويكبرُني بأربعين سنة. قد يقول البعض، لا بل الأغلبيّة، إنّني تزوّجتُه بسبب ماله لكنّ الحقيقة مُخالفة تمامًا. فحين التقَيتُ بعادل، ولمدّة لا بأس بها، لَم أعلَم شيئًا عن الذي يملكه. فذلك الرجل لَم يكن غبيًّا ويعلمُ تمامًا أنّه مُحاط بالطامعين وآخر ما كان يريدُه هو أن يقضي باقي حياته مع إنسانة لا ترى فيه سوى حساباته المصرفيّة. لِذا، إدّعى عادل بأنّه انسان عاديّ وأنا صدّقتُه.

إلتقَيتُ بعادل لأوّل مرّة أمام منزله الفخم. كنتُ أُزاول هواية المشي في حيّ هادئ إخترتُه لقلّة مرور السيّارات فيه. كان عادل يخرجُ مِن منزله في الوقت نفسه وحصَلَ أن رآني مارّة لعدّة مرّات وأُعجِبَ بي. لِذا، في أحد الأيّام، إستقلَّ سيّارة السائق، أي مركبة عاديّة، وخرَجَ بها مِن البوابة الحديديّة التي تحيطُ بالمنزل والحديقة وتوقّفَ بالقرب منّي ليسألَني عن هواية المشي التي أرادَ هو ممارستها. أجبتُه عن أسئلته بلطف لأنّه كان مُهذّبًا... وجذّابًا بالرغم مِن سنّه، فهو كان آنذاك في السبعين مِن عمره. فهناك رجال لا يشيخون كغيرهم بسبب جيناتهم وربما طريقة حياتهم الصحّيّة... والثريّة. أخبرَني عادل بأنّه مسؤول عن حديقة ذلك المنزل الكبير ويأتي كلّ صباح ليتفحّص المكان ويتفقّد نظام الرَيّ.

وبدأَ عادل يمرُّ يوميًّا بالقرب منّي ويُلقي عليّ السلام إلى أن طلَبَ منّي مرّةً الإذن بمرافقتي في هوايتي. قبلتُ بسرور، فهو كان إنسانًا خفيف الظلّ ولائقًا.

وهكذا صرنا نتبادل الكلام أثناء مشينا، فأخبرتُه أنّني موظّفة في شركة إستيراد وتصدير وأعيشُ وحدي مع والدَيّ بعد أن تزوّجَ كلّ أولاد العائلة، أيّ أنّ لدَيّ حياة هادئة وطبيعيّة. سألَني عادل إن كان لي حبيب، فأجبتُه أنّه حصَل أن خُطِبتُ لشاب لكنّ الزيجة لَم تتمّ بسبب اكتشافي لعلاقاته مع نساء أخريات.

 


بعد حوالي الشهر، عرَضَ عليّ عادل أن نذهب لتناول القهوة سويًّا في أحد المقاهي ووافقتُ بسرور. في ذلك الحين، كنتُ أكنّ له مودّة لا تمتُّ للحبّ بصلة، ربمّا بسبب سنّه، إلا أنّني بقيتُ أجده جذّابًا. وأذكرُ أنّني قلتُ لنفسي أثناء جلوسنا في المقهى: "يا لَيته أصغر سنًّا!". في ذلك اليوم، قال لي صديقي إنّه أرمل وله ولدان مُتزوّجان، إبنة وإبن لكنّ علاقته بهما ليست جيّدة إذ لا يسألان عنه إلا عندما يحتاجان إليه. رأيتُ الحزن في عَينَيه فشاطرتُه حزنه. كيف لرجل مثله ألا يكون مُحاطًا بأقرب الناس إليه؟ أمسكتُ بيده ونظَرنا في عينَي بعضنا، وفي تلك اللحظة أحبَبتُه.

بعد أكثر مِن ثلاثة أشهر، طلَبَ عادل الزواج منّي، بعد أن سألَ عنّي وحصَلَ على أخبار تُشيدُ بأخلاقي وسيرتي الطيّبة. إحترتُ لأمري، ففارق السنّ كان شاسعًا وخفتُ على مستقبلي معه، خاصّة بعدما قال لي إنّه يُعاني مِن مشاكل في القلب. ماذا لو تفاقَمَ مرضه؟ كيف لنا أن نأتي بمصاريف علاجه التي كانت حتمًا باهظة؟ ماذا لو ماتَ وتركَني لوحدي مع الأولاد الذين كنّا سنُنجبُهم؟ خجلتُ مِن إطلاعه على مخاوفي فاكتَفيتُ بالرفض إلا أنّه قرأَ أفكاري فقال لي:

 

ـ حبيبتي... أجل أنتِ حبيبتي، فبفضلكِ صرتُ أحبُّ أن أستفيق صباحًا لأرى وجهكِ الجميل. لقد أمضيتُ حياتي أعمل مِن أجل ولدَين لَم يُحبّاني يومًا وأسرعا بتركي فور موت أمّهما. لا أراهما سوى عندما تفرغ جيوبهما، وأعلَم أنّهما ينتظران بفارغ الصبر أن أموت بدوري ليَرثاني.

 

ـ ليَرثا ماذا؟ فأنت لستَ غنيًّا.

 

ـ بلى.

 

ـ ماذا تقصد؟ لقد أضعتَني.

 

ـ المنزل الذي أخرجُ منه يوميًّا لمُلاقاتكِ هو لي. دعيني أكمل مِن فضلكِ. لدَيَّ المال الكافي لتجنيد فرقة ممرّضين وحتى لإقامة مشفى في بيتي لو حصَلَ أن ساءَت حالتي الصحّيّة، فلا داعٍ لأن يُقلقكِ فارق السنّ بيننا. ليس مطلوبًا منكِ سوى أنّ تُحبّيني وأن تبقَي كما عرفتُكِ، أيّ إنسانة رائعة.

 

ـ لقد كذبتَ عليّ يا عادل.

 

ـ ولدَيّ أسبابي، فلَم أكن لأعرِف إن كنتِ تُحبّيني أنا أم مالي لو لَم أخفِ عنكِ حقيقة وضعي. سامحيني أرجوكِ.

 

أخذتُ بعض الوقت لأُفكّر بالمعطيات الجديدة، وخفتُ أن يكون نمَط حياة عادل غير مناسب لي. ففي آخر المطاف، كنتُ فتاة بسيطة ومُعتادة على حياة بسيطة.

 


عدتُ وقبلتُ بالزواج مِن عادل لأنّني أحببتُه حقًّا. فرِحَ أهلي لدرجة لَم أتصوّرها مُمكنة ونشروا الخبَر بين الجيران والأصدقاء: كانت إبنتهم ستتزوّج مِن رجل ثريّ!

أخذَني عادل إلى منزله الذي كان أشبه بالقصر وأحببتُ الحديقة العملاقة للغاية. داخل الفيّلا كان مفروشًا بذوق رفيع ويتّسع لعائلات عديدة. رأيتُ صوَر ولدَيه وعائلتهما وعادَ الحزن إلى عينَي حبيبي. مِن جانبي، خجلتُ قليلاً مِن المكان الذي سأعيشُ فيه، فالفرق بينه وبين مسكني كان شاسعًا!

خطّطَ عريسي لعرس فخم يدعو إليه كلّ معارفه ومعارفي، وخفتُ أن يظهر الفارق الإجتماعيّ بيننا لِذا طلبتُ مِن أهلي أن يبدوا بأفضل ما يمكن لتجنّب السخرية، خاصّة مِن قِبَل ولدَيّ عادل اللذَين سيحضران الفرَح بعدما حاولا مَنع أباهما مِن الزواج مُجدّدًا كي لا يخسرا شيئًا مِن ماله وأملاكه.

وقبل عقد القران بيومَين، جاءَني اتّصال مِن ميرفَت، إبنة عادل:

 

ـ أيّتها الساقطة! لقد ألقَيتِ بشباككِ على عجوز وحيد!

 

ـ ربمّا هو وحيد لأنّكِ وأخاكِ لا تسألان عنه. وأمنعُكِ مِن استعمال ألفاظ لا تليقُ إلا بكِ!

 

ـ ستندمين كثيرًا لو مضَيتِ بهذه الزيجة! أعدُكِ بذلك!

 

ـ لا تتّصلي بي مُجدّدًا وإلا اشتكَيتُكِ لدى الشرطة!

 

عندما أقفلتُ الخطّ بدأتُ بالإرتجاف، إلا أنّني كنتُ ممنونة مِن نفسي على شجاعتي وإيجادي الكلمات المُناسبة، فعادةً أفضّل السكوت على المواجهة. لَم أكن أعلَم إن كان عليّ إخبار خطيبي بما قالَته إبنته، فاخترتُ التكلّم ليتصرّف وتتركني تلك المرأة وشأني، فأنا كانت أمامي سنوات أقضيها مع عادل ولا يجوز أن يُعكّر أحدٌ صفو حبّنا. إستاءَ حبيبي كثيرًا وقدَّمَ لي اعتذاره نيابة عن ميرفَت وأكَّدَ لي أنّ الأمر لن يتكّرر ثانية. صدّقتُه وتمنَّيتُ أن يأتي يوم ويعرف ولداه أنّني إنسانة خلوقة غير مُهتمّة بوضع يدي على مال أحد.

في الليلة التي سبَقَت الزفاف رأيتُ حلمًا مُزعجًا للغاية: كانت مِيرفَت تُعذّبني بواسطة رمح وتضحكُ لصرخاتي. إستفقتُ مذعورة وبقيتُ صاحية حتى الفجر. لا يجب على أيّ عروس أن ترى كوابيس قبل ساعات مِن زفافها، لكنّ الظروف هي التي فرضَت ذلك عليّ وكان مِن الواضح أنّني قلقة للغاية مِن وجود نقمة مُسبقة عليّ.

أثناء الزفاف لَم تقترِب ميرفَت أو أخوها منّي، ولَم أتلقَّ تهانيهما بل بقيا مع أولادهما بعيدًا ليُفهماني أنّهما غير راضيَين عنّي. لكنّ عريسي عوّضَ عليّ باهتمامه ومعانقاته العديدة لي وكلامه الجميل. ليلتنا كانت رائعة بالرغم مِن مخاوفي، فقد كان عادل بمنتهى الرقة معي. ونسيتُ ولدَيه واختفَت مِن بالي ذكرى ذلك الكابوس المُزعج. كنتُ زوجة سعيدة.

سافَرنا في الصباح إلى باريس حيث قضَينا أسبوعَين رائعَين. كنتُ أُجيدُ اللغة الفرنسيّة، الأمر الذي أذهَلَ عادل وسهَّلَ الأمور عليّ للتواصل مع الفرنسيّين. عدنا والبسمة على وجهنا مُستعدَّين لعَيش حياة سعيدة.

وبعد أقلّ مِن شهر على زواجنا، إكتشفتُ أنّني حامل. لن أقدر على وصف فرحة زوجي، فهو رأى في جنيننا فرصة لأن يكون ولو أحد أولاده حقًّا جديرًا بأن يحمل إسمه. مِن جهتي، قلقتُ بعض الشيء بسبب سنّ عادل. فالطفل الذي سيولَد لن يتمتّع طويلاً بأبيه، أو على الأقل لن يتمكّن مِن التواصل معه كما يجب بسبب فارق الأجيال. لكنّني عدتُ ونسيتُ الأمر، فما كان يهمّ هو أن يولَد الجنين بصحّة جيّدة وتركتُ الباقي على الله فهو الأدرى بمصلحتنا.

خبَر حَملي أغضَبَ ولدَي عادل، فلَم يكن يكفيهما أنّني سأتقاسم معهما الإرث يومًا، بل كان ولد آخر على الطريق! كيف لأيّ انسان أن يكون بهذا الطمع وفقدان الضمير، لستُ أدري. هل لطالما كان هذان الشخصان حاقدَين هكذا، أم أنّ الأيّام حوّلتهما إلى وحشَين ضاريَين؟ لا أملكُ الجواب لكنّني لَم أتوقّع أبدًا ما حصَلَ بعد ذلك.

 

يتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button