جدّتي الحاقدة

لو سألَني أحد مَن أكرَه الأكثر في العالم لأجَبتُه: "جدّتي". قد تجدون الأمر غريبًا ومُبالغًا به، إذ أنّ الجدّة هي عادة ملجأ لأحفادها ومصدر حنان لهم. لكنّ سامية كانت الشرّ بحدّ ذاته، ولا تعرفُ الحنان لا مِن قريب ولا مِن بعيد. حاولتُ إيجاد أعذار لها بعدما كبرتُ، أعني مِن الناحية النفسيّة، فقط لأستطيع التغلّب على ما عانَيتُ منها، لكنّ تلك المرأة لَم يكن لها أيّ عذر. لن أُطيل الشرح بل سأروي لكم الآن قصّتي مع جدّتي.

شاءَت الظروف، وما أقصاها أحيانًا، أن يموت والدي ومِن بعده والدتي. الأوّل في حادث سَير والثانية مِن جرّاء مرض عضال كان قد تفشّى فيها بصمت. وبما أنّني لَم أكن سوى صبيٍّ صغيرٍ غير قادر على الإهتمام بنفسه، أُوكِلَت مهام رعايتي وتربيتي إلى الجدّة الوحيدة المُتبقيّة لي: سامية، والدة أبي.

لَم أكن أعرفُ جدّتي جيّدًا إذ أنّها لَم تزُرنا إلا نادرًا بسبب عداوتها لأمّي، فهي لَم تكن مُمتنّة مِن زواج إبنها منها فقط لأنّها لَم تختَرها له بنفسها. هكذا كانت تلك المرأة، تحبُّ السيطرة على مصير غيرها وإلا حقدَت عليه إلى الأبد.

كنتُ في الخامسة مِن عمري، ووصلتُ بيتها بعد أن أرسلَت لي سيّارة أجرة أخذَتني مِن شقّة جيراننا. حتى أنّها لَم تتكبّد عناء اصطحابي بنفسها، فلماذا تفعل؟

كان الطقس باردًا للغاية والمطر يهطلُ بغزارة، ووقفتُ وحقيبتي دقائق طويلة أمام باب بيتها حتى شاءَت أخيرًا أن تفتحَ لي. أدخلَتني مِن دون أن تُلقي عليّ التحيّة وكأنّها مُنزعجة مِن وجودي، وأرَتني في الحال غرفتي وأطلعَتني على قواعد البيت التي عليّ اتّباعها تحت طائلة العقاب. ثمّ رحنا المطبخ وأطعمَتني أكلاً باردًا وأمرَتني بالإستحمام والنّوم على الفور. نمتُ وحيدًا في سرير بارد في غرفة مِن دون تدفئة وبكيتُ كثيرًا. وسط الليل، شعرتُ بالحاجة إلى الذهاب إلى الحمّام، إلا أنّ جدّتي كانت قد منعَتني مِن القيام مِن السرير ليلاً، لِذا بلَلتُ فراشي. كنتُ صغيرًا ولا أُجيدُ تحميل جسدي ضغطًا كهذا. في الصباح، رأَت سامية ما حصَلَ، فذهبَت وعادَت ومعها قضيب طويل مِن الخَيرزان وضرَبَتي به صارخة: "أيّها القذر! سأُعلّمُكَ النظافة! الحقّ يقَع على تلك الساقطة التي ولدَتكَ!". بكيتُ وتوسَّلتُ حتى توقّفَت أخيرًا عن إيذائي. ثمّ أعطَتني وعاءً لأقضي حاجتي فيه ليلاً عليّ إفراغه وتنظيفه صباحًا، وكلّ ذلك كي تشعر سامية بوجودي في بيتها أقلّ قدر مُمكن.

مِن الجيّد أنّني بقيتُ أذهبُ إلى المدرسة نفسها حيث هم رفاقي ومُدرّساتي، وإلا لكان مصيري بائسًا كلّيًّا. وكنتُ أعودُ إلى بيت جدّتي والهمّ يأكلُني، لا أعرفُ أيّ قانون جديد سيصدرُ بحقّي أو عقاب على شيء فعلتُه مِن دون أن أدري. فقد كان شغل سامية الشاغل التفنّن بالإنتقام مِمّا فعلَه غيري لها، لأنّني كنتُ مخلوقًا صغيرًا وضعيفًا.

 


قضيتُ وقتي في غرفتي، فلَم يكن مسموحًا لي بمُغادرتها سوى للأكل في المطبخ أو للإستحمام. شعرتُ بوحدة لا توصَف ملأتُها بأحلام إبتكرتُها لأوهِمَ نفسي بأنّني أعيشُ في مكان آخر ومع أناس آخرين. لَم تجِلبَ لي جدّتي كتبًا أو ألعابًا ولَم يكن هناك حتى تلفاز أتسلّى به.

وبالطبع أثَّرَ نمَط حياتي هذا على علاقتي بالآخرين في المدرسة، إذ صرتُ دائم الحزن والإنعزال، لكنّني بقيتُ أُتابعُ الشرح وأقومُ بواجباتي المدرسيّة كما يجب.

لَم يكن يزورُ سامية أحد سوى مَن كان يُشبهُها، وكانوا يجلسون معها ويتحدّثون سويًّا عن "المُصيبة"، أيّ عنّي. كنتُ أسمعُهم وأنا مُختبئ وراء الحائط وأشعرُ بخوف شديد مِن الأفكار التي كانوا يتبادلونها بشأني.

في تلك الفترة، حقَدتُ بقوّة على والدَيّ لموتهما المُبكّر، واعتبرتُ أنّهما فعَلا ذلك عن قصد أو بسبب إهمالهما لي. كان لا بدّ لي أن أجِدَ مَن أُلقي اللوم عليه وإلا فقدتُ عقلي.

مرَّت السنوات وصرتُ مُراهقًا أشبه بالمُتخلِّف عقليًّا لمَن يتحدّثُ معي، إذ أنّني لَم أكن أُجيدُ المحادثة إطلاقًا. وفي تلك الفترة، قرّرَت سامية أنّها صرَفَت ما يكفي مِن مال عليّ، وأنّ عليّ أن أجِد عملاً لأرُدَّ لها جميلها. لِذا وضعَتني عند مُصفّف للشعر خلال الفرصة الصيفيّة. كانت مهامي تقتصر على تكنيس الشعر المقصوص وتنظيف المحلّ عند الإقفال. المُصفِّف أيضًا أساءَ مُعاملتي بعدما اعتبرَني غير نافع، وأنا لَم أعتَد الدّفاع عن نفسي بعد أن قتلَت جدّتي فيّ عزّة نفسي. كنتُ أقبَل وأتقبَّل أبشَع الملاحظات والإهانات وكأنّها في محلّها.

لكنّ فنّ تصفيف الشعر إستهواني، وبدأتُ أُراقبُ عن كثب ما يفعلُه ربّ عملي وأحفظُ حركاته سرًّا. أعجبَني الشعر بحدّ ذاته، فهو مادّة يمكن تغيير شكلها ولونها كيفما نشاء، وذُهلتُ بالفرق الذي يحدثُ لصاحبته بعد الإنتهاء. علِمتُ ضمنيًّا أنّني سأصبحُ يومًا مُصفّف شعر.

عند اقتراب انتهاء الفرصة المدرسيّة، قصدتُ جدّتي في غرفتها وقلتُ لها بعد أن نظرَت إليّ بتعجّب لهذا التصرّف الجريء، فلَم يسبَق أن دخلتُ غرفتها يومًا:

 

ـ أعرفُ كم يُكلّفكِ وجودي، لِذا مِن الأفضل أن أبقى عند المُصفِّف لأجني بعض المال، الذي سأُعطيكِ إيّاه طبعًا، لكن بعد الدوام المدرسيّ. هل أنتِ موافقة؟

 

بالطبع وافقَت جدّتي بل حاولَت إقناعي بألا أذهَب بتاتًا إلى المدرسة، إلا أنّني رفضتُ ذلك. أجل، تجرّأتُ على الرفض بعد أن صرتُ أرى الناس في صالون التصفيف، وأتحدّث معهم أحيانًا وأستمعُ إلى أخبارهم.

لَم أُهمِل واجباتي المدرسيّة، إذ كنتُ أقومُ بمعظمها أثناء الإستراحة بينما يرتاح رفاقي. أمّا ما يتبقّى، فكنتُ أتركُه لعودتي مِن الصالون، أي قبل نومي بقليل. صحيح أنّني تعبتُ كثيرًا، لكنّني كنتُ قد لمستُ المنفعة مِن العمَل. ألَم يكن يكفي أنّني لن أتواجد في البيت نفسه مع سامية إلا لأنام؟

بعد فترة، سمَحَ لي صاحب الصالون بغسل شعر الزبونات وتمشيطه. وبعد سنة على الأقل، بمساعدته وهو يقومُ بالتسريحة، أيّ بالإمساك بالمُجفّف وإعطائه ما يطلبُه مِن فراشٍ وملاقط. كنتُ سعيدًا للغاية، إذ كنتُ أقتربُ شيئًا فشيئًا مِن هدفي. فلقد ساعدَني طبعي الهادئ بالتقدّم مِن دون أن ينتبِه لي أحد. إضافة إلى ذلك، أحبَّتني الزبونات بالأخص بسبب هدوئي الذي اعتبرَته لياقة واحترامًا.

كنتُ قد أوشكتُ على إنهاء مدرستي، عندما حصَلَ ما رسّخَني في مهنة تصفيف الشعر وفتَحَ لي بابًا عريضًا خلتُه مُقفلاً أبديًّا.

 


فقد شاءَت الأقدار أن يقَعَ صاحب الصالون ضحيّة حادث، فكسَرَ ذراعه اليمنى أي نفسها التي يستعملُها في عمَله اليوميّ، واحتارَ لأمره فهو لَم يشأ أن يخسَرَ زبوناته لو أقفَلَ محلّه حتى لفترة قصيرة. لِذا جاء يطلبُ منّي ما لَم يكن مُمكنًا قبل يوم واحد:

 

ـ لدَينا مُشكله... صحيح أنّني لَم أكن لطيفًا معكَ منذ البدء، لكنّ ذلك لا يعني أنّني لَم أنتبِه لتقدّمكَ في العمل وتصميمكَ على التقدّم. شيء ما فيكَ يُذكّرُني بنفسي، إلا أنّ طباعكَ لا تزال غريبة وعليكَ تحسينها وبسرعة... لأنّكَ ستحلّ مكاني لفترة مُعيّنة.

 

ـ أنا؟ مكانكَ سيّدي؟!؟

 

ـ سأكون موجودًا إلى جانبكَ. أنا مجبرٌ على الوثوق بكَ فليس لدَي خيارٌ آخر، ولا أنتَ. سأجلبُ في الحال قريبة لي وسأطلعُكَ على بعض أسرار المهنة بينما تتمرَّن عليها.

 

كانت البداية صعبة، إذ أنّ بعض الزبونات رفضنَ أن أُصفِّفَ شعرهنّ ورحنَ إلى صالون آخر. البعض الآخر رأى فرصة في تسريحة مختلفة عن التي اعتدنَ عليها. لَم أقصّ شعر أحد بل طلَبنا مِن الزبونات الصبر قليلاً حتى تشفى ذراع صاحب الصالون.

لَم أُخبِر سامية عن الذي يجري ولا عن الزيادة الكبيرة في الأجرة التي نلتُها والتي صرتُ أضعُها جانبًا لأصنَعَ بها مُستقبلي الذي كنت حتمًا سأقضيه بعيدًا عن جدّتي. بقيتُ أعمَل مكان المصفّف لمدّة شهرَين ولقد أبدعتُ بالفعل. كنتُ أقضي الليل وأنا أبتكرُ في رأسي الموديلات الجديدة لأنفّذها في اليوم التالي، وكلّ ذلك مِن دون الرجوع إلى الإنترنت وهو أمرٌ لَم يكن موجودًا آنذاك.

وعندما شفَيت ذراع الرجل، طلَبَ منّي مُتابعة ما كنتُ أفعلُه بوجوده. وكثُرَ العمَل وسرعان ما جاءَ صاحب الصالون بمعدّات حديثة.

لَم أدخُل الجامعة، ولماذا أفعل؟ فكنتُ قد وجدتُ مهنتي ومُستقبلي ومورد رزقي.

مِن ناحية أخرى، لَم أعُد أكترثُ لطباع سامية وأذيّتها، بعدما صرتُ شبه مُستقلّ وقويَت شخصيّتي وثقتي بنفسي. وهي بالمُقابل، شعَرت بأنّني أفلِتُ منها وبسرعة، فلَم تعُد كما في السابق بل هدأت قليلاً. إلى جانب ذلك، كنتُ قد وقفتُ في وجهها مرّات عدّة رافضًا إذلالها لي فأدركتُ أخيرًا أنّني قادر على مُجابهتها لو شئتُ ذلك.

يوم علَّقَ صاحب الصالون يافطة جديدة تحملُ إسمي إلى جانب إسمه، إستأجرتُ غرفة صغيرة في أحد الأبنية المُجاورة تاركًا سامية إلى الأبد. هي لَم تقُل شيئًا ولَم تودّعني حتى، بل بقيَت في غرفتها تغلي مِن الغضب حتمًا. ولكنّي بقيتُ أبعثُ لها مبلغًا مِن المال شهريًّا حتى مماتها، ليس رأفةً بها، بل لأُسدِّد ما اعتبرَته هي بالتأكيد دينًا لها.

يوم علِمتُ بموت جدّتي لَم أشعر طبعًا بالحزن، بل أسفتُ لأنّها لَم تكن يومًا جدّة حقيقيّة لي، وأنّها أضاعَت عليّ سنوات مِن الفرَح والحنان كان عليها أن تؤمّنها لي. لكنّ الإنسان قادر على التعويض لنفسه عمّا أضاعَه وأن يرسم مصيره بيَده.

أنا اليوم صاحب الصالون الذي كنتُ أعمل فيه بعدما اشترَيتُه مِن مالكه الذي تقاعَدَ أخيرًا. إشترَيتُ أيضًا المحلّ الذي بجانبه ليتّسِع لعدد زبوناتي الكبير. وأنا أيضًا متزوّج وأب لولدَين، ولا يمرُّ يومًا مِن دون أن أُعطيَهما الحبّ والحنان اللذان هما واجب عليّ وحقّ لهما.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button