جارنا المهووس

كلّنا نفقدُ بين الحين والآخَر فردات جوارب أو قطع ملابس صغيرة بعد غسلها، وتكون المسألة عادة محطّ سخرية حين نقول: "لقد ابتعلَتها الغسّالة الكهربائيّة حتمًا". وهذا ما حصَلَ لنا مع بعض الملابس الداخليّة، فلَم نعِر للأمر أهميّة مُبالغ بها. لكن سرعان ما انتبَهنا أنّ فقداننا لها يحصلُ بعد نشرها على الحَبل الممدود على بلكوننا الخلفيّ. لذلك قرّرَت والدتي شراء ملاقط جديدة، فالتي كنّا نستعملُها كانت خشبيّة وقديمة للغاية. لكن بالرغم مَن ذلك، بقينا نُلاحظ اختفاء تلك الملابس... التي كانت دائمًا تخصُّني. كنتُ آنذاك صبيّة في الثامنة عشرة مِن عمري، ولَم أشكّ أبدًا بأنّ الفاعل لَم يكن الغسّالة أم الريح أو الملاقط، بل إنسان مريض. أمّي هي الأخرى كانت تردّ الأمر إلى سبَب طبيعيّ أو الصدفة البحتة، فكيف لنّا أن نتصوّر إلى أيّ مدى يذهبُ رجُل تُصارعُه أفكاره بهذا الكمّ مِن الشذوذ؟

إنّني أتكلّم عن العمّ سامر جارنا، رجُل مُسنّ يعيشُ لوحده بعدما ماتَت والدته التي شاركَته الشقّة لسنوات عديدة. هو لَم يعرِف أباه الذي توفّي بعد ولادته بقليل، وكان أخوَته الكبار قد تزوّجوا وسكنوا بعيدًا. وحده سامر بقيَ مع أمّه التي عرِفَت كيف تربّيه على إطاعتها، وما هو أهمّ، عدَم تركها.

كان سامر إنسانًا لطيفًا ومُهذّبًا يُلقي دائمًا التحيّة على سكّان المبنى ولا يُزعجُ أحدًا. وكنّا نعلَم أنّ أخوَته يمدّونه بالمال ليعيش بكرامة بعد أن تقاعدَ مِن عمله البسيط. فالجدير بالذكر أنّه لَم يكن إنسانًا طموحًا أو فالحًا أو مُميّزًا، بل كان يُحبُّ أن يُعطي أقلّ ما لدَيه لإنجاز أيّ شيء، ربمّا لأنّه ركّزَ كثيرًا على إطاعة وخدمة أمّه، رحمها الله.

كانت شقّة سامر مُلاصقة لشقّتنا، ولا يفصلُ بيننا مِن جهة البلكون الخلفيّ سوى حائط رفيع فقط. بالطبع لَم يخطُر بِبالنا أبدًأ أنّ ذلك العجوز هو الذي يسرقُ ملابسي الداخليّة... إلى حين رأيتُ عصًا وبرأسها صنّارة تُمَدّ بِبطء مِن بلكونه إلى حَبل غسيلنا! لَم أصدّق عَينَيّ!

حاولتُ التقاط العصا لكنّ سامر كان أسرَع منّي، فانتشَلها بسرعة ومعها ما كان ينوي صَيده. إرتعَبَ جسمي كلّه، فركضتُ أُخبرُ والدتي بما اكتشفتُه وهي الأخرى ذُهِلَت بالخبَر. مَن كان لِيَشكّ بذلك الإنسان المُهذّب والهادئ؟ فهو لَم يُبدِ يومًا أيّ اهتمام بنا أو بالنساء عامّة، لِدرجة أنّ أحد جيراننا قال عنه إنّه حتمًا مثليّ! سألتُ والدتي عمّا تنوي فعله، وهي اكتفَت بالقول: "دعيني أُفكّر بالأمر... فلا أُريدُ إقحام أبيكِ بِهذه المسألة وخَلق فضيحة في المبنى".

 


وبالطبع صِرنا ننشرُ غسيلنا في الداخل، بانتظار حلّ تلك المسألة المُحرجة. فلقد شعرتُ بِخجل كبير بعد معرفتي بأنّ رجُلاً، مهما كان سنّه، يصطادُ ملابسي الداخليّة مِن دون أن أفهَم ما يفعلُ بها، فكنتُ لا أزال ساذجة في ما يخصّ تلك الأمور. بعد يومَين رأيتُ أمّي تدخُل إلى غرفتي ومعها كمّيّة مِن ملابسي الداخليّة، تلك نفسها التي اختفَت على مدّة أشهر لا بَل سنوات، قائلة:

 

ـ سأرميها لكنّني أرَدتُكِ أن تعلمي بأنّني استرجعتُها.

 

ـ ولِما ترميها؟ لِنغسلها جيّدًا.

 

ـ لا! سأشتري لكِ أفضَل وأجمَل منها. على كلّ الأحوال، كوني على ثقّة بأنّ جارنا لن يُعيد الكرّة، فلقد تكلّمتُ معه مُطوّلاً.

 

كانت والدتي غاضبة للغاية، فلَم أجرؤ على سؤالها عن الحديث الذي دارَ بينها وبين جارنا، لكنّني استنتجتُ أنّها وبّخَته بقوّة. على كلّ الأحوال، مهما قالَت له، كان ذلك أفضل بكثير مِن تدخُّل أبي لحلّ تلك المشكلة، فهو كان عصبيّ المزاج.

بعد أشهر قليلة، أهداني والدايَ سيّارتي الأولى لأتمكّن مِن الذهاب إلى الجامعة، وشعرتُ أنّني صرتُ راشدة، الأمر الذي فرّحَني كثيرًا، فكنتُ قد عانَيتُ مِن العناية الفائقة التي أحاطَني بها أبوايَ كَوني ابنتهما الوحيدة.

كنتُ طبعًا قد نسيتُ مسألة سامر، لكثرة انشغالي بدخولي عالَم الكبار إن كان مِن حيث تسجيلي في الجامعة أو قيادة سيّارتي الجديدة. كان العالم يفتحُ لي ذراعَيه وبدأتُ أُخالطُ أناسًا جدُدًا، وأتعلّم قليلاً ما فاتَني مِن الحياة وأنا مُحاطة بِخوف أهلي عليّ وحمايتي مِن مخاطر الدنيا.

لكن في أحد الأيّام، حين نزلتُ المرآب لِركوب سيّارتي والتوجّه إلى جامعتي، وجدتُ سامر واقفًا قرب بابها أو بالأحرى مسكة بابها مُلصقًا نفسه بها ومُعانقًا سطحها بما أصفُه بِـ "مُعانقة رومانسيّة". وقفتُ أمامه مذهولة مُحاولةً فَهم ما يحصل.

رآني الرجل فابتعدَ عن المركبة قائلاً: "سيّارتكِ مُتّسخة... كنتُ أُنظّفُها لكِ". تمتمتُ كلمة شكر، وإنتظرتُ أن يبتعِدَ أكثر لِدخول سيّارتي والإقلاع بها. تساءلتُ وأنا أقودُ عمّا حصَلَ فعلاً، إلا أنّني لَم أجِد تفسيرًا، غير أنّ الرجل أرادَ التعويض لي عن سرقة ملابسي الداخليّة بإزالة الوسَخ عن سيّارتي. لاحقًا فهمتُ أنّ سذاجتي سببها حرص والدَيّ على إبعادي قدر المستطاع عن حقيقة الحياة والناس. فالحرص على أولادنا لا يكون بإبقائهم غافلين عن الواقع أو شذوذ الناس، بل باطلاعهم على كلّ ما هو موجود مِن حولهم ليحترسوا، مِن دون إفزاعهم مِن الآخرين. ولو شرحَت لي أمّي ما كان سامر يفعله حقًّا بِملابسي المسروقة، لَفهمتُ أنّه يُعاني مِن هوَس غير سليم بالنساء وبي خاصّة. لَم أُطلِع أهلي على حادثة السيّارة التي لَم أعتبِرها مُهمّة.

وبعد ذلك أُصيبَ سامر بوعكة صحيّة، علِمَ بها سكّان المبنى وصاروا يُحضّرون له المأكولات ويزورونَه للاطمئنان عليه. وحدها والدتي لَم تدُس بيته بل أرسلَت له مع إحدى جاراتنا الأطباق المطهوّة. إستغربتُ الأمر وشعرتُ بأنّها تظلمُ ذلك الرجُل المُسنّ. وحين وبّختُها، إكتفَت بالقول: "عليه أن يكون ممتنًّا لأنّني أرسِلُ له الأكل!". غضبتُ منها فلطالما عرفتُها حنونة وتفعلُ ما بوسعها لِمُساعدة الآخرين.

مرَّت الأيّام والأسابيع مِن دون أن يحدثَ شيء يُذكَر، ووصفتُ لاحقًا تلك الفترة بـ "الهدوء ما قبل العاصفة".

ففي أحد الأيّام، صعدتُ سيّارتي لأقصد جامعتي، وقدتُ كعادتي وأنا أستمعُ إلى برنامجي المُفضّل عبر الراديو، حين لمَحتُ فجأة في المرآة شيئًا على المقعد الخلفيّ. وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين أدركتُ أنّ سامر نائمٌ في سيّارتي! ركنتُ المركبة إلى جانب الطريق واستدَرتُ نحو المقعد الخلفيّ لأصرخَ في الرجُل: "هل أنتَ بخير؟!؟ أتريدُ أن آخذكَ إلى المشفى؟". فكان مِن الواضح أنّ سامر لَم يكن على ما يُرام مِن الأنين الذي كان يُصدرُه. لَم يخطر ببالي أن أسأل نفسي كيف ولماذا هو صعِدَ في سيّارتي، بل تذكّرتُ فقط أنّه عانى مِن مشاكل صحيّة منذ فترة قصيرة.

 


فتَحَ سامر عَينَيه أخيرًا وقال:

 

ـ خُذيني إلى منزل أختي مِن فضلكِ... سأدلّكِ على الطريق.

 

أسرعتُ بإدارة المُحرّك واتّباع تعليماته، فلَم أكن أُريدُ أن يُصاب الرجل بأزمة ما وهو بِرفقتي، فلِتهتَمّ به أخته كما يجب.

قدتُ بِسامر حوالي العشرين دقيقة آخذةً طريقًا ضيّقًا خارج المدينة. بقيتُ أُلقي نظرات خاطفة في المرآة لأرى إن كان لا يزال حيًّا أو على الأقلّ واعيًا، حين بدأتُ أخيرًا أُحلّلُ ما يحصلُ حقًّا. عندها سألتُه:

 

ـ كيف دخلتَ سيّارتي عمّ سامر؟

 

ـ هي كانت غير مُقفلة، كعادتها.

 

كعادتها؟ وكيف له أن يعلَم أنّني لا أٌقفِلُ سيّارتي، لأنّها مركونة في مرآب آمن لا يستطيع دخوله سوى سكّان المبنى وبواسطة جهاز تحكّم؟ هل ذلك يعني أنّه حاولَ فتحها مِن قَبل؟ وتابعتُ:

 

ـ ولماذا صعدتَ فيها بدلاً مِن طلَبَ المُساعدة مِن جيرانكَ؟

 

ـ كنتُ في المرآب حين شعرتُ بِدوار حاد. لِما كلّ هذه الأسئلة؟ قودي بي بِصمت! 

 

أزعجَتني نبرة صوته، إلا أنّني لَم أُجِبه بل قدتُ ليس فقط بِصمت بل بِبطء، مُحاولةً إيجاد منفذ يُعيدُني إلى طريق رئيسيّ.

إنتبَهَ سامر إلى ما كنتُ أفعلهُ، فسألَني لماذا أبتعدتُ عن مسارنا، فقلتُ له:

 

ـ سيّارتي جديدة يا عمّ سامر ولا أُريدُ خدشها بأغصان الشجر الموجود إلى جانبَي الطريق، لا تخَف فكلّ الطرق تؤدّي إلى النقطة نفسها. ستصِل بيت أختكَ قريبًا.

 

لكن في الحقيقة كنتُ مُتجّهةً نحو مشفىً كنتُ قد لَمحتُه في إحدى المرّات، فإن كان سامر حقًّا مريضًا، يكون المشفى المكان الصحيح له. لكنّني تفاجأتُ بالرجل وهو يشهرُ سكيّنًا إلى يمين رأسي ويأمُرني بالعودة إلى مساري! نظرتُ مِن حولي، فوجدتُ أنّني صرتُ وسط شارع تجاريّ فاطمأنَّ قلبي قليلاً... قلبي نفسه الذي كان يدقُّ كالمجنون! إستفَدتُ مِن توقّفي عند إشارة حمراء، لِلَكم سامر على وجهه بواسطة كوعي، ثمّ فَتحتُ بابي بسرعة وركضت خارج السيّارة صارخِةً: "النجدة، فهو يُريدُ قتلي!!!". إجتمَعَ المارّة حول السيّارة، وأخرجوا منها ذلك المجنون الذي كان لا يزال يستعيدُ وعيه مِن اللكمة. وجدوا معه السكيّن فأخذوه إلى قسم الشرطة وأنا رافقتُهم. هناك اتّصَلَ المُحقِّق بِوليَّي أمري اللذَين ركضا مذعورَين، وقصَّت أمّي له ما حصَلَ مع سامر بشأن الملابس الداخليّة. بِدوري أخبرتُه عن المرّة التي وجدتُ سامر قرب سيّارتي، وكلّ ما حدَثَ حين حاوَلَ خطفي. عندها شرَحَ لي المُحقّق أنّ ذلك الرجل المُسنّ هو بالحقيقة مُنحرِف جنسيًّا، وكان يتخايَل أمورًا تجري بيني وبينه، مِن خلال سرقته لِملابسي الداخليّة ولَمسه لسيّارتي لأنّها تخصّني، قبل أن يُقرّرَ أخيرًا أن يُطبّقَ ما تخايلَه بأخذي إلى مكان معزول. يا إلهي... مَن يخطُر بِباله أنّ رجُلاً بِسنّه وهشاشة صحّته قد يُفكّر بهكذا أمور، ويجرؤ على خطف صبيّة؟!؟ فقط إنسان مريض نفسيًّا يُقدِم على ذلك!

كان سامر بالفعل مريضًا، فبعد أن فحصَه طبيب نفسيّ شرعيّ، تبيّنَ أنّه عانى كثيرًا مِن تربية أمّه الصارمة بهدف إبعاده عن النساء وتصويرهنّ له بأنهنّ قذرات، فقط كي يبقى معها ليهتمّ بها عندما تشيخ. فكوّنَ سامر برأسه صورة مُشوّهة عن النساء والجنس، وما كان ممنوعًا عليه صارَ مرغوبًا لكن بطريقة شاذّة ومُلتوية. أُخِذَ سامر إلى مؤسّسة تُعنى بالمرضى العقليّين، فهو في آخر المطاف كان غير مسؤول عن فعلته، لكن مِن جهّة أخرى هو كان أيضًا خطيرًا للغاية. بعد ثلاثة سنوات، ماتَ سامر بسبب حالته الصحيّة المُتأرجحة. تأثّرتُ كثيرًا بالذي حصَلَ لي والذي كان بإمكاني تجنّبه، لو قالَت لي والدتي ما كان يفعلُ جارنا حقًّا بملابسي الداخليّة. ولحسن حظّي أنّ سامر لَم يؤذِني جسديًّا، فاستطعتُ اجتياز فترة عصيبة مليئة بالخوف والشكّ بنوايا الناس وخاصّة الرجال. أنا اليوم مُتزوّجة وزواجي يسيرُ بشكل جيّد، فزوجي إنسان مُتّزن نفسيًّا وعقليًّا ويُحبّني بطريقة سليمة. فليس كلّ الرجال مهووسين أو مجانين!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button