جارنا العجوز

واكَبتُ أبطال هذه القصّة كَوني أسكن في المبنى نفسه ولأنّ والدتي كانت مقرّبة منهم لا بل تزورهم يوميًّا، على الأقل مذ جاء العم خليل. وأعترفُ أنّ مشاعري تأرجحَت بين الحزن والشفقة والغضب والاشمئزاز تجاههم جميعًا، الأمر الذي أعطاني دروسًا قيّمة بالحياة والناس، في سنّ كان يجدر بي الاهتمام باللعب والدّرس.

منذ ولادتي وأنا أعرف مازن وجميلة، الثنائيّ الذي كان يسكن في الطابق نفسه. كانا مسنَّين ولم يرزقهما الله أولادًا. ولم أكن أراهما كثيرًا بل أسمع صوتهما وهما يتشاجران، وأمّي تقول إنّ السّبب هو وجودهما سويًّا لوحدهما طوال الوقت. كان مازن موظّف دولة متقاعد وهي ربّة منزل، وكان بيتهما مظلمًا تفوح منه رائحة النفتالين الذي كانت تبعثره جميلة في كل أنحائه، خاصّة في خزائن الملابس. وفي إحدى الليالي، طَرَحَت جميلة الصوت حين وقَعَ زوجها أرضًا ولم يستفق. جاءَت سيّارة الاسعاف وأخَذَت المسكين محاطًا بالجيران والأرملة الباكية.

وهكذا بقيَت جميلة لوحدها تندب حظّها طوال الوقت، سائلةً خالقها لماذا أخَذَ شريك حياتها مِن دون أن يتركَ لها بديلاً. وجاء البديل بعد سنتَين: أخ مازن الذي كان وحيدًا هو الآخر، بعد أن فارقَت زوجته الحياة وسافَرَ جميع أولاده إلى مختلف زوايا الأرض. كان خليل البكر في عائلته وبالكاد يستطيع تدبير أموره، لِذا طلَبَ مِن جميلة أن تستقبله مقابل نصف معاش تقاعده، وهي رأت في ذلك طريقة لتحسين مستوى عَيشها والاستفادة مِن وجود رفيق معها.

فرحنا جميعًا لجارتنا، ولم يرَ أحد أيّ مانع في أن يسكن رجل وامرأة سويًّا لأنّهما كانا عجوزَين غير قادرَين على ارتكاب الفواحش. في البدء سارَت الأمور بسلاسة لا بل عادَت البسمة إلى فم جميلة، والراحة إلى قلب خليل الذي خافَ أن ينتهي به الأمر في دار للعجزة. ولكن سرعان ما بانَت حقيقة نفسيّة جارتنا، أي جانبها البشع والمتسلّط الذي عانى منه زوجها طوال حياته. وحين عُدنا نسمع صراخ جميلة قالت أمّي مبتسمة: "إنتهى شهر العسل".

 


ما لم نكن نعرفه هو أنّ تلك المرأة القبيحة كانت قد بدأَت تصبّ غضبها المعهود على المسكين خليل لكلّ كبيرة وصغيرة، وتمنّنه باستقباله عندها بدل أن "تبقيه في بيته مرميًّا كالكلب"، وتُجبره على القيام بالأعمال المنزليّة تحت طائلة الطرد. وكيف للمسكين أن يمسح الأرض ويغسل الصحون وهو بالكاد قادرًا على القيام بأبسط حركة؟ ولكن ساعدَه الخوف مِن الذلّ، خاصّة أنّ جميلة كانت تأخذ كامل راتبه ممسكة هكذا بزمام الأمور مِن كل النواحي. فمِن دونها لم يكن خليل قادرًا على الأكل حتى.

عانى الرجل كثيرًا، وأقسمُ أنّني سمعتُه ذات يوم وأنا مارّة بالقرب مِن بابهما وهو يبكي ويقول لزوجة أخيه: "خافي ربّكِ يا امرأة... لم أعد أستطيع تحمّل كل هذه الاهانات... خافي ربّكِ فسيأتي يوم وتلاقينه وتُحاسَبين مِن قِبَله". ولكنّ جميلة كانت تعتقد فعلاً أنّها ستعيش إلى الأبد وكانت طبعًا مخطئة. فبعد سنتَين على قدوم خليل، ماتَت جميلة أثناء نومها، ميتة لا تستحقّها لكثرة شرّها.

بكى خليل كثيرًا أثناء الدفن، ليس على جميلة طبعًا بل خوفًا مِن الذي ينتظره، وفي ذلك اليوم أذكر أنّني شعَرتُ بفخر كبير عندما اقتربَت أمّي منه ووضعَت يدها على كتفه قائلة: "لا تقلق يا عم خليل، سأهتمّ أنا بكَ وستعيش مكرّمًا". نظَرَ المسكين إليها وابتسمَ، وأخَذَ يدها وقبّلها بحرارة وأنا عانقتُها بقوّة لأنّها كانت أنبَل إنسانة عرفها التاريخ.

بدأتُ أرافق أمّي حين كانت تذهب إلى الشقّة المقابلة، وهناك استمعَتُ إلى ما حصَلَ لخليل مع جميلة وبكيتُ كثيرًا لهذا الكمّ مِن الشرّ، فحتى ذلك الحين لم أكن أعلم أنّ الانسان يُمكنه أن يستغلّ أخاه ويذلّه هكذا. ووعَدتُ نفسي أن أساعد والدتي بالاهتمام بجارنا حتى لو كنتُ لا أزال في السادسة مِن عمري.

لكنّ أمّي لم تكن تريدني أن أكثِر مِن الزيارات معها لأنّني، وحسب قولها، كنتُ لا أزال صغيرة ولا تريد أن يمتلئ قلبي بالحزن أو المسؤوليّة، وسمحَت لي أن أرافقها مرّة واحدة في الأسبوع وأن أساعدها بإعداد الطعام لخليل. كانت فرحتي لا توصَف لأنّني كنتُ سأساهم ولو قليلاً، بسعادة ذلك العجوز. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ قد فقدتُ جدَّيَّ وأشتاق إلى الاعتناء بأحد في سنّهما.

بعد فترة، صارَت والدتي تعود مِن بيت العم خليل ومعها بعض الأغراض، مثل صحن سجائر فضيّ أو مزهريّة مِن الكريستال، وتقول لنا إنّه أهداها لها كعربون امتنان. لم يُعجب الأمر أبي الذي طلَبَ منها أن تعيد له أغراضه ولكنّها أجابَته: "الرجل يريد شكري بما يملكه... لو أعدتُها له فسيشعر أنّه مدين لي."

وسرعان ما بدأتُ أرى أمّي قادمة مِن عند خليل وفي يديها أو جيبة مريولها أوراق نقديّة، ولكنّني لم أجرؤ على مفاتحتها بالأمر. وبالرغم مِن سنّي اليافع، شعرتُ أنّ ذلك لم يكن جائزًا.

 

تغيّرَت نفسيّة خليل على مرّ الأشهر، فبعد أن استعادَ صحّته ومعنويّاته، صارَ حزينًا وهزيلاً. وسألتُه عن الأمر خلال إحدى زياراتي له فقال لي:

 

ـ لَيتني متٌ حين توفَّيت زوجتي... لا أدري لماذا يُبقيني الله على قَيد الحياة... ألا يرى ما يحصل لي؟ هل أسأتُ إليه ليُعاقبني؟

 


ـ لماذا تقول ذلك يا عم خليل؟ أمّي تهتمّ بكَ جيّدًا وأنا أساعدها.

 

ضحِكَ الرجل وهزّ برأسه:

 

ـ لا أحد يفعل شيئًا مجّانًا يا صغيرتي... وللاستبداد أوجه عديدة.

 

فهمتُ مِن حديثه أنّه يقصد أمّي بالذات، ولكنّني لم أدرك مدى فظاعة ما كانت تفعله حتى مات خليل بعد أقلّ مِن سنة.

إكتشفَته والدتي ميّتًا في أرض الحمّام، ولكنّها لم تتصل بالإسعاف على الفور بل دخَلت بيتنا حاملة لوحة زيتيّة وضعَتها بسرعة لتعود إلى الشقّة المقابلة وتأخذ المزيد. كانت كالمجنونة تركض وتتمتم: "بسرعة... بسرعة!"

وقفتُ أنظر إليها باستغراب، فصَرَخَت بي: "ما بكِ واقفة كالبلهاء؟ هيّا ساعديني قبل أن يكتشف أحد أنّ العجوز مات!"

بدأتُ بالبكاء ورفضتُ الانصياع لها، فاضطرَّت أن تستعين بالجيران الذين لم يتردّدوا بمساعدتها وأخذ نصيبهم مِن الأثاث.

عندما انتهَت أمّي مِن نهب شقّة خليل، إتّصلَت بالجهات المختصّة. وبينما كانت بانتظار قدومهم قالت لي:

 

ـ إن سألكِ أحدهم عن سبب عدم وجود أثاث في شقّة العجوز، قولي إنّه كان فقيرًا وباعَ كل شيء ليعيش.

 

ـ لن أفعل! كيف تطلبين منّي أن أكذب هكذا؟ لطالما ردَّدتِ لي أنّ الكذب خطيئة... وكذلك السرقة!

 

ـ لستُ سارقة يا آنسة! آخذُ حقّي!

 

ـ حقّكِ؟

 

ـ أجل فلقد اهتمَمتُ بالعجوز وأستحقّ تعويضًا على ذلك.

 

ـ والأغراض التي كنتِ تسحبينها مِن بيته، والمال الذي كان بحوزتكِ كلّما عدتِ مِن شقّته؟

 

ـ إخرسي يا شيطانة! تراقبيني؟ إيّاكِ أن تتفوّهي بكلمة واحدة أمام أيٍّ كان أو سأبرحكِ ضربًا وأعاقبكِ مدى حياتكِ!

 

ـ كَونكِ أمّي هو عقابي.

 

نظَرَت والدتي إليّ بتعجّب، وخلتُ للحظة أنّها استوعبَت فظاعة ما فعلَته ولكنّها ضحِكَت قائلة: "أصبحتِ فيلسوفة الآن؟ أدخلي غرفتكِ ولا تبارحيها!"

منذ ذلك اليوم لم أعد أرى الحياة زهريّة اللون ومليئة بالأميرات الجميلات والأناس الطيّبين، ولم أعد أنظر إلى أمّي وكأنّها مثَلي الأعلى بل اشمأزّيتُ مِن كل شيء. أمّا هي، فتابعَت حياتها وكأنّ شيئًا لم يحصل.

عندما كبرتُ أسرَعتُ بالرحيل إلى جدّتي، بذريعة متابعة علمي في جامعة قريبة منها. ذرَفَت أمّي دموعًا لم أعرف إن كانت صادقة أم لا، فقد كنتُ الشاهدة الحيّة على قباحة قلبها، وكنتُ واثقة مِن أنّها ارتاحَت منّي.

تزوّجتُ وأنجَبتُ أولادًا أربّيهم على الحبّ المجّانيّ، عاملة جهدي لأكون على قدر توقّعاتهم.

هل سأهتمّ بأمّي عندما تشيخ؟ نعم، لا بل أنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر لأعطيها درسًا بالمحبّة، آملة بذلك أن تندمَ على الذي فعلَته بالعم خليل، وأن تنال غفران ربّنا الذي يرى كل ما يجري في نفوس البشر.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button