جارة مجرمة

لَم أتوقّع طبعاً الذي حصَلَ لي عندما انتقَلَ هؤلاء الجيران الجدد للعيش في الشقّة المُقابلة لشقّتي، بل اعتبَرتُ مجيئهم فرصة لأتسلى أخيراً مع أحد بعد موت زوجي. فالحقيقة أنّنا لَم نُنجِب بسبب عقره، الأمر الذي تقبّلتُه منذ سنوات عديدة، إلا أنّني لَم أحسِب حساب الوحدة التي كانت بانتظاري بعد رحيله. إضافة إلى ذلك، كنتُ إبنة وحيدة لأبوَين متوفَّيين، أي لا أملكُ أحدًا ليسأل عنّي بانتظام. لِذا وجّهتُ إهتمامي إلى القطط التي كانت تأتي إلى الحديقة المُلاصقة لشقّتي الموجودة في الطابق الأرضيّ. كانت تلك الحيوانات اللطيفة سلوَتي الوحيدة، واعتبرتُها مع الوقت جزءًا مِن حياتي، فصِرنا كالعائلة نتقاسم الطعام والوقت الذي كان يمرّ ببطء رهيب.

مِن حسن حظّي أنّ زوجي كان موظّفًا حكوميًّا، وبقيتُ أحصل على راتب شهريّ بعد مماته وتغطية صحيّة، وإلا لكنتُ ذقتُ طعم الفقر المرير.

كانت تلك العائلة تتألّف مِن الأمّ والأب وثلاثة أولاد في سنّ المُراهقة. رأيتُ جارتي لأوّل مرّة حين خرَجت إلى حديقتها الملاصقة لِحديقتي، وتمنَّيتُ لها إنتقالاً موفّقًا ورحّبتُ بها في المبنى. جوابها كان فاترًا، ورددتُ الأمر إلى عدَم معرفتها بي جيّدًا، فبعض الناس يكونون حذرين في البداية. لكنّني لَم أتأثّر بالأمر لكثرة فَرحتي بوجود هؤلاء الناس بالقرب منّي. وبدأتُ أتصوّر نفسي أجلسُ معهم في حديقتي أو حديقتهم، ونحن نتقاسم قالب حلوى أكون قد حضّرتُه بالمناسبة، ونحكي عن أمور عدّة قد لا تكون لها أهميّة خاصّة.

لكنّ سُعاد، أي جارتي، لَم تكن على ما يبدو مُستعدّة للتخالط، فباتَت تتجنّبُني كلّما خرجتُ إلى الحديقة، فتعودُ بسرعة إلى بيتها وتُقفل الباب وراءها. أمّا بالنسبة لباقي العائلة، فلَم أكن أراهم كثيرًا، لأنّ الأب كان يبقى في عمله حتى المساء، والأولاد في مدارسهم ومِن ثمّ حتمًا مع أصدقائهم. وحدها سُعاد كانت موجودة دائمًا في مسكنها، شأني أنا.

لا تقولوا عنّي فضوليّة أو مُتطفّلة، لكنّني كنتُ بحاجة إلى رفيقة، لِذا صرتُ مُصرّة على أن تعرف جارتي أنّني إنسانة طيّبة وخدومة ولا داعٍ لأنّ تخاف منّي.

 


ولهذا السبب توجّهت أدقّ بابها صباحًا حاملةً ركوةً مِن القهوة. عندما فتحَت لي سُعاد وهي لا تزال في لباس النوم، تفاجأَت بي كثيرًا وكادَت أن تُقفل الباب بوجهي، إلا أنّها تراجعَت عن ذلك. ثمّ سألَتني ما الذي أريدُه فأجبتُها:

 

ـ أريدُ شرب القهوة معكِ والتعرّف إليكِ أكثر، فقد تكون هناك أمور مُشتركة بيننا.

 

ـ لا أريدُ شرب القهوة معكِ، ولا أُريدُ التعرّف إليكِ أكثر وليس هناك مِن شيء مُشترك بيننا.

 

ـ ما الذي فعلتُه لكِ لتقولي لي هذا الكلام المُجرّح؟

 

ـ لقد لاحظتُ كيف أنّكِ تُحشرين أنفكِ في شؤوني... أنتِ دائمًا لي بالمرصاد، ولَم أعد قادرة على الخروج إلى حديقتي بسببكِ. وها أنتِ تدقّين بابي! يا لكِ مِن إنسانة مُزعجة!

 

وأقفلَت سُعاد الباب في وجهي بعدائيّة. إمتلأت عينايَ بالدموع، وحزنتُ على نفسي بعد أن أهانَتني هذه المرأة. لكن قبل أن أعود إلى بيتي، سمعتُ سُعاد تُكلّم أحدًا مِن وراء بابها. إستغربتُ الأمر إذ كان زوجها وأولادها قد غادروا منذ أكثر مِن ساعة. كلّ ما استطعتُ سماعه كان: "لا أحد... إنّها تلك الجارة المُزعجة". لَم أكترِث فعلاً للأمر بالرغم مِن غرابته، بل رحتُ أُرتّبُ بيتي وأحضّرُ طعامي، وقلبي ثقيل مِن الذي حصل، واعدةً نفسي بألا أُكلّم سُعاد مُجدّدًا لأنّها إنسانة فظّة للغاية.

مرَّت الأيّام بوتيرة مُملّة، أي كالعادة، إلى حين جاءَت سُعاد إليّ. إحترتُ في كيفيّة التعامل مع ذلك الحدث الذي لَم أتوقّعه، لكنّني دعوتُها إلى الدخول بكلّ طيبة قلب، فهكذا كنتُ ولا أزال، لا أحمل ضغينة ضدّ أحد.

وهذا ما دار بيننا: قالَت لي:

 

ـ أنا آسفة لِما قلتُه لكِ في ذلك النهار يا...

 

ـ مُنى، إسمي مُنى.

 

ـ ...يا مُنى. كنتُ في مزاج سيّئ للغاية وجئتُ أعتذرُ منكِ.

 

ـ لا عليكِ، فلقد نسيتُ الموضوع.

 

ـ هل عُدتِ مُباشرة إلى بيتكِ بعد أن أقفلتُ الباب بوجهكِ في ذلك اليوم؟

 

ـ طبعًا... لماذا تسألين؟

 

ـ مِن دون سبب... ربمّا لأنّني لم أسمَع بابك يُقفَل إلا بعد وقت.

 

ـ تريدين معرفة إن كنتُ قد سمعتُكِ تُكلّمين أحدًا، إليس كذلك؟

 

ـ أبدًا! ومَن أكلّم فأنا كنتُ، كعادتي، لوحدي. ما الذي تُلمّحين إليه؟ هل تتّهميني بشيء؟ يا لكِ مِن مُتطفّلة! لَم يكن يجدر بي المجيء إلى هنا!

 

ـ إهدئي، لَم أقل شيئًا بل أجبتُ فقط على سؤالكِ وما تفعلينه بحياتكِ هو من شأنكِ! كفاكِ صراخًا أرجوكِ.

 

ـ أعرفُ أمثالكِ... إمرأة وحيدة لا تجد سلوى سوى بالتفتيش في حياة الناس!

 


ـ سُعاد... أظنّ أنّ مِن الأفضل أن تعودي إلى بيتكِ، فهذه هي المرّة الثانيّة التي تُهينيني فيها... لقد طفَحَ كيلي مِن طبعكِ البشع، فأرجو منكِ الإبتعاد عنّي. لقد ظننتُ أنّنا قد نصبح صديقتَين لكنّني أرى أنّ لا شيء يجمعُنا.

 

ـ أنتِ إبتعدي عنّي! لا تتدخّلي بشؤوني الخاصّة وإلا...

 

لَم تُكمِل سُعاد جملتها بل عادَت إلى بيتها.

ومنذ ذلك اليوم قرّرَت سُعاد تخويفي بدءًا بتسميم قططي الجميلة. فيوم وجدتُ تلك المخلوقات اللطيفة ميتة في الحديقة، علمتُ على الفور أنّ أحدًا قتلَها. ومَن غير سُعاد سيفعلُ ذلك، في حين أنّ باقي سكّان المبنى كانوا يأتون لي بفضلات طعامهم لأُعطيها للقطط؟ لكن لَم يكن لدَيّ أيّ دليل ففضّلتُ عدَم المواجهة. هل كانت جارتي تريدُ إيصال رسالة لي مِن خلال ما فعلَته بالقطط؟ هل عنَت بذلك بأنّني سأكون الضحيّة القادمة؟ هل ما تخفيه هو خطير لدرجة الأذيّة؟

قرّرتُ إخبار ناطور المبنى بالذي حصَل لقططي ليُبقي عينًا ساهرة عليّ وعلى هؤلاء الجيران، وليكون شاهدًا على ما قد يحصل... إن حصَل شيء لي. ففي الحقيقة، كنتُ خائفة مِن تلك المرأة التي لَم تتردّد عن حرماني مِن تلك القطط التي كانت تملأ حياتي الموحشة.

بعد أشهر عديدة لَم أرَ خلالها سُعاد لا مِن قريب ولا مِن بعيد، سمعتُ صباحًا صراخًا يتعالى مِن شقّتها. لَم أُخاطر بالخروج إلى الردهة لأرى ما يدورُ، مِن كثرة خوفي مِن ردّة فعلها، لِذا بقيتُ في بيتي أترقّبُ نهاية الشجار. كان الكلام غير مفهوم، لكنّني استطعتُ التعرّف إلى صوت سُعاد وإلى صوت زوجها. سمعتُ بوضوح كلمة "خائنة"، واستنتجتُ أنّ الزوج كان قد عادَ مِن عمَله بصورة مُفاجئة إلى البيت ليَجِد حتمًا زوجته مع "ضيفها".

حزنتُ كثيرًا لوصول الأمور إلى ذلك الحدّ، لكنّني لَم أتوقّع أبدًا أن تأخذ مجرىً آخرًا. فبعد بضع دقائق، سمعتُ صوت رصاص ومِن ثمّ سادَ الصّمت. أدركتُ أنّ مُصيبةً وقعَت وبدأتُ أرتجف مِن الخوف، راجيةً أن يكون ما سمعتُه هو مجرّد تخيّل. لكن سرعان ما ركضَ باقي الجيران إلى شقّة سُعاد ومِن ثمّ جاءَت الشرطة والإسعاف. نظرتُ مِن ثقب الباب مُتوقّعةً أنّ أرى جثّة سُعاد على حمّالة المُسعفين، إلاّ أنّني رأيتُها خارجةً مع الشرطة مشيًا على أقدامها. أمّا الجثّة فكانت لزوجها الذي قضى برصاص سُعاد. علمتُ مِن جيراني أنّها قالت للشرطيّين إنّها أطلقَت النار على زوجها ظانّة أنّه لصّ، لكنّني كنتُ أعلم أنّ ذلك غير صحيح لأنّ الشجار الذي دارَ بينهما كان يدّل على أنّها علِمَت تمامًا أنّه زوجها. أين ذهَبَ العشيق؟ كان قد فرّ طبعًا مِن باب الحديقة.

لَم أقل شيئًا لأنّني خفتُ مِن إنسانة لَم تتردّد في قتل قططي ولاحقًا زوجها، وفكّرتُ جدّيًّا بالإنتقال إلى مسكن آخر يكون بعيدًا عن تلك المُجرمة، إلا أنّ الذي فضَحَ أمرها كان الناطور. فبعد أن طلبتُ منه الإنتباه عليّ مِن تلك المرأة التي قد تكون التي سمّمَت قططي، صار هو يُراقبُ ويستمعُ إلى كلّ ما يجري. فالحقيقة أنّه لَم يحبّ سُعاد، لأنّها عاملَته بإزدراء وأسمعَته مرارًا كلامًا مُجرّحًا. ولقد سمِعَ كشأني صوت الشجار الذي دارَ بين سُعاد وزوجها قبل اطلاق النار، فذهَبَ إلى الشرطة ليُدلي بشهادته. وما هو أهمّ، فلقد رأى ذلك الناطور شخصًا يُغادر المبنى مِن جهّة الحديقة، الأمر الذي ساعَدَ المُحقّق على رسم الصّورة بكاملها وسجن جارتي بانتظار المُحاكمة. شكرتُ ربّي على أنّ ما مِن أحد طلَبَ منّي أيّة شهادة، لأنّني لَم أكن مُستعدّة لتوريط نفسي بل ما أردتُه هو أن أعيش بسلام.

بعد صدور الحكم على أمّهم، ترَكَ أولاد سُعاد الشقّة، ورحلوا إلى مكان بعيد حيث لا يعرفُ أحد ما فعلَته بأبيهم. مساكين هؤلاء الأولاد... فما ذنبهم إن كانت أمّهم إنسانة بغيضة وخائنة وقاتلة؟ ربمّا هم بأفضل حال مِن دونها، فمَن يعلم إلى أيّ حدّ كانت ستصل هذه المرأة لحماية سرّها وعَيش الحياة التي أرادَتها، فقد إتّضَحَ أنّها مِن الذين لا يتردّدون على إيذاء كلّ مَن يقفُ في طريقهم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button