جاء خلاصي عن يَد بائعة زهور

أوّل لقاء لي مع سَمَر كان في مكان عملها حين توجّهتُ إلى صالة عرض وكيل للسيّارات معروف. وكانت تلك الفتاة هي التي إستقبلَتني ورافقَتني في إختيار المركبة المناسبة لي والتي كنتُ أوّد شراءها. ولكثرة جمالها ودلالها وذكاءها وجدتُ نفسي مشدوداً لها وحتى بعد أيّام على رؤيتها لم أستطع محوها مِن رأسي. لِذا تحجّجتُ بأنّ لدَيّ أسئلة أخرى لأذهب مجدّداً إلى المؤسّسة. وبعد عدّة زيارات لا لزوم لها إشترَيتُ أخيراً السيّارة ولكن ليس قبل أن أنتشل مِن فتاة أحلامي رقم هاتفها. ولأنّها كانت هي الأخرى قد أُعجبَت بي فلم تمانع أن نبقى على تواصل. وكانت هناك أحاديث هاتفيّة عديدة ثم لقاءات حول فنجان قهوى وغداوات وعشوات حتى أن أطلعتُها على نيّتي في توطيد علاقتنا أي أن نرسم سويّاً خطوط مستقبلنا.

لِذا أخبرتُ أمّي عنها مطوّلاً متغنّياً بمزاياها العديدة وفرِحَت هذه الأخيرة أنّني قرّرتُ الإرتباط بأحد بعدما كانت قد بدأت تفقد الأمل بأن تراني عريساً وأباً. فجئتُ بسَمَر إلى بيتنا وجلسَت الإمرأتين سويّاً تتحّدثنَ عن أمور عديدة وعندما سألتُ والدتي عن رأيها بها قالت لي:

 

ـ يا بنّي... سَمَر فتاة جميلة ومثقّفة ولكنّني لا أدري إن كانت مناسبة لكَ...

 

ـ لماذا تقولين ذلك يا أمّي... هل صدَرَ منها أيّ شيء؟

 

ـ أبداً... كانت لطيفة للغاية ولكن... لدَيّ شعوراً لا أستطيع تفسيره... ربما هو نتيجة خبرة طويلة في الناس... أظنّ أنّها مهتّمة فقط بأحوالكَ الماديّة والإجتماعيّة... لا تنسى أنّكَ رجل أعمال كبير وأنّ لديكَ الكثير... أكثر مِمّا سيكون لديها يوماً...

 

ـ لا أظنّ أنّكِ على حقّ... لم يصدر منها أيّ شيء يدلّ أنّها تريد مالي... صحيح أنّها ليست غنيّة ولكنّها تعمل بإخلاص وتحصل على مالها مِن عَرَق جبينها... ربمّا ستريَن ذلك في اللقاءات القادمة.

 

ولكنّ والدتي لم تقتنع بما قلتُه لها وقرَّرَت التحرّي عن حبيبتي بواسطة شبكة معارفها الواسعة وحصَلَت على معلومات لم أكن أدري بها وأهمّها أنّ سَمَر كانت متزوّجة فيما مضى. ورغم إستغرابي الشديد غضِبتُ مِن والدتي وقرّرتُ ألاّ أطلعُها عن شيء يخصّ فتاة عمري. ولكنّني قرّرتُ أيضاً أن أسأل سَمَر عن صحّة ذلك الخبر وهذا ما أجابَتني:

 


ـ أجل... هذا صحيح... كنتُ متزوّجة ولم أخبركَ بذلك لأنّني لم أشأ أن أتذكّر تلك الأيّام الأليمة... كل ذلك أصبح ورائي الآن ومعكَ فتحتُ صفحة جديدة... كان زوجي رجلاً قاسياً وعاملَني بطريقة وحشيّة فإلى جانب الشتائم كان يضربني أيضاً... أرجوكَ يا حبيبي... لا تدَع هذه الأمور تقف بيننا... أنا أسفة... أعدُكَ بألاّ أخفي عنكَ شيئاً بعد الآن.

 

وبالطبع سامحتُها بعدما أخبرَتني عن مأساة زواجها مِن ذلك الوحش وأخذتُها بين ذراعيّ ووعدتُها أنّني سأعوّض لها عن عذابها معه. وإمتلأ قلبي بالغضب تجاه أمّي وكل مَن ساهمَ في تداول الخبر وقرّرتُ أنّه مِن الأفضل أن أتزوّج مِن سَمَر سرّاً لِتفادي المشاكل فلم أكن يافعاً للحصول على رضى أحد بعدما بلغتُ الأربعين مِن عمري ومركزاً مرموقاً في المجتمع.

وبدأتُ أحضرّ مع سَمَر تفاصيل الزفاف بعدما أعرَبتُ لها عن نيتّي في إقامة حفل بسيط ولكن دون أن أقول لها عن السبب لكي لا أجرح شعورها وطلبتُ منها ألاّ تكبّد نفسها في جلب شيء سوى فستان الأبيض الذي كنتُ سأدفع ثمنه بنفسي. وحجزتُ القاعة وإتصلتُ بالمصوّر وعندما كنتُ عند بائع الزهور لإختيار الزينة المناسبة إقترحَت الموظّفة أن تصنع لنا أحرف أسامينا مِن الورد فأعجبَتني الفكرة كثيراً وأعطيتُها إسمي وإسم خطيبتي. عندها صَرَخَت الفتاة:

 

ـ لا تغضب منّي ولكنّي لا أحبّ إسم سَمَر...

 

ـ عجيب ذلك... ولماذا؟

 

ـ لأنّه يذكرّني بتلك الفاجرة التي سَرَقَت منّي زوجي...

 

ـ أنا آسف لِسماع ذلك... ولكنّ حبيبتي ليست كذلك... هي إنسانة رقيقة وتتحلّى بأخلاق عالية...

 

ـ أعلم... ولكن ذلك الإسم يجعل شعر بدني يقشعرّ... كنتُ سعيدة مع زوجي ولم يكن قد مضى على زواجنا أشهر حتى أن قرّرَ أن يشتري لي سيّارة جديدة... لم أكن أعمل كبائعة زهور آنذاك لأنّنا كنّا أغنياء... أعني زوجي كان غنيّاً ولم يكن لِيدَعني أعمل عند أحد...

 

ـ قلتِ ذهَبَ لشراء سيّارة؟

 

ـ أجل... وكانت تلك الغانية تعمل هناك... بقيَت وراءه حتى أن وضعَت يدها عليه... وبدأ يتغيرّ معي ولكنّني لم أشكّ يوماً بأنّ إمرأة غيري دخَلَت حياته بل ظننتُ أنّ لديه مشاكلاً في عمله... ولكن بعد فترة إعترَفَ لي أنه واقع في غرام"سَمَر" وأنّه يريد أن يطلّقني... بكيتُ كثيراً عندما تركَني ليتزوّجها ولكنّ دموعي جفّت كليّاً بعدما علِمتُ أنّها جرّدَته مِن معظم ممتلكاته وأجبرَته على تطليقها... لستُ على علم بكل التفاصيل ولكنّني علِمتُ أنّها هدّدَته بِفضحه بعدما أخبرَها عن أسرار عمله والأساليب الملتوية التي كان يتبعها مع عملائه... لقد نال جزاءه... أنا آسفة سيّدي على أخبارك كل هذا ولكنّ ذكر ذلك الإسم يزعجني... على كل الأحوال لقد مضى على تلك القصّة وقتاً طويلاً والآن أنا مخطوبة لِشاب لطيف ومحبّ... أتمنّى لكما كل التوفيق...

 


خرجتُ مِن محل الزهور مهموم وأفكرّ بالذي سمعتُه. هل يُعقل أن تكون حبيبتي هي نفسها التي سرقَت زوج البائعة؟ سَمَر هو إسم شائع ولا بدّ أن يكون هناك أكثر مِن فتاة بذلك الإسم تعمل في صالة عرض سيّارات. وحين إلتقَيت بخطيبتي كنتُ قد نسيتُ الموضوع لكثرة سخافته. ولكن عندما سألَتني عمّا فعلتُه بشأن الزهور أخبرتُها ضاحكاً قصّة البائعة المسكينة. وأقسمُ أنّني لم أكن لأشكّ بشيء لولا رأيتُ ملامح سَمَر تتغيّر. ولكن سرعان ما عادَت لها البسمة وأكملنا حديثنا بشكل طبيعيّ. وقبل أن أرحل قالَت لي سَمَر:

 

ـ أتعلم شيئاً؟ لقد قرأتُ في مجلّة مختصّة أنّ الزهور لم تعد رائجة في الأعراس وتُستبدَل الآن بالأضواء والأشياء الزخرفيّة... دعنا مِن الورود... أريد عرساً حديثاً.

 

حينها أدركتُ أنّها تخفي أموراً عنّي وأوّل شيء فعلتُه هو الذهاب لأمّي لأسألها عن مصدر معلوماتها عن خطيبتي. وبالرغم أنّها رفضَت الإفصاح عن الشخص الذي أخبرَها عن زواج سَمَر إستطعتُ إنتشال هويتّه منها وقصدتُ المرأة التي تعرف الكثير عن التي ستصبح زوجتي. وقرَعتُ باب تلك السيّدة وتفاجأتُ برؤية بائعة الزهور واقفة أمامي. وصرختُ لها:

 

ـ أنتِ؟؟؟

 

ـ ماذا تفعل هنا سيّدي؟ هل هناك مِن خطب في طلبيّة الزهور؟ كان يجدر بكَ أن تقصدَني في مكان عملي...

 

ـ لم أكن أعلم أنّكِ تقيمين هنا

 

ـ ولِمَ جئتَ إذن؟

 

ـ جئتُ لأنّ أمّي أعطَتني عنوان التي أخبرَتها عن خطيبتي...


ـ وما إسم أمّكَ؟


ـ جنان س.

 

ـ أجل... أمّكَ صديقة حماتي السابقة... ولكن... لم أفهم عمّا تتكلّم...

 

ـ أمّي سألَت على ما أظنّ كل مَن تعرفه عن ماضي خطيبتي سَمَر ولا بدّ أن حماتكِ أخبرَتها عنكِ وأنتِ بدوركِ أخبرتيها عمّا جرى لكِ بسببها... أليس كذلك؟

 

ـ أجل... ولكنّني لم أكن أعلم حين جئتَ إلى محل الزهور أنّكَ أنتَ الذي ينوي الزواج مِن التي سَرَقت زوجي منّي... أنا آسفة...

 

ـ إنّها صدفة غريبة... البلد مليء بمحلّات الزهور وقصدتُ مكان عملكِ بالذات...

 

ـ إذاً عليكَ الأخذ بعين الإعتبار ما يحاول القدر قوله لكَ.

 

وتأثّرتُ كثيراً بجملتها الأخيرة لأنّ ذلك كان صحيحاً وكان عليّ أخذ قراراً إستناداً لا على مشاعري بل على المنطق. وقصدتُ سمر وواجهتُها. في البدء نكرَت كل شيء ولكنّ الأدلّة ضدّها كانت كثيرة فإعترفَت بالحقيقة ولكنّها بقيَت مصرّة على صدق حبّها لي. وكنتُ أودّ تصديقها ولكنّ الأكاذيب والخطط كان كثيرة وفسختُ خطوبتي معها.

وضربَني يأس عميق لم أخرج منه إلا عندما إتصلَت بي أمّي بعد بضعة أشهر وأخبرَتني أنّ سمر تزوّجَت مِن صاحب معرض السيّرات بعدما طلّقَ هذا الأخير زوجته وتركَ أولاده.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button