يوم افتتحتُ محلّي، كنتُ فخورًا جدًّا بنفسي، فحتّى ذلك الحين كنتُ عامِلاً في عدّة محلات مجوهرات، وها أنا صاحب إحداها! فالمالك السابق الذي أمسى عجوزًا ومريضًا، عرَضَ عليّ أخذ مكانه شرط أن أبيع فقط الحلى والمجوهرات. قبلتُ شرطه بعد أن ساومتُه على المبلغ الذي سيأخذه منّي مقابل المحلّ. فقد كنتُ موهوبًا بالتجارة منذ صغري، وعلِمَ الرجُل أنّ مِن مصلحته عدَم المُناقشة، فلطالما حصلتُ على مُبتغايَ. أقمتُ حفلاً ضمّ المعارف والأقارب وزبائننا الأوفياء، وقدّمتُ مجموعة مُجوهرات جديدة نالَت إعجاب الجميع. بين الحضور كانت هناك أيضًا تلك الصبيّة الجميلة التي أتَت إلى المحلّ مرارًا لتشتري قطع ذهب صغيرة لأولاد إخوَتها، فهي لَم تكن ثريّة كباقي زبائني. وهذا ما أعجبَني فيها، فالجدير بالذكر أنّني ابن أناس مُتواضعين فأعلمُ ما يعني أن يكون المرء قليل الدخل. وفي ذلك اليوم، وسط التهاني والأجواء المرِحة، نظرتُ إلى مايا وقلتُ لنفسي إنّها ستكون زوجتي يومًا. لِذا قبل رحيلها، أخذتُها خارجًا وطلبتُ منها رقم هاتفها تحت ذريعة أنّني جئتُ بمجموعة قطع ذهبيّة صغيرة بسعر تنافسيّ. شكرَتني الصبيّة ورحلَت. إبتسَمتُ وأنا أُراقبُها تختفي عند المُنعطف، فكما قلتُ سابقًا، كنتُ أحصلُ دائمًا على ما أريدُه، ومايا كانت مَن أريده.
لن أطولَ بالشرح عن الذي جرى بين ليلة الافتتاح وطلَبي يَد مايا، فتلك التفاصيل ليست مهمّة بحد ذاتها. فقد إنتهى المطاف بنا مُتزوّجَين للسّراء والضرّاء، وحسبتُ نفسي سأعيشُ حياة زوجيّة جميلة. لكنّ خطئي كان أنّني كنتُ كثير الثقة بنفسي، لدرجة أنّني لَم أسأل بطريقة عميقة عن مايا، بل اكتفَيتُ بالذي روَته عن نفسها، فلماذا تكذب حبيبتي عليّ؟
بداية زواجنا كانت بالفعل جميلة، إذ أنّ مايا كانت حنونة وعاقلة وستّ بيت ممتازة. إلا أنّها بدأت تسأمُ في البيت لوحدها، إذ أنّ دوام عملي كان طويلاً. فلَم يكن لدَي موظّفون بل أعمل لوحدي طوال النهار. فالجدير بالذكر أنّ أبي طالما ردّد عليّ: "إيّاكَ أن تثق بأحد، فوحده صاحب المصلحة يغار على مصلحته". لكنّني عرضتُ على زوجتي مُساعدتي في المحل، وبذلك لم أكن أعمَل عكس نصيحة أبي، ألَم تكن مايا ستغارُ أيضًا على مصلحتي؟ فرِحَت عروسي كثيرًا، فصارَت تتعرّف على الزبائن وتتبادَل معهم الأحاديث. إلا أنّني كنتُ أودّ أن تصيرَ زوجتي أمًّا، وتأتي لي بولَد أعلّمه فنّ صناعة المجوهرات وبَيعها. وافقَت مايا طبعًا، فهي الأخرى كانت تُريدُ طفلاً، لكنّها أرجأت الموضوع إلى ما بعد انتقالنا إلى البيت الجديد، الذي كنتُ بصدد تشييده في منطقة راقية تليقُ بالمقام الذي وصلتُ إليه. هي كانت على حقّ، فكيف أعرّضُها للتعَب والهمّ أثناء حَملها؟ على كلّ الأحوال، كانت أفكار ونصائح مايا دائمًا صائبة، الأمر الذي أفرَحَني، فأكثر ما أُبغِضه هو إمرأة غبيّة أو ساذجة.
سرعان ما صارَت زوجتي تعرفُ الكثير عن عالم المُجوهرات والذَهب، فيوم صدمَتني درّاجة ناريّة أثناء عبوري الطريق وكُسِرَت رِجلي ويَدي، كان بالي مُطمئنًّا على حسن سَير محلّي. وبالفعل، باعَت مايا الحلى وكأنّني موجود، فهنّأتُها ووعدتُها بهديّة جميلة حين أشفى.
يوم عدتُ إلى المحل أخيرًا، وجدتُه نظيفًا للغاية، والواجهات تبرقُ برقًا لَم أرَه مِن قبل وزوجتي تبتسمُ لي بفخر. شكرًا يا ربّي على هكذا زوجة! لكنّني تفاجأتُ برجُل يخرجُ مِن الحمّام فأسرعَت مايا بالقول:
ـ إنّه وائل، إبن عمّي، لا تقلَق.
ـ إبن عمَّكِ؟ لَم أرَه في حياتي.
ـ هو كان مُسافرًا لكنّه عادَ لقضاء بضعة أشهر في البلَد. ولقد استعَنتُ به، فكيف لإمرأة أن تبقى طوال اليوم لوحدها في محلّ مُجوهرات؟
ـ لكنّكِ لَم تذكري أمامي أنّ هناك شخصًا معكِ في المحل، فأنا أعيشُ معكِ ونلتقي كلّ مساء!
ـ لَم أرِد أن تشغلَ بالكَ يا حبيبي، فأنتَ لَم تُفكِّر بأنّ على أحد أن يتواجَد معي في المحل.
ـ أنتِ على حقّ.
تعرّفتُ إلى وائل الذي كان شخصًا لطيفًا للغاية، وأخبرَني عن حياته وعائلته في المهجر. وهو اقترَحَ عليّ فتح فرع لمحلّي حيث هو، وشرَحَ لي أنّ اسمي باتَ معروفًا في الكثير مِن البلدان. أعجَبت الفكرة مايا، وبدأَت تتوسّل إليّ أن أقبَل وكأنّها طفلة صغيرة، الأمر الذي أضحكَني، فوعدتُها بأنّ أفكِّر بالأمر. بعد ذلك، دعانا وائل إلى العشاء في مطعم جميل، وصرنا نتقابل إمّا عندنا أو في أماكن عامّة. للحقيقة أحبَبتُ وائل، فكانت لدَيه أخبار مُشوّقة وأفكار مُثيرة، ورأيتُ فيه نسخة عنّي عندما كنتُ أصغر سنًّا. فكان مِن الواضح أنّه شابٌ طموح، وسيصل إلى مُبتغاه بالتأكيد، تمامًا مثلي. وعندما سافَرَ وائل، أعترفُ أنّني شعرتُ بوطأة غيابه.
إنتهى تشييد بيتي الجديد، فانتقلَنا إليه وذكّرتُ مايا بوعدها بالحَمل بعد انتقالنا. هي ابتسمَت لي وقالَت لي بحنان: "سيحظى إبننا بأفضل أب في العالم، تمامًا كما حظيتُ بأفضل زوج في العالَم". إمتلأت عينايَ بالدموع، فكان مِن الواضح أنّني الرجُل الأكثر حظًّا في العالَم!
لكنّ سعادتي كانت مُزيّفة ككلّ شيء مُتعلّق بمايا. هل كنتُ رجُلاً ساذجًا لهذه الدرجة، بينما اعتبَرتُ نفسي ذكيًّا ومُحنّكًا؟ أجل.
فبعد فترة قصيرة، أعادَت مايا تذكيري بمشروع فتح محلّ في المهجر، وأصرَّت عليّ أن أقبَل الفكرة، فقبِلتُها. إلا أنّ وائل لَم يكن قادرًا على المجيء لنتّفِق على التفاصيل، فاقترحَت زوجتي أن تُسافر هي بما أنّني لَم أكن مُستعدًّا لترك محلّي. لَم تُعجبني الفكرة كثيرًا إلا أنّ مايا أقنعَتني قائلة:
ـ حبيبي، أنا صرتُ أعرفُ الكثير عن مصلحة المُجوهرات وأستطيع الحلول مكانكَ. أليس علينا مُعاينة المحلّ هناك وموقعه ونوعيّة الزبائن؟ إضافة إلى ذلك، لا أظنّ أنّ مِن الصائب أن تبعثَ لوائل المال لشراء المحلّ حتّى لو كان قريبي. ألَم يقُل لكَ أبوكَ ألا تثِق بأحد إلا بأصحاب المصلحة؟ وأنا وأنتَ شخص واحد. إسمَع منّي يا حبيبي... فلَم أخذلكَ مِن قبل.
أقنعَتني مايا بنظريّتها، لكنّني شارطتُها بألا تقوم بأيّ خطوة في الخارج مِن دون علمي وموافقتي. غبيّ بالفعل!
سافَرَت مايا وودّعتُها في المطار، لأعودَ إلى منزل جميل فارغ. لكنّ انتظاري كان قصيرًا مبدئيًّا، إذ كان مِن المُتّفق أن تعودَ زوجتي الحبيبة بعد أسبوعَين على الأكثر.
صارَت مايا تبعثُ لي صوَر محلات عديدة لأختار منها، حسَب معرفتي ليس فقط بالمحلات بل بالمناطق نسبة لنوعيّة سكّانها وطبيعتها. وقَعَ إختياري على أحدها، وبعد مُساومة بسيطة قامَت بها زوجتي مع المالك بالنيابة عنّي، بعثتُ لها المبلَغ المطلوب عبر كاتب بالعدل هناك. كنتُ سعيدًا أنّ حبيبتي قامَت بكلّ ذلك لوحدها، فكنتُ أُريدُها أن تفتخِر بنفسها. ثمّ انتظرتُ أن يملأ وائل المحل بالمُجوهرات لأعتبر أنّ المشروع قد انطلقَ بالفعل. لكنّني لَم أحصل على الصوَر المُنتظرة والتي كانت مُهمّة بالنسبة لي كثيرًا، فذلك كان مُرتبطًا بإسمي وسُمعتي كبائع مُجوهرات. كلّ ما رأيتُ مِن المحلّ كانت صورة لوائل ومايا واقفَين أمام الواجهة الفارِغة. مهلاً! ماذا أرى؟ يافطة تحمِل اسمًا غير اسمي؟!؟ إتّصلتُ بزوجتي على الفور وسألتُها عن الأمر، فضحِكَت وقالَت لي إنّه اسم المالك القديم وإنّ اليافطة الجديدة لَم تجهَز بعد. إرتاح قلبي، فاعتذَرتُ منها وتحجّجتُ بوطأة غيابها عنّي. وكم فرِحتُ عندما أخبرَتني أنّها ستحجز تذكرة العودة بعد أيّام، ووعدَتني بأنّ لدى عودتها سنعمَل على مسألة الحمَل! إمتلأ قلبي بالحبّ والأمَل وانتظرتُ أن تعودَ لي حبيبة عُمري.
إلا أنّ مايا لَم تعُد بل انقطعَت أخبارها تمامًا! خابَرتُ أهلها الذين تفاجأوا مثلي وانتابهم الهمّ، إلا أنّ صديقة لها إتّصلَت بي قائلة:
ـ أنا آسِفة... كيف أقولُ لكَ هذا... أعذرني مُسبقًا فلا دَخل لي بالموضوع، إذ أنّني لستُ سوى حاملة الخبَر.
ـ
ما الأمر؟ تكلّمي! هل خطَفَ أحد زوجتي؟ هل أتّصلُ بالشرطة هناك؟ ماذا عن ابن عمّها؟ هو الآخَر لا يُجيبُني!
ـ مايا بخير لكنّها لن تعودَ إليكَ بل ستبقى هناك. لا تنتظرها، ثِق بي.
ركضتُ عند أهل زوجتي، وهناك إكتشفتُ أن ليس لدَيها إبن عمّ إسمه وائل أو حتّى أيّ إبن عمّ في المهجر. وحسَب المواصفات التي أعطَيتُها لهم عن الذي إسمه وائل، إتّضَحَ أنّه حبيبها السابق، وهو شابّ فاشِل رفضَ أبوها أن يُعطيه إبنته لأنّه غير نافِع.
أخذتُ أوّل طائرة إلى ذلك البلَد، وقصدتُ العنوان حيث المحلّ الذي اشترَيتُه، لكنّني لَم أجِد سوى منازل سكنيّة قديمة. فلقد أعطَتني مايا عنوانًا وهميًّا وربّما مدينة مُغايرة تمامًا! كيف أجِدُها أو وائل أو المحلّ في هكذا بلد كبير؟!؟ وماذا عن ذلك الكاتب بالعدل؟ أوراق حتمًا مُزوّرة وشخص وهميّ آخَر! عدتُ أدراجي مُكتئبًا، فكنتُ قد خسِرتُ زوجتي ومالي في غضون أيّام! لكنّ سمعَتي كبائع مُجوهرات والحمدلله كانت لا تزال صامِدة... أو لا؟
فقد دخَلَ محَلّي أحَد زبائني والغضب بائن على وجهه وفي صوته، وناداني بالنصّاب، فلقد اكتشَفَ أنّ الأحجار الموجودة في القطعة التي اشتراها ليست سوى زجاج ملوّن! بعد ذلك تتالى الزبائن حاملين الشكوى نفسها! ماذا فعلتِ بي يا مايا أثناء مكوثي في البيت بعد أن صدَمتني الدرّاجة الناريّة؟!؟ مهلاً... هل تلك الحادثة كانت صدفة أم مُفتعلة؟ لن أعرفَ يومًا الجواب. لكن ما أنا أكيد منه هو أنّ مايا وشريكها بدّلا الأحجار بمُساعدة خبير مجوهرات فاسِد! يا إلهي... خلتُ نفسي وسط فيلم أجنبيّ!
دفعتُ لزبائني كلّهم ثمَن القطَع الأساسيّة، أي شارفتُ على الإفلاس بعد أن خسِرتُ ثمَن المحلّ الوهميّ أيضًا. ذهبَت سمعتي التي بنَيتُها خلال سنوات طويلة، فمَن سيشتري منّي أيّ شيء بعد ذلك؟
بعتُ بيتي الجديد بنصف ثمنه، وبعتُ محلّي وكلّ ما أملكه، وسافَرتُ بعيدًا لأنسى مايا ووائل ومصلحتي في المُجوهرات.
لكن لَم أعرِف شيئًا عن زوجتي وعشيقها. أقولُ زوجتي لأنّني لَم أطلّقها وذلك لأمنعها مِن الزواج مِن ذلك النصّاب. لكن لدَيّ أحساس بأنّ القصّة لَم تنتهِ بعد، وأنّ يومًا سيأتي وأسمَع عنهما أو ألتقي بهما. وعندها، سيريان وجهًا منّي لَم يشكّان بوجوده. فحذارِ مِمَّن خسِرَ كلّ شيء!
حاورته بولا جهشان