ثلاثة أشخاص، فمن السارق؟!

حين علِمتُ السبب الحقيقيّ وراء اهتمام أولادي المُفاجئ بي، تملَّكَني غضب كبير. فقبَل ذلك، هم تركوني لوحدي سنوات طويلة بحجّة الانشغال بعائلاتهم وكأنّني لستُ فردًا مِن عائلاتهم. مَن أعطاكم الحياة وكبّرَكم وسهِرَ عليكم إلى حين صرتم قادرين على مواجهة الحياة، يا أولادي الأعزّاء؟!؟

وبدأوا يأتون إليّ الواحد تلوَ الآخر، ولفترة حسبتُ حقًّا أنّ الله استجابَ لصلواتي وعادَت عائلتنا مُجتمعة كالسابق. إلا أنّ الحقيقة كانت بشعة للغاية: كنتُ مُصابة بداء خبيث وكانت أيّامي المُتبقيّة، على ما يبدو، قليلة. عرفتُ حقيقة وضعي الذي أخفاها عنّي أولادي، حين اتّصلَت بي سكرتيرة الطبيب الذي كنتُ أقصدُه مِن أجل الأوجاع التي سكنَت جسدي. هي قالَت لي إنّ نتائج فحوصاتي الجديدة جاهزة، وإنّ ابني البكر لا يُجيب على هاتفه ليمرّ بالعيادة لأخذها كعادته. عندها أرسلتُ إليها السائق الذي يجلبُ لي حاجيّاتي، وهو عادَ إليّ بالنتيجة. بكيتُ بعد أن فهمتُ أنّني سأموتُ قريبًا، ثمّ نشّفتُ دموعي وأخذتُ أُراجعُ في فكري كيف أنّ "فلذات كبدي" أحاطوني فجأة. ولأنّ الأمّ تعرفُ أولادها عن ظهر قلب، فهمتُ أنّ تلك العاطفة الجيّاشة موجّهة إلى الذي سأتركُه لهم بعد مماتي، أي أموالاً ومجوهرات وأرزاقًا كثيرة. فزوجي، رحمه الله، كان رجُل أعمال كبير، عمِلَ طوال حياته ليُوفِّر لنا كلّ ما نحتاجُه وأكثر. ولقد ورثوا كلّهم حصّة كبيرة بعد مماته لكنّهم صرفوها بغضون سنوات قليلة. وها هم يُريدُون وضع يدهم على حصّتي التي لَم ألمسها، بل حافظتُ عليها مِن أجل شيخوختي.

ولأنّ عدَدَ أولادي أربعة، قرّرَ كلّ واحد منهم استمالَتي قَبل أن أرحل، على أمَل أن أُخصِّصه شخصيًّا بقطعة أرض أو شقّة أو ذهب أو مبلغ مِن المال. وهم استعملوا طرقًا عديدة لذلك، ووصَلَ بهم المطاف إلى استعمال أولادهم لنَيَلِ عاطفتي، فسكنوا عندي لأشهر ودلّعوني وخدموني، بينما إعتقدتُ أنّهم أدركوا أنّهم أهمَلوني لفترة طويلة لا بَل أداروا ظهرهم كلّيًّا لي وكأنّني لستُ موجودة على الاطلاق. ففي فترة عُزلتي، إستعَنتُ بالغرباء، كالعامِلة والسائق وآخَرين للقيام بأبسط الأمور، وأنا شاكرة لهؤلاء الذين حلّوا مكان أولادي.

 

جلستُ وفي يَدي نتائج فحوصاتي والتقرير الواضِح الذي كان بمثابة حكم بالإعدام، لكنّني لَم أخَف مِن الموت كما قد يفعَل أيّ إنسان غيري، بل خفتُ أنّ أكون قد أخفَقتُ بتربية أولادي، فلا بدّ لي أن أكون، ولو جزئيًّا، مسؤولة عن قلوبهم المُتحجِّرة. أبوهم كان المسؤول الأكبَر، إذ عوّدَهم على مدّ يدهم له طلبًا للمال مِن دون مُقابل، فاعتقدوا أنّ كلّ شيء يجب أن يصل إليهم بالطريقة نفسها. أخذوا ولَم يعطوا ولن يعطوا.

نادَيتُ العاملة والسائق الذي يسكنُ في غرفة في الحديقة، وأخبرتُهما أنّني سأموت قريبًا، وهما بكيا. دموعهما كانت آتية مِن حزن صادق، فهما رافقاني لسنوات طويلة وباتا بمثابة أفراد عائلتي. طمأنتُهما بأنّني سأتركُ لهما مبلغًا يكفيهما حتى يجِدا عملاً آخر، وسألتُهما إن كان هناك مِن أغراض في البيت يُريدانها، فاختارَ كلّ منهما ما أراده وشكراني أيضًا باكييَن. كَم كنتُ سأشتاقُ لهما!

خطوَتي التالية كانت كتابة قائمة تضمّ كلّ الذي أردتُ تحقيقه أو فعله ولَم أجِد الوقت لذلك. ومِن بين عناصر كلّ تلك القائمة، تميّزَ شيء عن الباقي: السفَر حول العالَم. لكن هل كانت صحّتي ستسمحُ لي بالقيام بهكذا سفرة؟ وما هو أهمّ، هل كان لدَيّ الوقت الكافي لذلك؟ قرّرتُ عدَم التفكير بتلك الأمور والمضيّ بمشروعي. فالشؤون الماليّة لَم تكن العائق أبدًا، ألَم يكن ذلك المال مالي؟ وبقيَ لي اختيار مَن سيُرافقُني في رحلتي، فكان مِن غير الحكيم أن أذهب لوحدي. وقَعَ الاختيار على شخصَين: عاملَتي الوفيّة التي هي سيّدة أرملة لا أهل أو أولاد لها والتي لَم تطأ قدَمها يومًا حدود بلدنا، وابنة ابني البكر داليا التي كنتُ أكن لها مودّة خاصّة بسبب لطفها ورقّتها. داليا كانت في الخامسة والعشرين مِن عمرها ولا تزال عزباء بالرغم مِن جمالها.

 

تفاجأ أولادي كثيرًا حين اطلعتُهم على نيّتي السفَر لمدّة أشهر، ليس طبعًا بسبب مرضي الخبيث، بل لأنّني كنتُ سأُبّدِدُ قسمًا كبيرًا مِن مالي، الأمر الذي عاكَسَ آمالهم بشكل جذريّ. فبدأوا يُحاولون الواحد تلوَ الآخر تغيير رأيي، لكنّني لَم أتأثّر بحججهم بل بقيتُ مُصرّة على قراري. وحده ابني البكر كان أكثر ليونة مِن إخوَته، حتمًا لأنّني سأصطحِب معي ابنته، فهي في آخِر المطاف ستستفيد مِن مالي بشكل أو بآخَر.

بعد حجز تذاكر السفَر ووضع خطّة لِمسارنا عبر الدول والقارات، سلّمَني مكتب السفريّات كلّ المُستندات اللازمة فحزَمنا حقائبنا العديدة. لن تتصوّروا مدى حماسي وفرحتي، فكنتُ سأرى العالم بوسعه وناسه وحضاراته المُختلفة، قَبل أن أتركه . شكرتُ زوجي الحبيب على تلك الهديّة، فلولا تعبه لمَا وجدتُ المال اللازم لتحقيق حلمي. جاءَت حفيدتي داليا لَتبيت عندي كَي نتمكّن مِن الذهاب إلى المطار عند طلوع الفجر، فجلستُ معها وعاملتي أقصُّ عليهما بعض محطّات حياتي الحافلة. نادَيتُ السائق وتناولنا كلّنا بعض السندويشات والشاي. عادَ السائق إلى غرفته ونمنا نحن الثلاثة بضع ساعات نومًا عميقًا، وقلبنا مليء بالحماس للمغامرات التي تنتظرُنا. عند الفجر، إستفقتُ على مُكالمة مِن سائقي يقولُ لي إنّه في الخارج ينتظرُنا مع السيّارة.

لكن كَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين اكتشفتُ أنّ حقيبة يدي التي تحتوي على المال والبطاقات المصرفيّة اختفَت! في البدء ظننتُ أنّني وضعتُها في مكان آخَر، إلا أنّني فتّشتُ عليها مِن دون أن أجِدها. ركضتُ إلى خزانتي حيث أُبقي مُجوهراتي فوجدتُها فارغة! يا إلهي، كان أحد قد سرَقَني أثناء نومي! كيف يحصلُ ذلك في حين أنّ كلّ الأبواب مُقفلة؟!؟ نادَيتُ داليا والعامِلة وأطلعتُهما على إكتشافي وخابَرتُ السائق ليأتي إلى الداخل. مَن سرَقَ ذلك المبلغ الضخم وحُلايَ؟!؟ بكيتُ دموعًا حارّة أوّلاً لأنّ أحدًا مُقرّبّا منّي قد خانَ ثقتي، وثانيًا لأنّني لَم أعُد قادرة على تحقيق حلمي. فالجدير بالذكّر أنّني لستُ مِن الذين يثقون بالمصارف كلّيًّا، فمعظم مالي كان بحوزتي والباقي في حساب أستعملُه للعمليّات الصغيرة عبر البطاقات. ولَم يكن لدَيّ خزنة في البيت لأنّني كنتُ موجودة فيه شبه دائمًا، فالذي سيسرقُني عليه قتلي أوّلاً لوضع يده على أموالي ومجوهراتي.

إستجوَبتُ داليا والعامِلة والسائق الذي يملكُ نسخة عن مُفتاح البيت. فشكَّيتُ بكلّ منهم على السواء وهم أنكروا طبعًا تورّطهم، بل قالَت لي حفيدتي إنّها نامَت نومًا عميقًا وكذلك العاملة، وأكّدَ لي السائق أنّه بقيَ في غرفته الموجودة في الحديقة طوال الليل ولَم يُلاحظ شيئًا على الاطلاق. مرَّت ساعتان وأنا أُحاول استنطاق هؤلاء الناس، واعدة إيّاهم بأنّني لن أطلبَ الشرطة إن اعترفَ أحدهم بالسرقة، بل سأكتفي باسترجاع ما هو لي، لكن مِن دون جدوى. جلستُ على أريكة الصالون بحزن عميق، وتذكّرتُ حالتي الصحّيّة المُميتة فازدادَ يأسي وحزني. مَن يفعلُ ذلك بعجوز لَم يتبقَ لها الكثير لتعيشَه؟ هل فقَدَ الناس رحمتهم؟

إتّصلَت داليا بأبيها الذي وصَلَ بسرعة، وهو اقترَحَ أنّ الحلّ بِيَد الشرطة وحدها، وأنّ المُحقّقين يعرفون كيف يُجبرون العاملة والسائق على الاعتراف. أسفتُ كثيرًا لأنّني كنتُ أكنّ لهذَين الشخصَين مودّة عميقة وصادقة. لماذا لَم يطلُبا منّي ما هما بحاجة إليه؟ كنتُ قد لبَّيتُ طلبهما مهما بلَغَ. وعامِلَتي؟ ألَم تكن مدعوّة للسفَر معي حول العالم؟ هل هي اعتبرَت أنّ المال الذي سأصرفُه عليها بالسفر ذاهبٌ سدىً، وأنّها بحاجة إليه لأمور أخرى أو لتأمين حياتها بعد مماتي؟ والسائق؟ ربما هو الآخر أرادَ الاستفادة مِن مالي وعائلته الذي هو بعيد عنها، قَبل أن يضطّر لإيجاد عمَل آخر حين أُغادِر هذه الدنيا. وماذا عن داليا؟ للحقيقة لَم أكن أعرفُها حقًّا، فلَم أرَها كثيرًا وكلّ ما لدَيّ عنها هو انطباع جيّد، هل يُعقل أن تكون قد سرقَت جدّتها؟ يا إلهي... ما هذه المعضلة؟؟؟

 

توسَّلتُ داليا والعامِلة والسائق ليعترفوا قَبل أن أطلُب الشرطة لكنّهم بقوا صامتين. إتّصلَ ابني بالقسم وجاء رجال الشرطة وأخذوا المشبوهين الثلاثة. بقيَ ابني معي ليواسيني لكثرة حزني وبكائي، وأكّدَ لابنته أنّه سيلحق بها إلى القسم بعد أقلّ مِن ساعة. على كلّ الأحوال، هو كان واثقًا مِن أنّهم سيخلون سبيلها بسرعة، فكان مِن الأكيد أنّها بريئة. حضَّرَ لي الشاي وجلَسنا سويًّا بصمت ثمّ قال لي:

 

- لو أعطَيتِنا مالكِ يا أمّي لمَا حصَلَ ذلك... أو بالأحرى لو أعطَيتِه لي بالذات، فأنا ابنكِ البكر والأكثر مسؤوليّة بين أخوَتي... كنتُ مدَّيتُكِ بمصروفكِ حسب حاجتكِ وعشتِ بكرامة. مِن أين ستجدين المال اللازم لعِلاجكِ لِما تبقّى لكِ في هذه الدنيا؟

 

هو قال ذلك ببرودة أخافَتني، فكان يجدرُ به القول إنّه وأخوَته سيهتمّون بي وأنّ لا حاجة لي للقَلق. يا للإنسان الأنانيّ، بعد كلّ الذي فعلتُه مِن أجله منذ ولادته! ثمّ راحَ ابني يجمَع حقيبة داليا التي كانت مُعدّة للسفر ليأخذها معه، بينما جلستُ أفكّرُ بمصيبتي.

وإذ بي أسمعُ حركة في المطبخ، فقمتُ مِن مكاني ورحتُ على رؤوس قدمَيّ لأرى ما يجري. هل كان السارق لا يزالُ في البيت؟ هل ظلمتُ داليا والعامِلة والسائق؟!؟

وقفتُ عند باب المطبخ ورأيتُ بذهول ابني يُخرِجُ كيسًا كبيرًا مِن الفرن. فصرختُ به:

 

- ماذا تفعل؟!؟ وما الذي بين يدَيكَ؟!؟

 

تسمَّرَ ابني في مكانه وبدأ يُتمتمُ كلمات غير مفهومة، فأخذتُ الكيس منه لأكتشف فيه مالي ومجوهراتي! صرختُ:

 

- مَن يسرقُ أمّه يُمكنُه أيضًا قتلها... هيّا إقتلني، فلقد اكتشفتُ حقيقتكَ البشعة! هيّا!

 

إصفرَّ وجهه لكنّني لَم أرَ عليه علامات ندَم بل مجرّد ذهول. تابعتُ:

 

- داليا خبّأَت المسروقات في الفرن لتأخذها هي أو أنتَ لاحقًا، أليس كذلك؟ وهل دسَّت لنا جميعًا منوِّمًا كي لا نشعر بما تفعله؟ راهنتُما على النفاذ مِن التهمة، فمِن البديهيّ أن يُتّهَم العاملون وليس الأنساب. أيّ صنف مِن البشَر أنتَ؟ وكيف تُربّي أولادكَ؟ على السرقة؟ وسرقَة مَن؟ جدّتهم؟!؟

 

طردتُ ابني مِن بيتي على الفور، وطلبتُ سيّارة أجرة للذهاب إلى القسم حيث أدّعَيتُ أمام المُحقّق أنّني وجدتُ المال والمُجوهرات في مكان نسيتُ أنّني وضعتُها فيها. تمّ إطلاق سراح المشبوهين الثلاثة، فأخذتُ داليا جانبًا وقلتُ لها:

 

- أعلمُ الحقيقة... إيّاكِ أن تُحاولي وأهلكِ الاقتراب منّي لأيّ سبَب... لا أُريدُ رؤيتكِ حتى مماتي... تسرقين جدّتكِ أيّتها المُمثّلة البارعة؟!؟ ستنالين عقابكِ، ليس مِن الشرطة أو منّي، بل مِن الذي هو أكبر وأقوى منّا بكثير!

 

عوّضتُ للسائق بمبلغ كبير طالبةً منه السماح، أمّا بالنسبة للعاملة، فأخذنا سويًّا الطائرة التالية ورحنا نجولُ العالَم. هي لا تعرفُ ذلك بعد، لكنّني سأتركُ كلّ شيء لها، فمَن غيرها يستحقُّ أن يرِثَني؟ إبتعَدَ جميع أولادي عنّي بعد أن استوعبوا أنّ لا منفعة منّي، خاصّة البِكر الذي خافَ مِن ردّة فعلي لو رأيتُه وابنته.

اليوم أنا في المرحلة الأخيرة مِن مرَضي ولستُ خائفة مِن الموت، فلقد جلتُ بلدانًا وأماكن رائعة الجمال وحقّقتُ حلمي. سنموت جميعًا في يوم مِن الأيّام، ولقد عشتُ حياة طويلة وحافلة وقمتُ بواجباتي الدينيّة على أكمَل وجه وأنا جاهزة تمام الجهوزيّة. لكنّني كنتُ أفضّل طبعًا أن أكون مُحاطة بأولادي وأحفادي، بدلاً مِن أن أعرِفَ أنّني جلبتُ إلى الدنيا أشخاصًا مُتعطّشين للمال وجاهزين لِفعل أيّ شيء لإشباع ذلك العطَش. يا للخسارة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button