تعرّفتُ إلى داليا عبر الإنترنِت، ولَم أتصوّر أبدًا حين سجّلتُ نفسي على ذلك الموقع أنّني سأجدُ الحبّ وأُقدِم على الزواج. فكنتُ حتّى ذلك الحين عازبًا، بعد أن قضَيتُ حياتي أعمَل في الغربة لأُعيلَ أبوَيّ وأخوَتي. كانت الظروف قاسية في البلد وهم كانوا بحاجة إلى مَن يؤمِّن لهم حياة كريمة. نسيتُ نفسي مِن أجلهم ومرَّت السنوات مِن دون أن أعي ذلك. وبعد أن عدتُ بصورة نهائيّة إلى مسقط رأسي، وماتَ والدايَ وتزوّجَ أخوَتي، سكنتُ في البيت العائليّ وسط ذكريات بعيدة وأليمة بسبب القلّة التي ملأت طفولتي. جدَّدتُ المكان ليُصبح حديثًا وجلبتُ هرّة لتملأ فراغي. لا أذكرُ مَن تكلَّمَ أمامي عن موضوع التعارف عبر الإنترنِت، لكنّني لَم أؤمِن حقًّا بأنّ شريكة حياتي موجودة على إحدى صفحاته.
كانت داليا جميلة وأنيقة وحديثها مليء بالدّفء والذكاء، وعلِمتُ منها أنّها أرملة ولدَيها شابّ مُتزوّج وله عائلة. أعربتُ لها على الفور عن نيّتي بإقامة علاقة جدّيّة هدفها الزواج، فلَم يكن مِن الوارد أبدًا أن أتسلّى مع أيّ امرأة لأنّني أحترمُ النساء إلى أقصى حدّ. وما أرَدتُه هو رفيقة وحبيبة وحضن دافئ وإنسانة أشيخُ معها.
تكلّمنا لاحقًا عبر الهاتف والفيديو ومِن ثمّ تقابَلنا شخصيًّا. وقعتُ في حبّ داليا فور رؤيتي لها جالسة في المقهى تنتظرُني، وهي ابتسمَت لي بطريقة عفويّة، وأدركتُ أنّها هي الأخرى كانت تكنُّ لي مشاعر عميقة. تواعدنا بشكل شبه يوميّ لنرى إن كنّا مُتجانسَين ومؤهّلَين للعَيش سويًّا. وخلال تلك النزهات والجلسات، أفرَغنا قلبنا لبعضنا وتشارَكنا ذكرياتنا وتجاربنا. وعلِمتُ منها أشياءً عديدة عن زوجها المُتوفّي، أشياء لَم تكن جميلة. فذلك الرجُل لَم يكن زوجًا صالحًا، بل كان على العكس طاغيًا وخائنًا وعنيفًا. وشاء الله أن ينتهي عذاب داليا أخيرًا بموت زوجها البغيض. إمتلأت عَينايَ بالدموع لدى سماع ذلك، فأيّ انسان يُسبّب لهكذا إمرأة هذا الكمّ مِن العذاب؟ قرّرتُ ضمنيًّا أن أهتمّ بحبيبتي وأرعاها، وأثبتُ لها أنّ الرجال الصالحين موجودون بالفعل، فلقد لمَستُ لدَيها خوفًا مِن الارتباط مِن جديد.
تعرّفتُ إلى إبن داليا وعائلته، وبدا لي شابًّا رصينًا ومُتوازنًا بالرغم مِن كلّ الذي مرَّ به حين كان أبوه لا يزال على قَيد الحياة. سألتُه إن كان لدَيه مانع بأن تتزوّج أمّه، وهو أكّدَ لي أنّ ذلك سيُطمئنُ باله عليها شرط أن أُعامِلها جيّدًا طبعًا.
تزوّجنا وكان ذلك اليوم هو الأسعَد في حياتي، وانتقلَتُ مع هرّتي للعَيش في بيت داليا بناءً على طلبها، فهي كانت تُفضّلُ البقاء في مسكنها ولَم أشأ إزعالها. لكنّني تفاجأتُ بصوَر زوجها الراحل تملأ المكان وطلبتُ منها أن تُزيلها، ففي آخِر المطاف، كنتُ رجُلها الجديد. لمستُ لدَيها تردّدًا لكنّها لَم تُجادلني بل أزالَتها بالفعل. للحقيقة، لو كان زوجها السابق رجُلاً صالحًا ومُحبًّا، لقبِلتُ أن تُبقي له ذكرًا في المكان الذي عاشَت فيه معه، إلا أنّه قضى حياته بمُعاملتها وكأنّها نكِرة ولَم يتردّد عن ضربها وإهانتها.
بدَت لي داليا سعيدة معي ومُرتاحة، فكانت تضحَك ونتبادَل الأخبار الطريفة. وعادَ ابنها يزورُها باستمرار، وخلتُ نفسي قد ربحتُ عائلة جاهزة، وأنّ بقائي عازبًا طوال حياتي أعطى ثماره أخيرًا. لكن فرَحي كان قصير الأمد، للأسف.
فذات يوم وجدتُ في درجها الخاص صورة لزوجها السابق، درج ملابسها الداخليّة. إنتابَني يقين بأنّها وضعَتها في ذلك المكان لتُخفيها عنّي، لأنّ باقي الصوَر أُلقِيَت في المستودَع الموجود في أسفل المبنى. أعترفُ أنّني غضبتُ منها ليس لأنّني غرتُ مِن إنسان قد ماتَ، بل لأنّها كانت على ما يبدو تكنّ له مشاعر لا مكان لها في قلب امرأة مُعذّبة. هل أٌفاتِحها بالأمر أم لا؟
لَم أستطِع كَبت مشاعري فأخذتُ الصورة ورحتُ أسألُها عن الأمر. وعندما رأتني حاملاً الصورة ركضَت وانتشلَتها مِن يدي صارخة:
ـ أين وجدتَها؟ وهل تُفتِّش في أغراضي الخاصّة؟!؟
ـ لَم أكن أعلَم أنّ لدَينا أسرارًا نُخفيها عن بعضنا.
ـ ليس لدَيّ أسرار... إنّها مُجرّد صورة.
ـ لماذا إذًا أخفَيتِها في الدّرج؟ درج ملابسكِ الداخليّة!
ـ لأنّكَ لا تُريدُني أن أُبقيَ معي صوَرًا له.
ـ عادةً يُريدُ المرء نسيان الذكريات البشِعة إلى الأبد وليس التعلّق بها.
ـ ومَن قال لكَ إنّها ذكريات بشعة؟
ـ ماذا؟!؟ الرجُل كان وحشًا وأساءَ إليكِ وإلى إبنكِ طوال سنوات! وهل هناك مِن ذكريات أبشَع؟
ـ كانت لنا أيّام جميلة.
ـ أيّ أيّام جميلة؟
ـ هو كان يعتذرُ منّي بعدما... بعدما يضربُني، ويعِدُني بعدَم تكرار الأمر.
ـ لكنّه كان يُكرّرُها.
ـ أجل... ليُصالحني مِن جديد. وفترات المُصالحة كانت جميلة.
ـ وهل الكدمات والدموع كانت أيضًا جميلة؟!؟
ـ وما شأنكَ أنتَ؟!؟ ألستُ أُعاملُكَ جيّدًا؟ ألا تحصلُ على مرادكَ منّي؟ هل تُريدُ دخول عقلي أيضًا والسيطرة على أفكاري وذكرياتي؟!؟ الرجُل قد ماتَ! هل تغارُ مِن شبحه؟
ـ أُريدُ فهم المرأة التي أُحبُّها وتزوّجتُها. وأُريدُكِ أن تفهمي أنّ ما مرَرتِ به كان فظيعًا وليس هناك مِن شيء جميل فيه. وبزواجكِ منّي، عليكِ طَيّ صفحة الماضي نهائيًّا والبدء مِن جديد. أنا أُحبُّكِ وأحترمُكِ وأخافُ عليكِ، ولا تُقنِعي نفسكِ بأنّ ما فعلَه زوجكِ بكِ هو أمر سهل، بل اعترِفي بأنّه آذاكِ وأنّه لَم يعُد قادرًا على أذيّتكِ بعد الآن. أدرِكي بأنّني لَن أؤذيكِ يومًا فأنتِ بأمان معي.
لَم تُجِبني داليا بل عانقَت الصورة ودخلَت الغرفة حيث تعالى صوت بكائها. هل هي بكَت على الذي مرَّت به سابقًا أم لفقدان مُعذّبها؟ طلبتُ رؤية ابنها على إنفراد، وأخبرتُه بما جرى بيني وبين داليا. هو سكَت مُطوّلاً ثمّ قال:
ـ أظنُّ أنّها تخافُ أن تكرهَه لأنّه ماتَ.
ـ لستُ أفهَم ما تقصد.
ـ نكنُّ دائمًا للموتى إحترامًا فائقًا حتى لو كانوا سيّئين، وننسى ما فعلوه بنا لنتعلّق بمحاسنهم حتى لو كانت قليلة. أمّي عاشَت سجينة رجُل لا يرحَم، وقد تكون قد اعتادَت على تلك الحياة وتأقلَمَت معها والآن هي خائفة مِن العَيش بشكل طبيعيّ.
ـ ما عليّ فعله؟
ـ أعطِها بعض الوقت. أعلَمُ أنّ لا ذنب لكَ بكلّ ذلك وأنّك تحبّها كثيرًا، ووحده حبّك لها بإمكانه إنقاذها. أمّي تضحكُ أخيرًا، وهو مشهد لَم أرَه منذ ولادتي. أرجوكَ ألا تتخلّى عنها، فهي إنسانة عظيمة تحمّلَت عذابها مِن أجلي، ودافعَت عنّي مرّات لا تُحصى حتى لو عنى ذلك التعرّض للضرب العنيف.
ـ لن أتخلّى عنها، لكن أرجو أن تكون أمّكَ تُحبّني بالفعل وقادرة على النسيان.
قرّرتُ بعد ذلك الحديث ألا أتكلّم مع داليا عن تلك الصورة أو عن زوجها على الاطلاق، بل أن أريها فعليًّا كيف يكون الزوج الصالح والمُحبّ. فازدادَ اهتمامي لها وكلامي الجميل وجلبتُ لها الهدايا التي تُحبُّها كلّ امرأة. لكن في أحَد الأيّام، صرخَت بي زوجتي:
ـ لماذا تفعلُ كلّ ذلك مِن أجلي؟ فلستُ إنسانة مُميّزة.
ـ بلى، أنتِ مُميّزة بالنسبة لي، لا بل أنتِ رائعة! وما أفعلُه هو عربون تقديري لكِ.
ـ لستُ مُميّزة ولا أستحقّ أي تقدير. بل أنا حقيرة!
ـ ماذا؟!؟ أنتِ حقيرة؟!؟ إسمعي يا داليا... أنتِ ملكة! أنتِ ملكتي! أتفهمين ما أقوله؟ سعادتكِ هي هدفي الوحيد، وتستحقّين أفضل ما يكون في الدنيا! لن أستسلِم أبدًا حتى لو تطلّبَ الأمر قضاء حياتي وأنا أٌثبِتُ لكِ كَم أنّكِ ثمينة.
ـ أنا لا أستحقّ هذا العناء، صدّقني.
ـ بل تستحقّين أكثر. آه، لو تعين مدى حبّي لكِ وإعجابي بكِ! دعيني أحبُّكِ كما يجب، أرجوكِ، دعيني أريكِ كيف يجب أن تُعامَلي. تعالي معي!
أخذتُها بِيَدها إلى الغرفة، وفتحتُ درج الخزانة وأخرجتُ منه صورة زوجها الراحل:
ـ هذا الرجُل لَم يُحبّكِ بل عمِلَ على تحطيمكِ على مرّ السنوات. وهذا ليس حبًّا. ووعوده لكِ كانت كاذبة وأنتِ تعلمين ذلك في قرارة نفسكِ. وعلى هذا الانسان أن يخرجَ مِن حياتكِ إلى الأبد. لن تكوني سعيدة طالما هو حَيّ فيكِ. أتريدين تدمير زواجنا؟
ـ لا!
ـ إذًا أزيليه مِن زواجنا وتعلّمي كيف تكونين سعيدة حقًّا. أقسمُ لكِ بأنّني لن أُسبّبَ لكِ التعاسة يومًا. ثقي بي، أرجوكِ.
أخرجتُ الصورة مِن بروازها وأعطَيتُها لها. هي بكَت كثيرًا وعانقَتها بقوّة. ثمّ مزّقَت الصورة وأعطَتها لي وهي تنظرُ إليّ بمزيج مِن الخوف والفرَح، بعد أن شعرتُ بأنّ ما فعلَته تطلّبَ منها شجاعة كبيرة. رحنا سويًّا إلى المطبخ حيث أحرَقنا الصورة المُمزّقة ونظَرنا إلى بعضنا مُطوّلاً. وفي تلك اللحظة بدأَت بالفعل حياتنا الزوجيّة.
إنتقلَنا بعد أيّام إلى مسكَني، تاركَين وراءنا ماضٍ أليم لا رجوع إليه وصارَت داليا إنسانة جديدة. ولا نزال حتى اليوم نعيشُ وكأنّنا في شهر عسل لا نهاية له. فالحبّ هو الشيء الوحيد القادر على مُداواة الجروح مهما كانت عميقة.
حاورته بولا جهشان