لَم أكُن موافِقة على العَيش مع أهل باسم بعد زواجنا، أوّلًا لأنّني اعتبرتُ أنّني استحقّ السكَن مع زوجي في بيت خاصّ بنا، وثانيًا لأنّ أهله كانوا بالفعل يُبغضوني. لماذا تسألون؟ مِن دون سبب، صدّقوني، على الأقلّ في ما يخصّني. لكنّني شكَكتُ أنّ مصدر امتعاضهم منّي كان رفض باسم الزواج مِن قريبته، صبيّة قبيحة ومُدلّلة وذات طباع بشِعة. حاولوا كثيرًا تغيير رأيه، ووصَلَ الأمر بهم إلى تقديم المال له ومِن ثمّ انتقلوا إلى التهديد. لكنّه كان يُحبُّني كثيرًا ولا يُريدُ سوايَ. وبعد مُفاوضات عديدة ومُتعبة، قبِلوا بي على شرط أن نسكنَ معهم. وافَقتُ أخيرًا لأنّني أعلَم كَم أنّ زوجي يُحبّ أهله وهو مُتعلّق بهم. إضافة إلى ذلك، هو وعدَني بأن نستقِلّ بعد فترة قصيرة، أي حين تهدأ النفوس مِن الجانبَين.
بعد عودتنا مَن شهر العسل، حضّرَت أم باسم وابنتها لنا غرفة نوم لَم تعجِبني، لأنّها كانت قديمة الطراز. فالواقع أنّها كانت غرفة الجدّة، أي تحتوي على أثاث عتيق وتفحّ منها رائحة الرطوبة والغبار. لَم أقُل شيئًا، بل فتحتُ النوافِذ لأيّام مُتتالية، ووضعتُ بعض الزينة وعلّقتُ صوَرًا جميلة على الجدران، لأشعر أنّني، ولو بعض الشيء، عروس جديدة. وبالطبع لَم يُعجِب الأمر حماتي وابنتها، فعلّقتا على الأمر والاشمئزاز بانٍ على وجهَيهما، لكنّ باسم طلَبَ منّي عدَم الاكتراث.
وفي اليوم الأوّل، عند طلوع الفجر، إستَيقظنا على أصوات الأواني في المطبخ وضجّة في البيت كلّه. ركضتُ لأرى ما يحدث، فوجدتُ الأفعى الكبرى والصغرى تقومان بحملة تنظيف كبيرة، وقيل لي إن عليّ وزوجي الخروج مِن السرير والغرفة ليتمّ تنظيفها. غضبتُ كثيرًا، خاصّة عندما أعطَتني أمّ باسم وزرة أضعها على خصري لمُساعدتها. نظرتُ إلى باسم الذي قال لأمّه: "الوقت ليس للتنظيف وخاصّة لتُساعدكم زوجتي، فهي وصلَت إلى هنا لتوّها". لكنّه قال ذلك بطريقة ناعمة وضعيفة، فتابعَت المرأتان عمَلهما وكأنّه لَم يقُل شيئًا. الفرق الوحيد كان أنّني لَم أشترِك معهما في التنظيف، بل لبستُ ثيابي وطلبتُ مِن زوجي إيصالي إلى بيت أهلي لأزورهم. وعندما عدتُ، وجدتُ غرفتي لا تزال على حالها، أي أنّ عليّ تنظيفها بنفسي. لَم أرَ مانِعًا في ذلك، فضحِكتُ لهذا الكمّ مِن الوقاحة وتحضّرتُ لِما هو آتٍ، فكنتُ أكيدة مِن أنّ حماتي وابنتها لن تتركاني بسلام.
في الأيّام التي تلَت، ساعَدتُ في تحضير الطعام ونظّفتُ غرفتنا، وقضيتُ باقي الوقت أنتظرُ عودة زوجي مِن عمَله لأتفادى التلميحات والتعليقات البشِعة حولي التي ضايقَتني كثيرًا، وأشعرَتني بأنّه ليس مُرحّبًا بي على الاطلاق. كان لدَيّ عمَل أيضًا، إلّا أنّ باسم طلَبَ منّي تركه لألعَب دور الزوجة ولاحِقًا دور الأمّ. لَم أرَ مانِعًا في ذلك، إذ أنّه كان يجني ما يكفي، لكنّني أسِفتُ لعدم رؤية زملائي كلّ يوم والقيام بمهامي في الشركة بشغف وتحدٍّ. وكي أستطيع اجتياز البغض الذي كنتُ مُحاطة به، تمسّكتُ بوعد باسم لي بالانتقال في أحَد الأيّام إلى مسكن خاصّ بنا.
لكن في أحَد الأيّام، طلبَت منّي حماتي الذهاب معها إلى منزل إحدى قريباتها في القرية الذي كان يبعُد ساعات عنّا، ولَم أجرؤ على الرفض مُعتبرةً أنّ تلك الدّعوة هي بمثابة راية سلام تمدُّها لي. قضَينا النهار هناك واستمتعتُ بوقتي، إذ أنّ أم باسم كانت لطيفة معي للغاية، على غير عادتها. لكن حين عدنا مساءً، أي من لحظة ما داسَت أرجُلنا عتَبة البيت، إنقلَبَت المرأة فجأة وصارَت جافّة معي. إستغربتُ كثيرًا لكنّني نسيتُ الأمر بسرعة، خلال سردي لِما جرى عند تلك القريبة لزوجي الذي كان مُبتسِمًا طوال استماعه لي. فهو الآخَر ظنّ أنّ الأمور اصطلحَت بيني وبين أمّه، لكن كنّا طبعًا على خطأ. فمنذ ذلك اليوم، بدأَت تحدُث أمور غريبة.
فصِرتُ أسمَع أصوات حركة وسط الليل قادِمة مِن غرفة أخت زوجي المُلاصِقة لغرفتنا، الأمر الذي لَم يكن يحدث سابقًا. كان الوقت مُتأخّرًا جدًّا، وحسبتُ أنّ الجميع غارِقَ في النوم. ثمّ اختفَت الأصوات لفترة إلا أنها عادَت أيضًا في الليل لكن ليس مُتأخّرًا كالسابق، بل بعد خلودنا إلى النوم بقليل. في البدء لَم أقُل شيئًا لزوجي، فما شأني بالذي تفعله تلك الصبيّة؟ لكنّ الأمر شغلَني بشكل مُحدّد، ليس لأنّني فضوليّة، لكنّ شيئًا في داخلي قال لي إنّ الأمر فيه رَيبة.
أطلَعتُ زوجي أخيرًا عمّا أسمَعه ليلًا، وكما كنتُ أتوقّع قال لي باسم إنّ ما تفعله أخته ليس مِن شأنّنا، وإنّه يرى أنّني لا أقومُ بالجهود اللازمة للتقرّب مِن عائلته، بل أفتِّشُ دائمًا عن سبب لانتقادهم. دافعتُ عن نفسي ثمّ سكتُّ، فلا جدوى مِن التفسير حين يكون المرء لا يرى ما هو جليًّا. بقيتُ أسمَع الأصوات مِن غرفة أخته لكن خلال أوقات مُختلفة مِن النهار والليل. ومع الوقت لَم أعُد أكترِث كثيرًا، وقرّرتُ أن أُفكِّر بضرورة عدَم الانجاب في هكذا ظروف. فمنذ زواجنا وباسم يُحاولُ أن أحمَل، لكنّني كنتُ خائفة مِن أن نبقى مع أهله لو أنجَبتُ، بذريعة أنّ أمّه وأخته قادرتان على مُساعدتي بالولَد. لِذا كنتُ آخذُ سرًّا أقراصًا لِمَنع الحمَل بانتظار المُستجدّات.
كان قد مضى على زواجنا ستّة أشهر، حين عرَضَ عليّ باسم أن نقصد الطبيب لمعرفة سبب عدَم حَملي. أجبتُه أنّ الأوان مُبكِر لذلك، وعلينا الانتظار سنة على الأقلّ، إلّا أنّه لَم يكن مسرورًا مِن ردّي. وفي تلك اللحظة بالذات، دخلَت حماتي فجأة غرفتنا مُقاطِعةً حديثنا، ووقفَت أمامي مُشيرة بإصبعها نحوي وصارخِة: "إنّها لا تُريدُ الانجاب ولا خطَب فيها! كَم أنّكِ ماكِرة! يا لَيتكِ لَم تتعرّفي على إبني قط!". ثمّ نظَرَت إليه وقالَت: "كان يجدرُ بكَ الزواج مِن العروس التي وجدتُها لكَ! إعلَم يا ابني العزيز أنّ زوجتكَ تأخذُ كلّ يوم حبوبًا لِمَنع الحَمل! أجل! عليكَ تطليقها لأُزوّجكَ بعد يوم واحِد!"، ثم رحلَت. سألَني باسم إن كان موضوع الأقراص صحيحًا، فأجبتُه بكلّ صراحة وأطلعتُه على السبب، وهو غضِبَ كثيرًا منّي، فتشاجَرنا. وقَبل أن يترك الغرفة ليرتمي في حضن أمّه، قلتُ له بهدوء: "هذا جسَدي وأنا أُقرّر متى يكون جاهزًا للإنجاب. إضافة إلى ذلك، كيف لأمّكَ أن تعلَم بشأن الأقراص؟ مهلًا... هل للأصوات التي أسمعُها دَخل بالموضوع؟".
وفي لحظة واحدة استوعبتُ ما حصَل، فرُحتُ إلى الحائط الذي يفصلُ بين غرفتنا وغرفة أخته وتفحّصتُه جيّدًا... لأجِدَ ثقبًا فيه، ثقبًا يُمكِّنها من التجسّس علينا عبره. فصرختُ لزوجي: "أنظُر! أنظُر! أختكَ تتفرّج علينا سرًّا! يا إلهي... هي رأتنا ونحن... رأت كلّ شيء، مِن حياتنا الحميمة إلى كلّ ما نفعله في هذه الغرفة! الآن أفهمُ سبب دعوة أمّكَ للذهاب معها بعيدًا، فذلك سمَحَ لابنتها بإحداث الثقب في الحائط على سجّيتها. أنظُر!".
تفاجأ زوجي كثيرًا وانتابه غضب شديد، إلّا أنّ مسألة الأقراص كانت ذات أهمّيّة أكبَر بالنسبة له. فتابعَتُ: "أنا لَم أقصد غشّكَ، لكنّكَ مُتعلّق جدًّا بأمّكَ وأختكَ ولن تفهمَ كَم هما ماكرتان. ولَم يكن أبدًا مِن الجائز، على الأقلّ بالنسبة لي، أن أحمَل وأنا هنا. أُريدُ الذهاب بعيدًا كما وعدتَني!". لكنّه لَم يُجِب، بل خرَجَ إلى أمّه. ماذا قالَ لها، لا أدري، وماذا قالَت له، لا أدري أيضًا، فقد كنتُ مُنشغِلة بتسكير الثقب الموجود في الحائط وبالتفكير بما سيحصل بعد ذلك. لكن كان هناك أمر بديهيّ بالنسبة لي: الخروج مِن ذلك المكان مع زوجي أو مِن دونه. فلو بقيتُ، ماذا كانت ستُحضِّر لي أمّه وأخته؟ ولو أنجَبتُ، هل مِن المُمكن أن تأخذا منّي طفلي أو تُسيئان مُعاملته؟ فالذي يثقب حائطًا ويتفرّج على رجُل وزوجته وهما في أوضاع حميمة لهو قادر على ما هو أفظَع.
في اليوم نفسه، أطلعَني باسم على نيّته بالانفصال عنّي، فقلتُ له:
ـ لا، يا عزيزي، لا أُريدُ الانفصال، بل الطلاق... الحقّ يقَع عليّ، فلَم يكن يجدرُ بي القبول بالعَيش مع أفعتَين كأمّكَ وأختكَ. وأنتَ، لَم يكن عليكَ جرّي إلى هذه التجربة المريرة، وإطلاق وعود لا أظنّ أنّكَ ستَفي بها يومًا، فقد رأيتَ بعَينَيكَ ما أمرّ به يوميًّا معهما ولَم تقُل شيئًا. حرَمتَني مِن عمَلٍ كنتُ أحبّه، لأجلِس مع أناس يكرهوني ويُخطّطون ضدّي. رأيتَ الثقب في الحائط ولا تزال تُصِّر على أنّني مَن يجب مُحاسبتها. إسمَع، لو اعتبَرتُ أنّكَ قادِر على فَهم دوافعي لِعدَم الانجاب في الوقت الحاضِر، لمَا أخذتُ تلك الأقراص سرًّا. أريدُ الطلاق، أريدُ استرجاع حياتي وعمَلي والعَيش بين أناس يُحبّوني، فأنا لستُ سعيدة معكَ. أنتَ لَم تُحاول إسعادي، بل جلَبتَني إلى الحياة التي كنتَ تعيشها منذ البداية، ووضعتَني وسطها بالرغم مِن الامتعاض البائن منّي، وتركتَني أتدبَّر أموري لوحدي. ماذا أعطَيتَني لَم أكن أملكه مِن قَبل؟ لا شيء. بل أخذتَ منّي حياتي وفرَحي وآمالي ولو لمدّة قصيرة. فالذي ينتظرُني هنا هو قبيح جدًّا وأنتَ لا تُبالي على الاطلاق. وداعًا!
عدتُ إلى أهلي مرفوعة الرأس، وإلى عمَلي حيث استقبلَني الجميع بِفرَح. شعَرتُ بقوّة فائقة لأنّني استدركتُ بسرعة الانحدار الذي أخذَته حياتي مع باسم. وهو حاوَلَ استرجاعي بشتّى الطرق، قائلًا إنّ أمّه وأخته نادمتان جدًّا وتريداني مُجدّدًا، لكنّه لَم يُثِر أمر الانتقال إلى مكان خاصّ بنا. رفضتُ طبعًا لأنّني سيّدة حياتي ومصيري، فبقيتُ مُصِّرة على الطلاق.
بعد أقلّ مِن شهرَين على طلاقنا، تزوَّجَ باسم مِن قريبته التي حمِلَت منه على الفور. هنيئًا له بها وبالجنين، إن كان ذلك يُسعده وأهله. ما أعرفُه هو أنّني بألف خير مِن دونه وأمّه وأخته، وأنّ الحياة أمامي والفرَص التي تنتظرُني كثيرة ومُتنوّعة، فهذا هو جمال الدنيا!
وكلّما أتذكّر أمر الثقب في الحائط، يرتجفُ بدَني كلّه، فأتصوّر أخته، وربّما أمّه، وهما يتفرّجان عليّ وزوجي في أوضاع حميمة! ولستُ أدري إن كان دافعهما مُراقبتي فقط أو أنّهما كانتا تستمتعان بالمشاهد! قومٌ مريضون حقًّا! وباسم لَم يرَ حقًّا أبعاد هذه الفِعلة... هل لأنّه كان على علم بالثقب؟!؟ لا! لا! هذا لا يُعقَل! وهل أنّ الثقب لا يزال موجودًا في حائط العروسَين الجديدَين؟ يا لَيتني أعرف الجواب!
حاورتها بولا جهشان