إليكم قصّة عائلتنا، قصّة خيانة وطمَع وخذلان، محوَرها أبي الذي ظنّ أنّ كلّ شيء مُتاح له، والذي وجَدَ أخيرًا أقوى منه. أنا اليوم في العقد الخامس مِن عمري ولقد ماتَ كلّ "أبطال" هذه القصّة، فبمقدوري أن أرويها مِن دون خوف أن أفضَح أيًّا منهم. لنبدأ مِن الأوّل ليعرف القارئ كلّ التفاصيل.
وُلِدتُ ابنًا وحيدًا لأب طموح وأمّ مُحِبّة التي كانت مِن عائلة ثريّة ومعروفة. لَم يشأ جدّي تزويجها لذلك الشاب الذي لا أصل له ولا فصل، إلا أنّها كانت تؤمِن بحبيبها ولا تعترفُ بالفوارِق الاجتماعيّة. ويا لَيتها سمِعَت مِن أبيها، لتجنّبَت حياة زوجيّة بائسة. فقد اتّضَحَ أنّ والدي لَم يُحبّها بل أرادَ مالها وحَسب. ومنذ اليوم الأوّل لزواجهما، هو أقنَعَ أمّي بإدخاله إلى حسابها المصرفيّ وعالَمها المُخمليّ. وفي غضون سنوات، لَم تعُد هي سيّدة ثروتها، بل فقط شريكة للذي أتى فارِغ اليدَين والجَيبَين. لكنّها لَم تكترِث كثيرًا للأمر، بعد أن أقنعَها زوجها بأنّها لا تفهَم بشيء وأنّ على حياتها أن تقتصِر على الاهتمام به وبي وببيتنا الكبير والفخم. وهكذا هي تسلََّت بنا وبالدعوات العديدة التي أقامَتها في القصر الذي كان ملكها، وهي دعوات ضمَّت كلّ المعارف التي كان أبي بحاجة إليها ليخوض صفقاته المشبوهة والتي تقضي بِنَصب الناس. في البدء، لم ينتبِه أحَد لشيء، فهو كان رجُلًا مُتمرِّسًا بالكذب والخيانة على أشكالها.
وعلى سيرة الخيانة، كانت لأبي علاقات عديدة خارج البيت علِمَت بها والدتي، فلقد سمعتُهما مرارًا يتشاجران بهذا الشأن قَبل أن يقول لها: "أنتِ مجنونة وتتصوّرين أمورًا غير موجودة... إن مضَيتِ بهذه التصوّرات، فسأضطرّ لوضعكِ في مصحّة". عندها كانت المسكينة تعتذِر منه وتتصالَح معه. وأنا كنتُ أكرهُه يومًا أكثر مِن يوم، إلى حين صرتُ أتمنّى له الموت لتتحرّر منه أمّي.
أمّا بالنسبة لمُعاملة والدي لي، فكانت فاتِرة إلى أقصى درجة، وبالكاد كان يُلاحظُ وجودي أو يُعيرُني أهمّيّة، إذ كانت له مشاغِل أهمّ منّي بكثير. آه، لو أنّه لَم يكن أبي! فمرارًا أثناء مُراهقتي، حلِمتُ في اليقظة أن أكتشِف أنّني ولَد مُتبَنٍّ أو أنّ أمّي حمِلَت بي مِن رجُل آخَر! وأتذكّر انّ رغبتي الوحيدة حين أكبر كانت الرحيل بعيدًا عن ذلك المكان الحزين آخِذًا معي والدتي. لكنّني لَم أرحَل، بل بقيتُ مِن أجلها، فكيف أتركها مع ذلك الفاسِد؟
مرَّت السنوات على حالها بالنسبة لي، وصِرتُ شابًّا جامعيًّا. لكن بالنسبة لأمّي، هي بدأَت تتغيّر شيئًا فشيئًا حتّى أنّها صارَت نحيلة جدًّا وبالكاد تجِد لذّة في أيّ شيء. وكان مِن الواضح أنّها كانت مُكتئبة لِدرجة خطيرة، لكنّها لَم تتعالَج ولَم ترَ حتّى طبيبًا مِن كثرة خوفها مِن أن تُشخَّص بالجنون، كما بقيَ يقول لها زوجها. أرادَ أبي تحطيمها ورؤيتها تذوبُ أمامه، وكأنّه يُعاقبُها لكَونها زوجته وصاحبة أموال أجبرَته على ربط حياته بها.
إعتقدَت أمّي بالفعل أنّها مجنونة، وبدأَت ترى أشياءً غير موجودة وتسمَع أصواتًا غريبة. لستُ مُتأكّدًا مِن ذلك، لكنّني أعتقِد أنّ والدي هو مَن أدخَل تلك الأفكار في رأسها، للتخلّص منها برَميها في مؤسّسة خاصّة. بعد ذلك فقط، هو جلَبَ لها طبيبًا أعطاها حبوبًا مُهدّئة قويّة جدًّا، لكنّه رفَضَ اقتراح أبي في ما يخصّ المصحّة. وهكذا صارَت والدتي أسيرة فراشها على مدار الساعة، غير قادِرة على فعل أيّ شيء سوى النوم.
وأتَت إلينا سارة، المُمرّضة التي أوصى بها الطبيب للاهتمام بأمّي. كانت تلك المرأة في الثلاثين مِن عمرها وجميلة، ما كان كافيًا لِجعلها محطّ اهتمام والدي، فلَم يعُد مُجبرًا على الخروج لِمُلاقاة عشيقة ما، بل وجَدَ واحِدة تعيشُ معه على مدار الساعة. فلقد أُعطِيَ لها حمّام في بيتنا الكبير وغرفة اختارَها أبي قريبة مِن غرفته وليس غرفة أمّي كما يجب أن يحصل. أمّا بالنسبة لِسارة، فهي تجاوبَت مع أبي وتلميحاته البذيئة منذ أوّل لحظة، فقد كانت تُشبِهه، لأنّها إنسانة جشِعة لا يهمّها سوى المادّة. وأوّل شيء قالَه أبي لي بخصوص المُمرّضة كان: "لا تُتعِب نفسكَ، إنّها لي". تصوّروا أبًا يقول ذلك لابنه بينما لا تزال زوجته موجودة في البيت! فلهذه الدرجة كان ذلك الرجُل معدوم الأخلاق.
أقامَ والدي علاقة شِبه علَنيّة مع سارة علِمَ بها الكلّ تقريبًا، ما عدا والدتي طبعًا لكونها نائمة مُعظَم الوقت، وحاوَلَت عائلة أمّي إرجاعه إلى صوابه، بلا جدوى. فهو طردَهم مِن "بيته" مِن دون عودة وتابَعَ حياته الغراميّة مع المُمرّضة.
وفي أحَد الأيّام، لَم تستفِق أمّي. هل ساعدَها أحدٌ على الموت، لن نعرف أبدًا الجواب، لكن حتّى اليوم، لدَي شكوك عميقة في ما يخصّ ذلك. وإن كان أحَدهما أو الاثنان قد تسبّبا في موت أمّي الحبيبة، فهما يحترقان الآن حتمًا في نار جهنّم.
خبَر موت والدتي فاجأ الجميع، بمَن فيهم الطبيب الذي استنتجَ أنّ قلبها توقّفَ فجأة، أي أنّها ماتَت بظروف طبيعيّة. وأقسمُ أنّني رأيتُ الفرحة على وجه أبي وعشيقته، إذ كان المجال قد أفسِحَ لهما لعيش علاقتهما على سجيّتهما مِن دون عائق.
بكيتُ المرحومة والدتي أكثر مِن أيّ شخص آخَر، فهي كانت بالنسبة لي إنسانة عظيمة علّمَتني أن أُحِبّ وأطمَح وأنجَح. أقَمنا مراسِم الدفن التي حضَرَها حَشد كبير مِن الناس والأقارب، وفعَلَ أبي جهده ليبدو حزينًا، إلا أنّ الكثير كانوا على عِلم بطريقة حياته وعلاقته بالمُمرّضة. أمّا بالنسبة لهذه الأخيرة، فارتدَت الأسوَد وذرفَت دموع التماسيح، وأخذَت تروي للحضور عن الفقيدة بتعابير حميدة. سألَني البعض لِما لا أرمي تلك الفاسِقة خارجًا، فأشَرتُ لهم نحو أبي ففهِموا أنّ لا كلمة لدَيّ بالموضوع. لكن أحَدهم اقترَبَ منّي وهمَسَ في أذُني: "لا تُسيء فهمي لكن... البيت... أنتَ ابن وحيد... وسترِث الحصّة الأكبر. البيت بيتكَ، وبإمكانكَ رفض بَيعه والتصرّف به وبمَن يسكُنه". إبتسَمتُ رغمًا عنّي وعن وجودي في مأتم أمّي، فالرجُل على حقّ. كان باستطاعتي رمي سارة خارجًا ساعة أشاء. لكنّ والدي هو الآخَر كان على عِلم بذلك، ولَم يكن مُستعِدًّا أن يفقد عشيقته أو أن يرحَل مِن القصر.
سادَ هدوء حذِر في البيت منذ عودتنا نحن الثلاثة مِن المأتم ولَزِمَ كلّ منّا غرفته، فلَم أرَ أبي أو سارة لأيّام. كنتُ أشعرُ أنّ شيئًا يُحاك، لكن مِن دون أن أعرِف ماذا. ثمّ، في أحَد الأيّام، أخذَت المُمرّضة الشرّيرة أمتعتها وغادرَت. هل أنّ خلافًا ما وقَعَ بينها وبين أبي؟ إستغرَبتُ الأمر لكنّني لَم أسأله عنها، بل تصرّفتُ وكأنّها لَم توجَد بيننا قط. ولفترة وجيزة، سكنتُ في البيت مع أبي لوحدنا، واعتقدتُ للحظات أنّ بإمكاننا أن نتعايَش سويًّا. آه، كَم تمنَّيتُ أن يكون والدي أبًا كما باقي الآباء! خاصّة أنّني صِرتُ يتيم الأم وليس لي أخ أم أخت.
مرَّت الأسابيع بهدوء تام وكِدتُ أن أنسى سارة، وتوصّلتُ حتّى إلى الندم لاعتقادي أنّ لأبي أو لها علاقة بموت أمّي الحبيبة... إلى حين جاء ذكرى الأربعين لأمّي. أقَمنا الصلاة على روحها، ودعا والدي الجميع مِن أقارب وأصدقاء إلى مطعم لتناول الغداء ترَحّمًا على نفس الفقيدة. وصَلنا كلّنا المطعم لكنّ والدي لَم يكن موجودًا!
ما هذه الدعابة المُقرِفة؟!؟ عمَّت البلبلة بين المدعوّين، وتساءلوا كيف لزوج المرحومة عدَم حضور الغداء الذي أقامَه لها... وفجأة رأيناه داخِلاً... وإلى جانبه سارة بفستان عرس أبيَض! ماذا؟!؟ كيف؟!؟ ذُهِلَ الحضور وعمّ الصمت، واقترَبَ الثنائيّ مِن طاولة الشرَف وهما يُحيّيان المدعوّين والبسمة على وجهَيهما. كنتُ أوّل مَن غادرَ المطعم ولحِقَ بي تقريبًا الجميع، والذين بقوا في أماكنهم هم مَن كانوا على عِلم بالفرَح، أيّ بعض أصدقاء أبي المُقرّبين وأهل "العروس". بكيتُ كثيرًا ورحتُ أرتمي على سرير أمّي المسكينة، واعدًا إيّاها بأنّني لن أدَع هذَين الماكِرَين يتذوّقان السعادة. لا، لن أسمَحَ لهذه المهزلة بأن تطول وتحت سقف بيت أمّي الذي بُنيَ مِن مالها. فلقد اكتشفتُ في غرفة أبي أنّ الخزانة مليئة بأمتعة سارة، وكان مِن الواضح أنّها لَم تأخذ شيئًا معها حين هي ادّعَت المُغادرة، بل تركَت أغراضها لتعود بعد الفرَح.
بعد أيّام، إجتمَعتُ بأفراد عائلة والدتي وتناقَشنا بالمُستجدّات. فلَم يكن بمقدوري قانونيًّا رمي سارة خارج البيت بعد أن صارَت زوجة والدي الذي كان يملك حصّة ولو صغيرة في القصر. أسِفَ الجميع على حياة وموت أختهم وقريبتهم، وتمنّوا لي الصبر لتحمّل الأيّام الآتية. نصحَني أحَدهم بالزواج وترك المكان والذهاب بعيدًا، إلّا أنّني أجَبتُه بقوّة: "لا! لستُ مَن سيرحَل، بل هما!". فكانت قد خطرَت ببالي فكرة عظيمة وبقيَ لي التخطيط لها وتنفيذها. وتلك الفكرة بالذات أعطَتني دفعًا وتفاؤلًا وشعورًا بتحقيق العدالة.
يتبع...