توِّجتُ بطلاً

كان هناك شيء مُختلف لدى ذلك التلميذ... شغَف لَم أرَ مثله للدرس والمعرفة، ما يتمنّى أن يجِده كلّ أستاذ عند تلاميذه. كان اسمه سامي ودخَلَ تلك المدرسة عن طريق منحة حصَلَ عليها بفضل برنامج ترعاه إحدى المؤسّسات الانسانيّة الكبيرة. فسامي لَم يكن يُشبِه رفاقه، بل هو آتٍ مِن عائلة مُتواضِعة للغاية. ابوه، على خلاف آباء بقيّة الأولاد، لَم يكن صاحِب مؤسّسة كبيرة أو مُحاميًّا أو طبيبًا، بل عامِل بسيط في مصنع للمفروشات. أمّا بالنسبة لأمّه، فهي كانت أمّيّة تمامًا تهتمّ بالبيت وبأولادها الستّة وتسأل نفسها يوميًّا كيف ستُطعِمهم وماذا سيكون مُستقبلهم إن حظوا بحياة كحياتها. وأكبرهم كان سامي. أظنّ أنّه أحسَّ بالمسؤوليّة باكِرًا وبأنّ عليه تغيير حالة ذويه وإلّا عاشوا بالفقر حتّى باقي أيّامهم.

كان سامي رجُلًا منذ صغره ويحملُ في عَينَيه الواسعتَين أحلام أكبَر منه. وكان مِن الجيّد أنّ لا أحَد سوى الأساتذة كان يعلَم عن حالة سامي المعيشيّة، فجرى اندماجه بسلاسة تامّة، خاصّة أنّ كلّ التلامذة كانوا يرتدون زيًّا مُماثِلًا، أيّ أنّ سامي كان يُشبِه رفاقه تمامًا، على الأقلّ مِن الخارج، إلّا أنّه كان يفتقِد طبعًا للمعرفة الواسعة التي تلقّاها باقي التلاميذ في هكذا مؤسّسة تعليميّة مرموقة. أمّا أكاديميًّا، هو احتاجَ لدروس تقوية أُسنِدَت لي بعد أن سدَّدَت المؤسّسة المانِحة أتعابي. وهكذا، دخَلَ سامي مجموعة التلامذة الذين كانوا بحاجة لدروس تقوية بعد الدوام، والذي كان أيضًا فؤاد، تلميذ آخَر، جزءًا منها.

ذكَرتُ فؤاد لأنّه سيلعَب دورًا مُحدّدًا في مسيرة سامي التعلميّة في تلك المدرسة، وليس دورًا إيجابيًا، على الأقلّ في المعنى التقليديّ. لكن دعوني أخبرُكم قليلًا عن فؤاد الذي كان عمره آنذاك ثلاث عشرة سنة. كان يكبر رفاقه بسنتَين بسبب رسوبه مرّتَين لأنّه لَم يكن يُحبّ الدرس، فأبوه كان صاحب شركات ضخمة ووعَده بأنّه سيُوظَّفه في إحداها حين يكبر ويترأسها فيما بعد، أيّ أنّ الولَد كان مُطمئنًّا على مُستقبله، على عكس سامي. فهذا الأخير كان يعي إلى أنّ علاماته ستُحدِّد تجديد المنحة أم لا، وهذه كانت فرصة لا تُعوّض.

أحبَبتُ تعليم سامي، فهو كان بمثابة ورقة بيضاء كُتِبَت عليها بضع سطور وعليّ ملأها بالمعلومات العلميّة. وهو، بدوره، إستوعَبَ كلّ ما لقّنَتُه بحماس لَم أرَه مِن قَبل. للحقيقة، كان الولَد مُمتازًا ومُستقبله واعِدًا، بعكس فؤاد الذي لَم يُبدِ أيّ اهتمام حقيقيّ، بل قضى وقته باللهو والحركات المُزعجِة لدرجة أنّني صِرتُ أتضايَق منه وأتمنّى لو ينسحِب مِن تلك الدروس. لكنّه وجَدَ سلوة جديدة له وهي سامي، بعد أن فهِمَ أنّ زميله ليس مِن طبقته الاجتماعيّة بفضل تفاصيل ظهرَت هنا وهناك، وفرِحَ أنّه وجَدَ لنفسه ضحيّة مثاليّة لتنمرّه وللتعويض عن الشعور بالنقص الذي أحسَّ به خلال الدروس. لِذا هو أسرَعَ بإخبار أصحابه في الصفّ عن سامي وإمكانيّة عدَم انتمائه لطبقة باقي تلامذة المدرسة.

وللتأكّد مِن شكوكه، لِحقَ فؤاد سامي إلى مسكنه المُتواضع وسألَ بعض الجيران عنه، وعلِمَ كلّ ما يجب معرفته. وبأقلّ مِن يوم واحِد، باتَ الجميع على عِلم بوضع سامي.

وبعد ذلك، إنقلبَت حياة ذلك الصبيّ المسكين إلى جحيم يوميّ بسبب التلميحات الخفيّة ثمّ العلَنيّة التي تعرّضَ إليها، فباتَ محطّ سخرية الجميع. لَم يستسلِم سامي، بل بقيَ يأتي إلى المدرسة يوميًّا وإلى دروس التقويّة لكنّه صارَ صامِتًا والدمع لا يُفارِق عَينَيه. غضبتُ كثيرًا فوقفتُ إلى جانبه وأسكَتُّ المُتنمّرين بقوّة، خاصّة فؤاد الذي تشاجَرتُ معه بعنف حين هو لَم يكفّ عن التمادي مع سامي. لكن في اليوم التالي طلبَني مُدير المدرسة إلى مكتبه قائلًا:

ـ أستاذ جَودَت... لا أعرفُ إن كنتَ تنتمي حقًّا إلى هذه المؤسّسة الكريمة.

 

ـ لَم أفهَم، سيّدي.

 

ـ إلى جانب مَن أنتَ؟ إلى جانب تلامذتنا الفاضلين أم جانب ولَد فقير لا أصل ولا فصل له؟

 

ـ هل تتكلّم عن سامي؟

 

ـ نعَم... هو نفسه الذي أُجبِرنا على قبوله مع أنّه لا يليقُ بمدرستنا!

 

ـ بل يليقُ وبقوّة! إنّه تلميذ لامِع لا يحتاج سوى إلى بعض الدروس إلى حين يصبح مِن بين الأوائل، فأنا لَم أرَ خلال مسيرتي التدريسيّة تلميذًا مُماثِلًا!

 

ـ أب فؤاد هو تلميذ قديم لهذه المدرسة وهو مِن أكبر المُتبرّعين لنا! كيف تُغضِبه؟!؟ هل فقدَت عقلكَ؟ ومِن أجل ولَد تافِه؟!؟

 

ـ التافِه هو فؤاد ورفاقه! ولو يضَعون ولو قسمًا مِن طاقتهم التي يستعملونها للتنمّر في دروسهم، لكانوا فالحين. بل أنّهم يتّكلون على مال ذويهم لبناء مُستقبلهم.

 

ـ وما الخطأ في ذلك؟ وهل تَعتبِر الثراء والجاه صفات سيّئة؟

 

ـ لا، بل لا أرى منفعة مِن أن يدرسوا، وحسب.

 

ـ أُريدُكَ أن تكفّ عن الدفاع عن ذلك الذي اسمه سامي وعن مُضايقة باقي تلامذتنا.

 

ـ هذا مُنافٍ لمبادئي، سيّدي.

 

ـ إذُا أُريدُكَ أن تقدّم استقالتكَ.

 

ـ لن يحصل ذلك، فأنا مُرتاح هنا. عليكَ أن تطردني بنفسكَ!

 

ـ حسنًا!

 

ـ لكن... لو طردتَني، سأفعلُ جهدي ليعرف الجميع السبب، خاصّة تلك المؤسّسة المانِحة وكذلك وزارة التربية وكلّ مَن يهمّه تكافؤ الفرَص لدى الأولاد.

 

ـ هل تُهدّدُني؟

 

ـ إعتبِر الأمر كما تشاء! سأُكمِل تدريس سامي والدفاع عنه، فهذه مهنتي لبل رسالتي. أنا مُدرِّس يا سيّدي، ولستُ مُديرًا يجلسُ على كرسيّه طوال النهار ويستقبل الأغنياء ويقبَل الهدايا منهم.

 

ـ كيف تجرؤ!!!

 

ـ دَعني أقومُ بعمَلي بسلام، هذا كلّ ما أُريدُه.

 

خرجتُ مِن مكتب المُدير مُستاءً لأقصى درجة وعالِمًا أنّه سيُحاربُني بكلّ الأسلحة المُتاحة له. لكنّني لَم أكن خائفًا، ومستقبل سامي وعائلته كان أهمّ مِن كلّ شيء، فتقاعدي كان قريبًا ووجَبَ عليّ الاستفادة مِن السنوات القليلة المُتبقيّة لي لأفعل فرقًا في حياة هؤلاء الناس المساكين. وكان عليّ أن أنجحَ بذلك، وكان الفشَل غير مسموح على الاطلاق!

لذلك، صرتُ أذهب إلى بيت سامي يوميًّا بعد الدوام وأعطيه كلّ ما أملك مِن معرفة وجدارة. ويوم بعد يوم، بدأتُ أرى أمام عَينَيّ كيف صارَ سامي مُفعمًا بالعِلم والمعرفة وبقوّة بانَت على ملامحه. فالعِلم بالفعل أعظَم سلاح ويُعطي صاحبه قوّة تفوقُ أكبَر حساب مصرفيّ.

وفي آخِر السنة الدراسيّة، تفوَّقَ سامي على جميع رفاقه، الأمر الذي أتاحَ لي تقديم طلَب له لدى المؤسّسة المانِحة لِنَقله إلى مدرسة خاصّة أخرى حيث يستطيع دخولها بثقة وإبداع.

في تلك الأثناء، رسَبَ فؤاد طبعًا، لكنّ ذلك لَم يؤثِّر على انتقاله للصفّ الأعلى، كجائزة طردية مِن قِبَل المُدير لأبيه. لكن الخناق ضاقَ حولي في المدرسة، إذ أنّ العديد مِن أهل التلامذة اشتكوا عليّ لدى المُدير وأعضاء مجلس الإدارة، فعُرِضَ عليّ تعويض كبير مُقابِل استقالتي. قبِلتُ العرض لسبَبَين: الأوّل هو أنّ مُهمّتي تجاه سامي قد أُتممِت، والثاني أنّني بالفعل لَم أعُد أجِد لذّة في تعليم تلامذة غير راغبين بالعِلم. تقاعَدتُ مِن دون أن أندَم ورحَلتُ بلا أن أودِّع أحَدًا.

تابَعتُ مسيرة سامي عن بُعد، لأنّني لَم أكن أُريدُ أن أكون حاضِرًا في حياته، بل أن يشعُر أنّ بإمكانه أن يُحلِّق بنفسه مِن دون الاتّكال عليّ، فهدَفي كان أن يصبَح مُستقِّلًا وقويًّا بوَجه كلّ التحدّيات. وبعد سنوات، علِمتُ أنّه حصَلَ على منحة لدخول جامعة في الخارج فسافَرَ مِن دون خوف إلى ما ينتظره. في تلك الأثناء، بقيتُ أُعطي بعض الدروس الخصوصيّة في بيتي كَي لا أشعُر بالملل، ولأنّني بالفعل أُحبُّ مهنتي.

مرَّت السنوات، ودقّ بابي زائر فرِحتُ لأقصى درجة برؤيته: سامي وبرفقته صبيّة أجنبيّة حسناء عرّفَها عليّ بأنّها خطيبته. نزلَت الدموع على خدَّيّ عندما قالَ لها بالإنكليزيّة:

ـ إنّه بطَلي... آمَنَ بي وصارَعَ مِن أجلي... هو لَم يرَ ما رآه الكلّ بي وهو فقري وأصلي، بل فقط ولَدًا يحقّ له أن يتعلّم ويحصل على فرصة أفضل في عالَم لا يرحَم. وإن كنتُ سأتزوّجكِ قريبًا، فهذا بسببه، لِذا سنُعطي مولودنا الأوّل اسمه ليعيش ويكبَر ويصبح فضيلًا مثله.

 

تعانَقنا وبالكاد استطعتُ تمتمة بضع كلمات شكر لهذا الشاب الرائع الذي لَم ينسَني بالرغم مِن أنّه وصَلَ إلى مُبتغاه في الحياة. وبعد أن هدأتُ قليلًا، سألتُه عن ذويه وهو طمأنَني بأنّه يعتَني بهم كما يجب. وقَبل أن يرحَل سامي وخطيبته، دعاني لِفرَحهما ولأكون جزءًا مِن حياتهما بالطريقة التي أٌفضّلها.

جلَستُ على كنبَتي المُفضّلة وبسمة عريضة على وجهي، فها كنتُ قد توَجّتُ أخيرًا مسيرتي التعليميّة بنجاح تام. فصحيح أنّني درّستُ المئات مِن الطلّاب، بل الألوف، لكنّني لَم أشعُر مِن قَبل بهذا القُرب لأيّ منهم، فبالكاد أعرفُ أيّ شيء عنهم ونادِرًا ما يتذكّرونَني لأنّهم ينشغلون بحياتهم، أمر أتفهّمُه تمامًا. فغالبًا يُعتبَر الأستاذ مُجرَّد وسيلة لبلوغ هدف، ويُنسى مع مرور الوقت. أمّا بالنسبة لسامي، فصِرتُ جزءً مِن حياته سيستمرّ عَبر ابنه، وربّما لأجيال عديدة، بعد مماتي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button