توأمان غير شقيقين

عمِلتُ جهدي لأنسى توفيق، الرجل الذي حطَّمَ قلبي وأساء مُعاملتي، ونجحتُ بذلك بعد أكثر مِن سنتَين. بعد ذلك، عُدتُ إلى حياتي الطبيعيّة وعادَ إليّ الأمل بأن أحبّ مِن جديد.

لكنّ انكبابي على عملي حرمَني مِن الخروج كالسابق، لِذا وجدتُ أنّني لن أتمكّن مِن الالتقاء بالذي سيُسعدَني. ففعلتُ كالعديد مِن الناس، وسجَّلتُ نفسي على أحد المواقع المُخصّصة للتعارف... ومِن ثمّ نسيتُ الأمر.

وصلَتني رسائل عديدة مِن مُعجبين كثر، فقد كنتُ صبيّة جميلة وجذّابة، وكان الموقع قد أجبرَني على وضع صورة لي. لَم يُعجبني أيّ مِن الذين كلّموني، وحين كنتُ على وشك إنهاء اشتراكي... وصلَتني رسالة مِن توفيق! يا لوقاحته! كيف له أن يجرؤ على مُخاطبتي بعد الذي فعله بي؟ فأنا لَم أنسَ الإساءة أو كذبه المرضيّ واستغلاله لي! عُدتُ وظننتُ أنّه يُريدُ الإعتذار، وهو أمرُ يُعيدُ إليّ عزّة نفسي التي عَمِلَ على تحطيمها. ومِن أجل ذلك، أجبتُ بهذه الكلمات:

 

ـ ماذا تريدُ منّي؟

 

ـ أريدُ التعرّف إليك. تبدين لي صبيّة جميلة وذكيّة بعد أن قرأتُ ما كتبتِه في بروفايلِك.

 

ـ هل تستغبيني؟ تُريدُ التعرّف إليّ؟ ألا تعرفُني؟

 

ـ كلا، فهذه أوّل مرّة نتكلّم فيها سويًّا. ولماذا هذه العدائيّة تجاهي؟

 

كدتُ أن أُنهي المُحادثة حين فتحتُ صورَه وكّبرتُها. كان هناك شيء مُختلفًا في مظهره. هل يُمكن أن يكون فقط شبيه توفيق؟ لِذا بدأتُ أسألُ الرجل مئة سؤال وسؤال، وعلِمتُ منه أنّ إسمه تامر وأنّه بسنّ توفيق لكن ليس تمامًا، وأنّه يسكن في مكان أخر مِن المدينة. لَم أقتنِع، إلا أنّني لَم أعد واثقة مِن أنّه خطيبي السابق. وكي أتأكّد مِن الأمر، أعطَيتُه موعدًا في مقهى قريب مِن بيتي.

عندما دخَلَ تامر، كادَ قلبي أن يقفِزَ مِن صدري، إذ كان هو توفيق بالذات! وعندما قرّرتُ ترك طاولتي والخروج بسرعة مِن المقهى، إقتربَ الرجل منّي وقال لي: "ما بكِ، هل رأيتِ شبحًا؟" عندها، لاحظتُ الفرق بين خطيبي السابق والذي يقفُ أمامي، فهذا كان أسمَن وله لحية خفيفة، والأهمّ أنّه أنيق ويرتدي ثيابًا مُتناسقة وثمينة. فتوفيق كان معروفًا بقلّة ذوقه وبِبخله، فلَم يكن يرى فائدة مِن شراء ملابس جديدة بل كان يُصلح ما هو قديم ويستفيدُ منه لسنوات طويلة.

 


جلَسَ تامر قبالتي، وانتظرَني حتى ألتقطُّ أنفاسي ثمّ قال لي: "أظنّ أنّ عليكِ إخباري بما يُقلقُكِ فيّ إلى درجة الهلَع، فهذا مِن حقّي."

كان على حق، لِذا رويتُ له مآسيَّ مع توفيق، وشرحتُ له كَم أنّ وجه الشبه كبير بينهما. ضحِكَ تامر وقال لي: "لا تخافي، لستُ ذلك الرجل البغيض، ولأثبتَ لكِ ذلك سأدعوكِ إلى شقّتي وترَين بنفسكِ."

لَم أقبل دعوته طبعًا، فكانت تلك أوّل مرّة ألتقيه، واكتفَيتُ بالتكلّم معه عبر الهاتف ورؤيته في أحد المقاهي مِن وقت لآخر. وفي إحدى المرّات، بينما كنتُ وتامر جالسَين في مقهى، وصلَت صدفةً إبنة عمّي وصَرَخَت بي:

 

ـ يا إلهي! لقد عدتِ إلى توفيق؟

 

ـ هاهاها! لا يا حبيبتي، هذا تامر وهو يُشبه حقًّا توفيق لكنّه ليس هو.

 

ـ بلى! أنظري إليه! هو نفسه!"

 

بان الإنزعاج على وجه تامر، لِذا قطعتُ الحديث مع إبنة عمّي وتخلّصتُ منها بسرعة. إعتذرتُ مِن تامر ورجوتُ منه أن يفهم أنّه حقًّا وكأنّه أخ توفيق التوأم. عندها نظَرَ إليّ بحزن وقال:

 

ـ ألهذا تواعديني؟ فقط لأنّني أُشبه توفيق؟

 

ـ لا! أعترفُ أنّ الموعد الأوّل الذي أعطَيتُه لكَ كان لتحدّي توفيق الذي خلتُه يوقِعُ بي، إلا أنّ المواعيد الباقية هي لكَ ومعكَ.

 

ـ لا تُحطّمي قلبي أرجوكِ لأنني بدأتُ أتعلّق بكِ.

 

إحمّر وجهي وامتلأ قلبي بالسعادة عند سماعي ذلك.

خرجنا سويًّا مِن المقهى ورأيتُه يصعد في سيّارة جميلة وفخمة، على عكس سيّارة توفيق التي كانت قديمة الطراز وبالكاد تعمل.

ولأتأكّد كليًّا مِن أنّ تامر ليس توفيق، أخذتُ معي إبنة عمي ورحنا نلبّي دعوة تامر في بيته. صُعِقنا لجمال المكان الذي كان على ما يبدو مسكونًا منذ سنوات، واستغربتُ لوجود صوَر له مع إمرأة وولدَين. وعندما سألتُه عنها قال لي دامعًا أنّ كان له عائلة لكنّ أفرادها ماتوا في حادث سيّارة مروّع. كانت زوجته أجنبيّة الأصل ودُفِنَت في موطنها، على خلاف ولدَيه اللذين يرقدان في مقبرة مُجاورة. تأثّرتُ كثيرًا لسماع ذلك، خاصّة أنّه قال لي: "لَم أكن أمزح عندما طلبتُ منكِ عدَم تحطيم قلبي فهو لَم يعد يتحمّل الصدمات."

ومنذ ذلك اليوم، إطمأنّ قلبي تمامًا، واستطعتُ الوثوق بتامر ومواعدته وكأنّه حقًّا غريب بالنسبة لي. وحدها إبنة عمّي بقيَت تجزمُ أنّه توفيق، لِذا ابتعدتُ عنها، فمِن الواضح أنّها محدودة الأفق أو أنّها تغار منّي لأنّني وجدتُ الحبّ مُجدّدًا، بينما هي لم تحظَ بعد بعاطفة أحد.

لَم يشأ تامر زيارتي في البيت، خوفًا مِن أن يظنّ أهلي أنّه توفيق ويُسيئوا التعامل معه، وتفهمّتُ الأمر تمامًا وصرنا إمّا نخرجُ إلى المطاعم أو نقصد شقّته. لَم أكن خائفة مِن التواجد معه لوحدي، فهو كان إنسانًا يتمتّع بأخلاق عالية، خاصّة بعدما أعرَبَ عن نيّته بالزواج منّي، ولم يكن بحاجة إلى استعمال أساليب مُلتوية للحصول على مُبتغاه. شرطه الوحيد كان ألا أغيّر شيئًا في أثاث البيت، فهو أرادَه كما هو، أي كما كان عندما كانت عائلته على قَيد الحياة:

 

ـ أعلمُ أنّ كلّ سيّدة تُريدُ وضع لمستها على حيث ستسكن، إلا أنّني مُتعلّقٌ بذكرياتي. سيأتي يوم وتنجحين بتخفيف حزني وأنتظرُ هذه اللحظة بفارغ الصبر.

 


لَم يكن لتامر أصدقاء كثر، فهو ابتعَدَ عن الجميع بعد الحادث الذي أودى بزوجته وولدَيه، لأنّه لَم يستطع الضحك والفرح بينما هم تحت التراب. كانت مهمّتي صعبة، لكنّني صمَّمتُ على إرجاع الفرح إلى قلب حبيبي باعطائه الأمان والحنان اللذين يفتقدُ إليهما. ولا أخفي أنّني كنتُ سعيدة للغاية، لأنّ ذلك الرجل الذي يُشبه توفيق إلى اقصى درجة هو عكسه تمامًا، وشعرتُ أنّني أحظى بفرصة ثانية.

فتوفيق كان رجلاً بخيلاً لا يأتي لي بهدايا أو يأخذني إلى أيّ مكان، بل كان يقصدُ بيتنا خلال النهار ليأكل ويشرب ثمّ يرحل. وكنتُ أساعدُه ماليًّا لأنّه كان شبه فقير... وبخيل! ولَم أرَ مانعًا في ذلك لأنّ راتبي كان جيّدًا ويكفي لاثنَين. لكنّه كان فظًا معي ويراني حين يشاء هو، ولَم أشعر بحبّه أبدًا حتى عندما وافقَ أن نتزوّج بعد أن ضغَطَ أهلي عليّ. وذات يوم، طفَحَ كيلي مِن هكذا عريس، فتركتُه بالرغم مِن حبّي الكبير له بعد أن أدركتُ أنّه لَم يحبّني بل قضى وقته يُعاملني وكأنّني غير جديرة به. أمّا هو فلَم يتقبّل أمر تركي له، فبنظره كان عليه هو اختيار موعد افتراقنا وليس أنا.

...أمضَيتُ شهرَين رائعَين مع تامر إلى حين قرَّرَ أنّ علينا الإنفصال. صرختُ لكثرة دهشتي وسألتُه عمّا فعلتُه له كي ينوي تركي. ضحِكَ وأمسكَ بيدَي قائلاً:

 

ـ أنتِ رائعة، والسبب ليس أنتِ بل... أوضاعي. لقد علِمتُ منذ أيّام أنّ الشركة التي أعملُ فيها أعلنَت إفلاسها، أي أنّني صرتُ بلا عمل ومدخول. لن أجرّكِ أبدًا إلى هكذا مُغامرة فأنتِ تستحقّين الأفضل. وقريبًا سأضطّرُ إلى تَرك هذا المنزل حيث كلّ ذكرياتي... يا إلهي... لماذا يحصلُ لي ذلك؟ كيف سأدفعُ الإيجار والفواتير؟

 

ـ سأساعدُكَ!

 

ـ كما فعلتِ مع توفيق؟ لا شكرًا!

 

ـ إنسَ توفيق! سأعطيكَ المال اللازم كي تبقى، أو بالأحرى نبقى في هذا البيت.

 

ـ لا يُمكنُني الإستفادة منكِ. كَم أنتِ رائعة! يا لَيتني تعرّفتُ إليكِ مِن قبل، أي حين كنتُ مرتاحًا مادّيًّا، لأرَيتُكِ كرَمي كلّه!

 

وفي اليوم التالي قصدتُه في بيته حاملةً معي معظم راتبي. لَم أكن لأقبل أن أعيش مِن دون تامر بسبب أمور ماليّة. لكنّني وجدتُ إبنة عمّي في أسفل المبنى واقفة تحدّقُ بالمكان. إستغربتُ الأمر وغضبتُ منها، فكان مِن الواضح أنّها تُراقب تامر، لأنّها لَم تقتنع بأنّه ليس توفيق. إقتربتُ منها وصرختُ فيها:

 

ـ ما الذي تفعلينَه هنا؟!؟ أتركيني وشأني! لقد ابتعدتُ عنكِ كي لا أسمع منكِ نظريّاتكِ المجنونة. إرحلي مِن فضلكِ!

 

ـ إسمعي...

 

ـ لن أسمع! إرحلي أقولُ لكِ!

 

ـ كَم أنّكِ عنيدة وغبيّة! لن أرحلَ مِن هنا فأنا واقفة على الرصيف الذي هو ملك عام! لن أدعكِ تقعين في شباك توفيق مرّة أخرى! لقد أجرَيتُ بعض التحرّيات و...

 

ـ أنتِ حقًّا مجنونة!

 

ـ وعلِمتُ مِن الناطور أنّ "لِتامر" زوجة وولدَين.

 

ـ أجل، وماتوا في حادث سيّارة، أعلمُ ذلك، كنتِ معي حين سألتُه عن صوَرهم.

 

ـ بل لا يزالون على قيد الحياة! لقد أخذَت الزوجة الولدَين إلى أهلها كما تفعل كلّ سنة خلال فرصة الصيف وسيعودون بعد أيّام في موعد بدء السنة الدراسيّة، سترَين.

 

ـ هل تغارين منّي إلى هذه الدرجة؟

 

ـ إنتظري أيامًا قليلة وسترَين تغيّرًا في تصرّفات تامر. هل سيدعوكِ إلى بيته؟ بالتأكيد لا! عودي أدراجكِ وادّعي المرض لأيّام، أرجوكِ!

 

لا أدري لماذا، لكنّني فعلتُ كما قالَت لي وقلتُ له إنّني مريضة. وبعد أسبوع إتصلتُ به قائلة:

 

ـ أنا آتية إليكَ يا حبيبي، سأجلبُ معي بعض الأكل ونجلس سويًّا نُشاهد فيلمًا.

 

ـ لا! أقصدُ ليس بإمكانكِ القدوم فلقد... أعني لقد طردَني المالك لعدَم قدرتي على دفع الإيجار. عليّ مُغادرة المكان في غضون 24 ساعة.

 

ـ إذًا سأساعدُكَ في جمع أغراضكَ. أنا آتية.

 

أقفلتُ الخط وانطلقتُ على الفور ودقّيتُ بابه. وعندما فتَحَ لي تامر، خرجَ مِن الشقّة ودفعَني إلى الخلف. وقفنا في الردهة وهو حاوَلَ إقناعي بعدَم لزوم مساعدته بجمع أغراضه. كان شكله مُزريًا لشدّة خوفه. أزحتُه جانبًا وأخذتُ أخبطُ على الباب إلى أن فتحَت لي امرأة أجنبيّة لحِقَ بها ولدان. ضحكتُ لكثرة غبائي وقلتُ لتامر:

 

ـ أنتَ توفيق، أليس كذلك؟ تكلّم أو أروي لزوجتكَ كلّ شيء!

 

ـ أجل... أعنّي أنا تامر منذ البداية ومُتزوّج منذ سنوات. وقد ادّعيتُ أنّ إسمي توفيق لأستفيد منكِ ماليًّا وربمّا أكثر مِن ذلك، لكنكِ تركتِني وقطعتِ عنّي مصروفًا كنتُ قد تعوّدتُ عليه. وعندما رأيتُكِ على ذلك الموقع، خطَرَ ببالي الإستفادة منكِ مُجدّدًا. إلى جانب ذلك، إستأتُ كثيرًا عندما قرّرتِ الإنفصال عنّي، فعزّة نفسي لَم تتقبّل الأمر وعزمتُ على تلقينكِ درسًا.

 

ـ كنتَ متزوّجًا منذ البداية وتتلاعب بي؟!؟

 

ـ أجل، أنا آسف.

 

صفعتُه صفعة قويّة أدهَشت زوجته وأولاده، وصرختُ لزوجته بالانكليزيّة: "لو كنتُ مكانكِ لبقيتُ في بلدي، فزوجكِ خائن إستفادَ منّي مرّتَين."

نزلتُ السلالم وأنا أبكي مِن الغضب، فذلك الوغد إستغباني مرّتَين! وبالرغم مِن أنّ الدّرس كان قاسيًا، تعلّمتُ عدَم الوثوق بالناس بسهولة بل إبقاء حبّي ومالي لمَن يُعاملُني بالمثل.

شكرتُ إبنة عمّي التي أنقذَتني، وها نحن ننتظرُ سويًّا إيجاد الشخص المُناسب لنا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button