تقوى عجوز غامضة

إنّ أرَدتُ تذكّر الخالة فاديا، تأتي على الفور صورة واحدة إلى ذهني وهي إمرأة رافعة يدَيها إلى السماء تُصليّ. للحقيقة، كانت تلك العجوز فائقة التقوى لدرجة أنّها صارَت مثلاً يُضرَب في القرية أجمعها.

كنتُ آنذاك صغيرة، أي في الثامنة مِن عمري، إلا أنّني واكبتُ تطوّرات ما حدَثَ بفضل أمّي وصديقاتها اللواتِي صِرنَ تجتمعنَ حول فنجان شاي لكثرة انشغالهنَّ بأخبار الخالة فاديا وإلا لمَا أذنَت لي بسماع هكذا تفاصيل. على كلّ الأحوال، لَم أفهَم نصف ما قيل أمامي وأبعاده بسبب صغر سنّي، وتطلَّبَ الأمر سنوات عديدة حتى استوعبتُ كامل القصّة كما يجب.

دعوني أحكي لكم أوّلاً عن الخالة فاديا كما عرفناها جميعًا، أيّ سيّدة عجوز تُلقي السلام على المارّة مِن على شرفة بيتها التي كانت تُطلُّ على الطريق. كان مِن المعلوم أنّ تلك المرأة هي أرملة وليس لدَيها أولاد، لكن ما مِن أحد كان قد رأى المرحوم زوجها يومًا، أمرٌ غريبٌ للغاية، أليس كذلك؟ ولَم يسأل أحدٌ نفسه مِن أين كانت العجوز تأتي بالمال اللازم لتعيش، وكأنّ الخالة فاديا نبتَت يومًا مِن تحت الأرض، أرملة تقيّة ومُسالمة. في الأعياد الدينية، كانت الخالة فاديا أوّل مَن يذهب إلى الصلاة وتُبخّرُ بيتها بشكل يوميّ وتدعو الناس للهِداية مُسمعةً أيّاهم آيات مِن اختيارها. بكلمة، صارَت العجوز تُعتبَر بركة على البلدة يفتخرُ بوجودها السكّان كافّة.

وفي أحد الأيّام، ومِن دون أن يتوقّع أحدٌ ذلك، دخَلَ البلدة رجل عجوز وسألَ أوّل إنسان مرَّ بالقرب منه عن فاديا. تابَعَ العجوز طريقه حتى وصَلَ بيت الخالة فاديا ودقَّ بابها إلا أنّ أحدًا لم يفتَحَ له. عندها وقَفَ الرجل أمام الشرفة وصَرَخَ بأعلى صوته:

 

- أخرجي مِن وكركِ أيتها الأفعى، فلقد وجدتُكِ أخيرًا. أخرجي قبل أن أهدّ البيت على رأسك!

 


توقّفَ المارة وانتظروا مُندهشين ما سيحدث بين الرجل والتي أسماها "الأفعى" ، لكنّهم عادوا وتابعوا أعمالهم عندما لَم تظهر الخالة فاديا. بعد دقائق أخَذَ الرجل حجارة عن الطريق ورماها على نوافذ بيت فاديا بقصد كسرها إلا أنّ سنّه لَم يُساعده على تنفيذ ما في باله.

مشى العجوز حتى المقهى الوحيد الذي يجتمع فيه عادة كبار السن، وجلَسَ إلى طاولة بالقرب منهم ليستدير ويقول لهم:

 

- لقد بحثتُ عن تلك الساحرة الشريرة مدى ثلاثين سنة! ولن أرحَل قبل أن أراها.

 

أجابَه أحد الرجال:

 

- ساحرة شرّيرة؟!؟

 

- بالمعنى المجازيّ طبعًا... أقصدُ أنّني أريدُ رؤية فاديا! أنا باقٍ هنا حتى أراها!

 

- الخالة فاديا؟ إنّها بركة البلدة! كيف تتكلّم عنها هكذا؟ ألا تخجل مِن نفسكَ؟

 

- ها ها ها! بركة البلدة؟!؟ سأخبرُكم مَن تكون "الخالة" فاديا! أجلبوا لي فنجان قهوة... لا بل ركوة قهوة كبيرة فالأخبار كثيرة!

 

تجمَّع حوله الرجال وبريق الفضول يلمَع في عيونهم، ونسوا بلحظة أنّهم دافعوا عن فاديا قبل ثوانٍ.

شرِبَ العجوز فنجانه الأوّل وأخَذَ نفَسًا عميقًا ناظرًا حوله بفخر لأنّ بِحوزته أسرارًا خطيرة، ثمّ قال:

 

- كانت فاديا زوجتي... ولا تزال، أعني قانونيًّا، إلا أنّها هرَبَت يومًا مِن البيت الزوجيّ ولَم أرَ حتى اليوم وجهها القذر مُجدّدًا.

 

- لكنّها أرملة!

 

- إسمعوني جيّدًا... لا تصدّقوا كلمة واحدة ممّا يخرجُ مِن فمها الوسخ! أقول لكم إنّني زوجها ولدَيّ كلّ الأوراق التي تثبتُ ذلك!

 

- وماذا تريدُ منها؟ فهي عجوز الآن!

 

- أُريدُ الإنتقام منها شخصيًّا واسترجاع ما أخذَته منّي! إسمعوا... تلك المرأة التي تسمّونها "بركة" كانت فيما مضى تعملُ في كاباريه. أجل، أجل... في البدء كنادلة ومِن ثمّ كراقصة. وكنتُ شابًّا عازبًا أحبُّ أن أقصد هكذا أماكن للتفرّج على تلك الراقصات اللواتي تبحثنَ عمَّن ينتشلهنّ مِن هكذا أجواء، فعالم الليل وسخ وخطِر. أظنُّ أنّ فاديا رأت فيّ الضحيّة المُناسبة فصارَت تتودّدُ إليّ وتوحي لي بأنّني إنسان مميّز، فشعرتُ بالفخر لأنّ تلك الأفعى كانت فائقة الجمال.

 

- الخالة فاديا كانت فائقة الجمال؟!؟

 

ـ أجل، ولدَيها قوام يحمل أعقَل شاب على دخول عالم الخطيئة. تواعدنا وتقاسمنا السرير نفسه إلى أن أُغرِمتُ بها. أردتُها لي وحدي وفكرة وجودها في ذلك الكاباريه صارَت لا تُطاق لدَيّ. لَم يبقَ أمامي سوى حلّ واحد: الزواج منها. إلا أنّ عائلتي لَم تكن أبدًا لتقبل براقصة خاصّة أنّني الإبن الوحيد لأناس أغنياء. بكيتُ وأصرَّيتُ وتوسّلتُ وهدّدتُ... وانتهى بي المطاف بالزواج مِن فاديا بعد أن حرَمَني أبي مِن دخول بيته. لَم يهمّني الأمر فقد كانت حبيبتي إلى جانبي ورحتُ أفتّشُ عن عمل. لكن ولدًا مُدلّعًا مثلي لَم يكن قادرًا على فعل أيّ شيء مُجدٍ. بعد فترة، لَم يعُد لدَينا قرش واحد حتى لدفع إيجار الشقّة الصغيرة التي سكنتُ فيها مع زوجتي. إضافة إلى ذلك، أصبحَت طباع فاديا حادّة للغاية بعد أن أدركَت أنّها تزوّجَت مِن شاب لا يملكُ شيئًا، فدبَّرَت لي عملاً في الكاباريه كحارس أمام الباب وهي عادَت إلى الرقص. كنتُ أغلي غضبًا عندما أرى الرجال يحومون حولها، لكن ما عسايَ أفعل؟ لِذا بدأتُ ألعبُ المَيسر، فمَن يدري، قد أربَح الكثير مِن المال وأستعيدُ حبّ فاديا لي؟ إلا أنّ أحدًا لا يربحُ في هكذا ألعاب، فبتُّ مديونًا لدرجة حمَلَتني على التفكير بالإنتحار. عندها أعطَتني فاديا فكرة جيّدة، وهي الإدّعاء أمام أهلي بأنّني طلّقتُها والعودة إلى البيت ليتدفّق المال علينا مِن جديد.

 


وهكذا فعلتُ. أخذتُ أمتعتي وقرعتُ باب أهلي نادمًا على فعلَتي فاستقبلوني بأذرع مفتوحة... كانت قد نجحَت فكرة فاديا. وصرتُ أعيشُ عند أهلي وأزورُ يوميًّا زوجتي في الشقّة الكبيرة التي نقلتُها إليها وأجلبُ لها المال والهدايا. إستمرَّ الوضع هكذا لسنتَين وصرفتُ على فاديا مبالغ طائلة بعدما كتبتُ الشقّة باسمها واشتريتُ لها سيّارة فخمة ومجوهرات باهظة الثمَن. وعندما أخبرَتني بأنّها حامل، قرَّرتُ وضع مالٍ جانبًا لحين أتركُ أهلي مِن جديد وأعيشُ أخيرًا مع زوجتي والمولود. أقنعَتني فاديا بتحويل ذلك المال إلى عملات ذهبيّة ففعلتُ، وهي خبّأتها معها. لَم أنتبِه إلى أنّ بطن زوجتي لَم يكبر، وذلك لكثرة انشغالي بتأمين مُستقبل عائلتنا الصغيرة، ولَم أنتبِه إلى أنّ رجلاً آخر كان يأتي إلى الشقّة أثناء غيابي. وهكذا، وفي وقت ظننتُ أنّني أسعد رجل في العالم، هرَبَت فاديا مع عشيقها وذهَبي! علِمتُ لاحقًا أنّها لَم تكن يومًا حاملاً وذلك مِن فَم إحدى الراقصات التي أكّدَت لي أنّ فاديا نوَت إستغلالي منذ اللحظة الأولى.

علِمَ أهلي بأنّني كنتُ لا أزالُ مُتزوّجًا مِن الراقصة وبأنّني أعطَيتُها مالي كلّه فعادوا وطردوني لكن نهائيًّا. ومنذ ذلك الحين وأنا أعيشُ في القلّة وأقومُ بأعمال بسيطة لأنّ فاديا باعَت الشقّة والسيّارة أيضًا. لَم أرِث شيئًا لأنّ والدَيّ اعتبرا أنّني غير جدير بمالهما، بل كتبا أملاكهما لجميعّات خيريّة ولا أستطيع أن ألومهما. علِمتُ صدفة مؤخرًّا أنّ فاديا تعيشُ في هذه البلدة وجئتُ لأنتقمَ منها وآخذ ذهَبي.

 

- وما أدراكَ أنّها لا تزال تحتفظُ بالنقود الذهبيّة؟

 

ـ لأنّني أعرفُها جيّدًا. أريدُ حقّي!!!

 

- إهدأ يا رجل، إهدأ.

 

شرِبَ الرجل باقي القهوة واسترخى قليلاً ناسيًا لوهلة مهمّته، حين سُمِعَ صراخ شابّ كان موجودًا حين روى الغريب قصّته وترَكَ الطاولة ربّما ليتفقّد فاديا . إستدارَ الجميع نحوه وهو قادم ركضًا إلى المقهى وقائلاً:

 

- لقد استقلَّت الخالة فاديا سيّارة أجرة وغادرَت البلدة!

 

كاد الزوج يقَع عن كرسيّه وصَرَخَ بدوره:

 

- لن تفلتي منّي أيّتها الأفعى! سأظلُّ أركضُ وراءكِ حتى آخر رمَق!

 

غادَرَ الرجل البلدة وبدأَ أهلها يتداولون قصّة فاديا لزمَن طويل، مُضيفين طبعًا تفاصيل مِن مُخيّلتهم حتى صارَت العجوز تُمثّل المكر والإحتيال.

 

هل أنّ فاديا تابَت فعلاً وأمسَت تقيّة تخافُ الله؟ أم أنّ هروبها مع العملات الذهبيّة دلالة على أنّ المرء لا يتغيّرُ أبدًا؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button