تعرضنا أنا وإبنتي للتحرش

في دكّانة العمّ سليم كنّا نجد كل ما يتمنّاه أي ولد: السكاكر والبطاطا المقرمشة وحتى الألعاب الصغيرة. وكان هذا المكان بالنسبة لنا بِمثابة مغارة علي بابا، ولم نكن نأبَه للغبار التي كانت تغطّي البضاعة أو للقطط التي كانت تتمشّى في المكان في أي وقت. ما كان يهمّنا كانت الشكولاتة والسكاكر الملفوفة بأوراقها الملوّنة والتي كنّا نحلم بها قبل أن ننام.

ولكن أحلام العمّ سليم كانت داكنة ومحرّمة ولكثرة مكره لم ينتبه أحد إلى نواياه ولم يمانع أهلنا أن نقصده لِوحدنا لِشراء ما تطلبه نفسنا. فبالنسبة للجميع كان مجرّد عجوز ذات عاطفة بريئة تجاه الأولاد.

 

وفي ذات مساء ممطر أرسلَتني أمّي إلى الدكانة لِشراء البن المطحون وكنتُ التي أصرَّت على الذهاب لأشتري لِنفسي قطعة مَلبَن. وعندما دخلتُ المكان كان العمّ سليم مسطّحاً على أريكته في آخر الدكّانة وبيده قنينة مشروب. عندما رآني ناداني وسألَني:

 

ـ أتَيِتِ بِمفردكِ؟

 

ـ نعم عمّ سليم... تريد الماما وقيّة بن مطحون.

 

ـ أقفَلتِ الباب وراءكِ؟

 

ـ نعم أقفلَتُه جيّداً.

 

عندها سحبَني مِن ذراعي وأجلَسَني بالقرب منه على الأريكة. ولم أستوعب تماماً ما كان يحصل إلاّ عندما نام فوقي وبدأ ينزع ملابسي الداخليّة. وحاولتُ الأفلات منه بكل قوّتي رغم يدَه التي وضعَها على فمي كي لا أصرخ. وأظنّ أنّه كان أغتصَبَني لولا الباب الذي أنفتَحَ بِقوّة بِسبب الريح وبِسببي لأنّني لم أغلق الباب جيّداً على عكس ما قلتُه للعجوز.

 


واستغلَيتُ عنصر المفاجأة هذا لأركض بِسرعة فائقة خارجاً. وقبل أن أختفي في الليل صَرَخ لي المجرم: "سأقتل أهلكِ إذا أخبَرتِ أحداً بالذي حصل!". وصلتُ البيت والدموع تنهال على وجهي وعندما سألَني أبويّ عن سبب بكائي قلتُ لهما أنّني وقعتُ على الأرض. خفتُ أن يعلموا ما حاولَ فعله بي هذا العجوز المنحط وأتسبّب بِقتلهما كما وعَدَني أن يفعل. صدّقتُه لأنّني كنتُ لا أزال في السابعة مِن عمري.

 

ومرَّت السنين ونسيتُ الحادثة كليّاً وكأنّ شيئاً لم يحصل وأنتقالنا إلى منزل جديد وشارع جديد ما سمَحَ لي أن أبدأ حياة جديدة بعيدة عن قذارة العمّ سليم.

 

وبعد سنوات عديدة أنجَبتُ ياسمينة طفلة جميلة وذكيّة. وكانت ابنتي ومنذ ولادتها تحب الناس وتركض إليهم وتعانقهم ما أعطاها سهولة في التعاطي مع كل مَن حولها. وإلى جانب ذلك كانت ياسمينة موهوبة جدّاً خاصة في مجال الفنّ. كانت ترسم كالكبار وتغنيّ كل الأغنيّات التي كنتُ أضعها في السيّارة أثناء مشاويرنا. وعندما كبرَت طلبَت منّي أن أسجّلها في قسم نشاطات المدرسة. وهكذا بدأت إبنتي بتلقّي الدروس في الرسم والرقص والبيانو قبل حتى أن تبلغ السادسة مِن عمرها. كنتُ فخورة جدّاً أن يكون لدَيّ إبنة موهوبة هكذا وكان زوجي يروي للجميع أنجازات صغيرته التي وحسب قوله كانت ستصبح أعظم إنسانة في الدنيا.

 

ولكن بعد أقل مِن سنة بدأت تصرّفات ياسمينة تقلقني: أصبحَت أكثر تحفّظاً مع الناس وحتى معنا ولم تعد تسمح لي بأن أساعدها في حمّامها. وإلى جانب ذلك بدأَت علاماتها في المدرسة بالتدنّي وطلَبَت أن تترك الرسم والرقص وتبقى على دروس البيانو فقط. وبالطبع ذهبتُ إلى المدرسة لأقابل معلّماتها وحتى المديرة ولاقَيتُ تطميناً منهنّ: خجلها وبعدها عن الناس كان طبيعيّاً في سنّها. ولكنّني لم أقتنع وشعرتُ أنّ شيئاً ما كان يدور في رأسها الصغير وفكرّتُ في أخذها عند طبيب نفسيّ مخصّص بالأولاد ولكنّ زوجي منعَني مِن ذلك:

 

ـ كيف تفكرين في ذلك حتى؟ طبيب نفسيّ لأنّ ياسمينة لم تعد تركض إلى الناس وتقبلّهم؟ أو لأنّها قرّرَت أنّها أصبحَت بِعمر تستطيع أخذ حمّامها لِوحدها؟

 

ـ ياسمينة إبنتي وأعرفها أكثر مِن أيّ شخص آخر! لقد كبرَت في أحشائي ومنذ تلك اللحظة وأراقب كل نفس يخرج مِن صدرها... أنتَ رجل... لا تستطيع فهم ذلك.

 

ـ أجل أنا رجل! يعني أنّني غبيّ!

 

ـ لا... ولكن هذه الأمور تتطلبّ أحساساً مرهف لا تملكه سوى النساء وخاصة الأمّهات.

 

ـ على كل حال لن أسمحَ لكِ بأن تصدميها بأخذها إلى أخصّائيّ... البنت بِخير... سترَين.

 

وسكتُّ ولكنّني تابعتُ مراقبتي لابنتي التي بقيَت تقول لي أنّها بخير كلّما سألتُها عن سبب أنعزالها.

 


وفي أحد الأيّام بينما كانت جالسة على الأرض تلعب رأيتُها تغطّي وجه لعبتها بِفوطة. وفي لحظة واحدة عادَت إليّ الذكريات التي كبَتُها سنين طويلة لأنّني فعلتُ الشيء نفسه بِلعبتي. وأتصلتُ فوراً بأمّي وسألتُها عن تلك الفترة في حياتي. فأجابَتني أنّني كنتُ السبب فانتقالنا إلى منزل جديد. فتغيَّرَ مزاجي ورفضتُ الخروج مِن البيت وأن يلمسني أحد. لِذا قرّر أهلي أبعادي مِن محيطنا القديم على أمل أن تتحسّن حالتي ونجحا بذلك خاصة أنّهما ظنّا أنّ السبب كان أحد رفاقي في الحيّ أو المدرسة.

ولكنّني كنتُ قد نسيتُ كل ذلك لا لأنّ الأمر سهل النسيان ولكن بِمحاولة لِمحو محاولة اغتصاب العمّ سليم لي. فالدماغ يحجب أحياناً عنّا الذكريات البشعة لِيجنّبنا الآلام الكبيرة. ولولا ما فعلَته أمامي ياسمينة بِلعبتها لما تذكّرتُ حادثة الدكّانة وكل تبعاتها.

 

وبعد أن تأكّدتُ أنّ ابنتي تعرّضَت بِدورها للتحرّش بقيَ عليّ معرفة هويّة القذِر أو القذِرة. فكان مِن الممكن أن يكون أي أحد مِن أصدقائنا أو جيراننا أو حتى معلّماتها. حاولتُ سألها ولكنّ المسكينة كانت في كل مرّة تصرخ وتبكي وتختبئ بِغرفتها. ولم يكن بِمقدوري ترك ابنتي هكذا دون أن أضع حدّاً للذي يحصل. ولكن مِن جهّة أخرى لم أشأ أتّهام أحداً دون دلائل.

وبدأتُ أراقب ابنتي يوميّاً وتحرّكاتها أي في أي وقت كانت الأكثر قلقاً وأنغلاقاً ولاحظتُ أنّ في فرصة نهاية الأسبوع كانت إبنتي ترفض النهوض مِن السرير وكأنّ شيئاً عظيماً ينتظرها. وخلال الصباح تكون شبه غائبة وبعد الظهر عند أقتراب موعد دروس البيانو كانت تصبح مضطربة. وكنتُ أنزلها عادة عند باب المدرسة وأذهب لِشراء حاجات المنزل ومِن ثمّ آخذها مِن نفس المكان. ولكن في تلك المرّة قرّرتُ مرافقتها. مسكتُها بِيَدها قائلة:

 

- الماما معكِ ولن تدع أي شيء يحدث لكِ... أفهمتِ؟

 

ومشينا إلى صالة حيث كان أستاذ البيانو ينتظر ياسمينة. وحين دخلنا القاعة والقَيتُ التحيّة على الأستاذ جلستُ على كرسيّ مقابل البيانو ونظرتُ إلى الرجل بِتمعّن. عندها قال لي:

 

ـ أن كنتِ تريدين الرحيل...

 

ـ لا. أنا باقيَة. أين باقي التلامذة؟

 

ـ لم يكن أي منهم بِمهارة ياسمينة... نصحتهم بِتوقيف الدروس.

 

ـ أجل... أرَدتَ ياسمينة لوحدها معكَ.

 

ـ ماذا تقصدين؟ أرجوكِ سيّدتي... لدينا درساً... أتركينا مِن فضلكِ.

 

ـ سأرحل أن طلَبَت إبنتي منّي ذلك... ياسمينة... أتريدينني أن أبقى؟ تذكري ما قلتُه لكِ قبل قليل... لن أدَع شيئاً يحصل لكِ طالما أنا معكِ... أجيبيني ولا تخافي.

 

عندها ركضَت إبنتي إليّ وعانقَتني بِقوّة وقالت لي:"خذيني مِن هنا! أرجوكِ!"

 

أعطيتُها مفاتيح سيّارتي وأمرتُها أن تنتظرَني داخلها ونظرتُ إلى الأستاذ الذي أدعّى الاستغراب لِما يحصل. كان بودّي قتله أو على الأقل تمزيقه بأسناني ولكنّني تمالكتُ نفسي وقلتُ له:

 

ـ أسمعني يا منحط... أعرف ما تفعله لِصغيرتي وتستحق أن تُشنَق لذلك... ستحزم أمتعتكَ وترحل مِن هنا وتتوقّف عن أعطاء الدروس في أي مكان آخر... سأراقبكَ وسألاحقكَ أينما ذهبتَ وإذا علمتُ أنّكَ أقتربتَ ولو قليلاً مِن ولد أو بنت أقسم لكَ أنّني سأعمل جهدي لأنهي حياتكَ... أقسم بِحياة ابنتي أنّني سأقتلكَ!

 

وذهبَ بِصمت وبقيتُ لِوحدي لأبكي قبل موافاة إبنتي. تركتُه يرحل كي أجنّب ياسمينة أسئلة الشرطة وادلاء شهادتها في المحكمة لأنّني كنتُ متأكّدة أنّني سأخسرها على الأقل نفسيّاً. ولكنّني أبلغتُ رابطة أهالي التلامذة أنّ أقاويلاً وصلَتني عن تحرّش الأستاذ بالأولاد وبأنّني سحبتُ إبنتي مِن صفّه. كنتُ أعلم أنّ ذلك الخبر سينتشر بِسرعة في كل أنحاء المدينة. وأخبرتُ زوجي ما حصل وأقنعتُه بِشيئَين: الأوّل ألاّ يذهب إلى الأستاذ ويقتله والثاني أن يتابع طبيباً نفسيّاً ابنتنا على شرط أن نكون معها طوال الوقت.

 

الآن ياسمينة بألف خير بِفضل العلاج خاصة أنّ التحرّش كان لا يزال في أوّله. ولا أزال حتى اليوم أتابع عن كثب أخبار أستاذ البيانو ومستعدّة لإيقافه عند حدّه إن حاول الاقتراب مِن أي ولد.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button