تزوَّجتُ مِن رجل فاشل

هناك مَن يقف إلى جانب الآخرين عندما يكونون في ديقة ما ويتفهمّون ظروفهم وهناك مَن يحاول الإستفادة مِن وضعهم بأبشع الطرق. ولقد صادفتُ في حياتي أناساً طيبّين ولكنّ الشرّيرين منهم كانوا الأقوى والأكثر تأثيراً عليّ. وما سهّل الأمر عليهم هي طبيعة جهاد زوجي المغامِرة. فمنذ ما تعرّفتُ إليه وهو يحاول بشتّى الطرق إيجاد أفكار جديدة لكسب المال حتى لو تطلّبَ الأمر مخاطرة جريئة. وأعترف أنّ هذا الطابع هو الذي شدّني له لأنّني كنتُ لا أزال يافعة ولا أرى أبعاد التلاعب المستمرّ بالحظّ.

وبعدما تزوّجنا إكتشفتُ بِمرارة أنّنا لن نعيش كباقي الناس أي في إستقرار وراحة بال بل حياتنا ستتوقّف دائماً عند نتائج مغامراته الماليّة. فمرّة كانت البورصة وأخرى بَيع وشراء عقار أو إستثمار مع صديق. وبسبب ذلك لم يكن لدينا دائماً ما يكفينا.

وأنجبنا أوّل ولد ثمّ الثاني ولم أعد أريد أطفالاً لأنّني كنتُ مدركة تماماً أنّ يوم سيأتي ولن نجد طريقة لإطعامهم حتى. وبقينا نعاني سنين عديدة حتى أن نجحَ جهاد أخيراً بِكسب مبلغ كبير مِن المال. عندها صرختُ له:

 

ـ إسمع... لن أدعَكَ تهدر هذا المال... لقد سئمتُ العيش بالقلّة والقلق... أنظر إلى شقّتنا... ستنهار الجدران على رأسنا... ولن أتكلّم عن ملابسي الحقيرة وشعري البشع... ولن أذكر عدم ذهابنا إلى مكان بسبب نقص المال... إيّاكَ أن تصرف ما جنَيتَه الآن!


ووعَدَني زوجي بأنّه سيكفّ عن التلاعب بمصيرنا وبأنّنا سنترك قريباً مسكننا لنعيش في مكان جميل. وهكذا إشترى جهاد شقّة فخمة وأثاثاً جميلاً ورأيتُ حياتي تتغيّر شيئاً فشيئاً لتعود كما كانت في السابق عندما كنتُ أعيش عند أهلي. فالجدير بالذكر أنّني مِن عائلة كبيرة ومهمّة ولم ينقصني شيئاً يوماً. وعندما أطلعتُ أبويّ عن نيتّي في الزواج مِن جهاد قال لي أبي:

 

ـ هذا الشاب ليس نافع.

 

ـ لا تقل ذلك يا بابا! أنتَ لا تعرفه!

 

ـ بلى... بمجرّد ما قلتِ لي أنّه يغامر ويستثمر عرفتُ إلى أيّ فئة ينتمي... إسمعي... لو كان لديه مهنة ثابتة أو حتى خبرة سنين في الإستثمار لقبلتُ به فوراً ولكن مِن الواضح أنّه يجازف دون رؤية الصورة الكبيرة ولهذا سيبقى صغيراً.

 


وتزوّجتُ رغم إرادته ما خلّف برودة بيننا إستمرَّت حتى ولِدَ إبني الأوّل. عندها فقط إستطعتُ إستعادة محبّة والدي بعض الشيء. فعندما نجحَ جهاد أخيراً بِكسب المال ذهبتُ إلى أهلي مباشرة لأزفّ لهم الخبر السار.

ولكن أبي بقيَ على موقفه الأوّل وهو أنّ زوجي ليس نافعاً. حزِنتُ كثيراً وصرختُ عالياً: "سترون كيف ستصبح أحوالنا! سنكون قريباً أغنى منكم حتى!". ورحلتُ والدمعة في عينَيَّ. ونسيتُ ما حدثَ مع ذويّ سريعاً لكثرة فرحتي في شراء الأشياء التي حُرِمتُ منها وبالعيش في شقّتنا الجميلة. وهذا الجوّ مِن الفرح والراحة أثّرَ إيجابيّاً على حياتي الزوجيّة وفكّرتُ جديّاً بإنجاب طفلاً آخراً. وأشكر ربّي اليوم أنّني لم أفعل وإلاّ كانت ضاقَت بنا الأحوال أكثر بعدما تسارعَت الأحداث التي أدَّت إلى أفلاسنا. وحتى ذلك الحين لم أكن أعلم بعد أنّ المالك القديم لِشقّتنا هو نفسه جارنا مروان الذي كان يأتي دائماً مع زوجته لزيارتنا وتناول العشاء معنا. وكنتُ سعيدة أنّني أعاشر أخيراً أناساً بعدما أمضيتُ فترة طويلة بِعزلة تامة بسبب الهمّ الذي كان يأكلني.

وكنتُ سأعرف سبب كتمان هذه المعلومة عنّي عندما جاء زوجي في ذاك مساء وطلَبَ أن يتكلّم معي في موضوع هام بعدما تأكّدَ أنّ ولَدَينا نائمَين. وبمجرّد قال لي ذلك علِمتُ أنّنا في مأزق وعادَت إليّ مشاعر الخوف. جلسنا في الصالون وقال لي:

 

ـ حبيبتي... تعلمين كم أحبّكِ... أليس كذلك؟

 

ـ أجل ولكن ما...

 

ـ دعيني أكمل... وتعلمين أنّني أحاول جهدي لتأمين حياة كريمة لكم...

 

ـ أجل... تحاول جهدكَ... ولقد نجحتَ أخيراً... أم أنّني مُخطئة؟

 

ـ صحيح ذلك ولكن...

 

ـ لا تقل لي أنّكَ تورّطتَ في لعبة جديدة!

 

ـ بلى... ولكن الأمر أكبر مِن ذلك... هذه الشقّة... ليست لنا... أعنّي أنّها لنا ولكن ليس على الأوراق.

 

ـ ماذا؟ ألم تشتريها؟

 

ـ لا... جارنا مروان... كنتُ أعرفه مِن قبل... أعني أنّه مستثمر مثلي وعملنا سويّاً على بضعة مشاريع... وعندما ربحتُ المال عَرَضَ عليّ أنّ يعطيني الشقّة مقابل سندات أسدّدها لاحقاً لكي أستطيع إستثمار كل المال في أمور أخرى... حبيبتي... هكذا هي الأعمال... المستثمر لا يضع كل ما عنده في مشروع واحد.

 

ـ أنتَ لستَ مستثمر! أنتَ غير نافع كما قال أبي!

 

ـ لا لزوم للإهانات!

 

ـ وما وضعنا الآن؟ لماذا لا تدفع له كامل ثمن الشقّة ونرتاح؟

 

ـ لأنّني خسرتُ كل ما لديّ.

 

وإصفرَّ وجهي وشعرتُ أنّه سيُغمى عليّ ولكنّني قاومتُ وتابعتُ:

 

ـ وماذا الآن؟

 

ـ الآن علينا إخلاء الشقّة لأنّ مروان يريد ماله ولا أستطيع أن أدفع له فلساً واحداً.

 

ـ ألا يستطيع الإنتظار ريثما تجد مصدراً جديداً؟

 

ـ لا... فمثلكِ لم يعُد يؤمِن بي... علينا الخروج في آخر الشهر.

 

ـ وإلى أين سنذهب؟

 

ـ لستُ أدري.

 


وهكذا وجدتُ نفسي أمام حائط سدّ كلّ شيء في وجهي وبدأتُ بالبكاء والصراخ أسأل نفسي ماذا سيحصل بنا وكيف سنتدبّر أمرنا. وفي اليوم الثاني قرّرتُ التكلّم مع مروان لإقناعه في إعطائنا المزيد مِن الوقت لنجد مسكناً آخراً. وتأمّلتُ حتى أن يقول لي أنّنا نستطيع البقاء قدر ما نشاء. ولكنّني كنتُ مُخطئة. فعندما دقَّيتُ باب جيراني وفتحَ لي الرجل وأدخلَني إلى مكتبه وإستمعَ إليّ قال لي:

 

ـ أريد أن أساعدكِ ولكنّني لا أستطيع... هذه الشقّة باهظة الثمَن وكل يوم يمّر دون بيعها أو تأجيرها يقلّل مِن ربحي.

 

ـ ولكن يا مروان... ما ذنبي وذنب ولدَيَّ إن كان زوجي فاشلاً؟

 

ـ وما ذنبي أنا؟ حاولتُ إعطائه فرصة لِتحسين أحواله ولكنّني لا أستطيع فعل المزيد... إلاّ إذا...

 

ـ إلاّ إذا ماذا؟ قل!

 

ـ إلاّ إذا قبلتِ أن تعوّضي لي خسارتي.

 

ـ كيف ذلك ولا أملك قرشاً واحداً؟

 

ـ لا أريد مالاً... ما لا تعرفينَه هو أنّني مُعجَب بكِ كثيراً... لم أستطع التعبير عن هذا الإعجاب بسبب وجود زوجتي الدائم معي عندما نلتقي... ولكنّها اليوم غائبة... فما رأيكِ لو إستثمرنا سويّاً هذا الإعجاب؟

 

ـ ماذا؟ تطلب منّي أن أبيع نفسي لكَ؟ هل فقدتَ عقلكَ؟

 

ـ إفعلي ما أطلبه منكِ وستنتهي همومكِ... لا أرى سبباً لأن تصوني زوجاً فاشلاً وأنانيّاً لا يتردّد في تجويع عائلته.

 

ـ أنا لا أصون زوجي بل نفسي! الوداع!

 

ـ فكّري بالأمر... لديكِ حتى آخر الشهر.

 

لم أخبر جهاد بالأمر خوفاً مِن أن تستفيق مُروّته ويورّط نفسه بمشاكل مع ذلك الرجل الشرّير وقرّرتُ البدء بتوضيب أمتعتنا على أمل أن نجد حلاً لمأزقنا. والفَرَج أتى مِن أمّي التي علِمَت بأمر إخلائنا الشقّة بعدما أتَت لزيارتي ورأت الكراتين المكدّسة في كل مكان. وأطلَعتُها على بمصيبتنا فقالت لي:

 

ـ إسمعي... لقد وضعنا مالاً جانباً لتأمين دراسة ولَدَيكما الجامعيّة... خذيه.

 

ـ لِيَخسره جهاد مجدّداً؟ لا شكراً! ما ذنب الأولاد بأخطاء أهلهم؟ ما أريده هو أن تستقبلاني أنا وولَدَيَّ عندكما لفترة.

 

ـ وزوجكِ؟

 

ـ زوجي لن يرانا إلاّ إذا وجَدَ وظيفة ثابتة وشقّة ولو في الإيجار.

 

وأطلعتُ جهاد على نيّتي في الإنفصال عنه لأنّه لم يتحمّل مسؤوليّة عائلته. والغريب في الأمر أنّه لم يحاول تغيير رأيي بل وافق على قراري.

 

ـ لا تظنّي أنّني لا أتألّم لما أفعلُه بكم... وكوني على ثقة أنّني أحاول دائماً تحسين أمورنا ولكنّ الواقع هو أنّني لا أجيد ما أفعلُه... أنتِ على حق فلقد حان الوقت لأجد مردوداً ثابتاً... سأمكث عند أهلي إلى حين أصبح زوجاً وأباً يستحقّ هذَين اللقَبَين... هل أستطيع زيارتكم في هذه الأثناء؟

 

ـ طبعاً... إنفصالي عنكَ ليس عاطفيّ بل جسديّ.

 

وبعد مرور أشهر طويلة وجَدَ جهاد أخيراً عملاً كموظّف مبيعات وبدأتُ أنا بإعطاء دروس خاصة في الرياضيّات مادتي المفضّلة. وأنا واثقة أنّنا سنعود عائلة واحدة قريباً.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button