عندما قبلتُ الزواج من وجدي، كنتُ على علم بحالته الصحيّة. فهو لم يخفِ عنّي يوماً، مشاكل قلبه ولكنّه طمأنني أنّه يتّبع علاجاً منذ سنين، يمكنّه الحصول على حياة طبيعيّة. وخلال فترة تواعدنا، لم يحصل أي طارئ يشغل البال، فقلتُ لنفسي أنّ الأمر لم يكن خطيراً. زواجي منه لم يلاقي صدداً إيجابياً عند أهلي وأصدقائي، الذين لم يفهموا لما إخترتُ رجلاً يكبرني سنّاً ومريضاً، بدل من أن أختار رجل من سني، بكامل صحته. ولكنني كنتُ أحبّه ولم أتخيّل نفسي مع رجل غيره.
وباتَ قلبه شغلي الشاغل وكأنني أريد إستباق الأمور بحصول نوبة قلبيّة، لينتهي الإنتظار ولكنّه كان بصحة جيدة بفضل طبيبه والأدوية التي وصفها له. فلم أدعه يمارس نشاطات مُتعبة وحرمتُ نفسي الذهاب مع الأصدقاء إلى النادي أو الرحلات أو الحفلات الراقصة، لكي لا يشعر بالتعب وعندما كنتُ أُسأل عن السبب كنتُ أجيب: "وجدي رجل مريض... وعمره لا يسمح له بأن يرهق قلبه..." وكان الناس يأسفون لرؤيتي أضحّي هكذا بشبابي. حتى أنّ أمّي قالت لزوجي حين كانت تزورنا: "أحزن كثيراً عندما أرى إبنتي تهدر أجمل سنين عمرها معكَ... لما تزوّجتَ منها؟ لتكون بمثابة ممرضة لك؟"
ولا أخفي انني فكّرتُ جديّاً بتركه والمضيّ بحياتي بعيدة عن الهمّ، ولكن للقدر سخرية خاصة به وحصل ما لم أحسب له حساب. فبينما كنّا جميعاً نراقب حالة زوجي الصحيّة، لم يلاحظ أحد أنني أنا التي كنتُ مريضة. ففي ذات مساء وأثناء تحضيري العشاء وقعتُ أرضاً. ركضَ وجدي عند سماع صوت الصحون تتكسّر وطلَب فوراً الإسعاف. نقلوني إلى المستشفى وأنا ما زلتُ غائبة عن الوعي. وبعد فحص دقيق، وبعد أن إستفقتُ من غيبوبتي تمّ التشخيص: كنتُ مصابة بورم في الدماغ. وقعَ عليّ الخبر كالصاعقة، فلم أشعر يوماً بأي خطب وكنتُ أحسب نفسي في حالة صحيّة ممتازة.
وبينما كان زوجي يتحدّث مع الطبيب، كنتُ أنا جالسة في السرير أبكي. وقالوا لي أنّ عليّ إتّباع علاج كيميائي لتقليص الورم ومن بعدها إستئصاله من رأسي من خلال عمليّة جراحيّة معقّدة. عندها، أخذ وجدي يدي وقال لي: "لا تخافي، فأنا هنا وسأهتمّ بكِ".فنظرتُ إليه وأجبته بسخرية: "أنتَ؟ إنّكَ رجل كبير في السن ومريض! يا إلهي أنا وحيدة في مصيبتي!".
لحسن حظّي لم يأبه وجدي لما قلته، فعَلِمَ أنني لم أكن أقصد الإهانة بل أنني كنتُ خائفة من الذي ينتظرني. وبدأتُ العلاج الكيميائي المؤلم وفقدتُ شعري وشعرتُ بأنني فقدتُ معه أنوثتي. ولكن زوجي بقيَ يكرّر لي مدى جمالي وأنني لا أزال جذّابة بالنسبة له. وبعدما تخطيتُ مرحلة الغثيان والألم، جاء وقت العمليّة الجراحيّة. لم أستطع إتخاذ قرار ،فلم أستوعب فكرة أن يفتح رأسي لينتزع شيئاً من دماغي. وبعد أن فكّرتُ ملّياً، صممتُ على عدم إجراء الجراحة حتى ولو كلّفني هذا حياتي، فالقرار الأخير كان لي.
وبقيَ وجدي إلى جانبي ولم يتركني ثانية واحدة، حتى أنّه كان يجلب عمله إلى المنزل كي يكون حاضراً إن إحتجتُ لأي شيء. وفي تلك الفترة بدأتُ أرى الأمور من زاوية أخرى، فلطالما ظننتُ أنني سأعتني بزوجي المريض، فإذ به متعافٍ أكثر منّي. وبالرغم أنّه سمعَ منّي ومن أهلي تلميحات عديدة بشأن صحّته، فهو لم يشمت بي ولم يذكّرني يوماً بما قلته له في الماضي، بل عمل وكأن شيئاً لم يكن.
وبعد شهرين تقريباً بدأتُ أشعر من جديد بتوعكات صحيّة وبدوخات تصيبني في أوقات مختلفة من النهار. قالوا لي أنّ العمليّة الجراحيّة هي الحل الوحيد إن كنتُ أريد العيش ولكنني كنتُ خائفة من أن يحصل خطأ أثناء الإستئصال وأن أصاب بشلل دائم. والشخص الوحيد الذي إستطاع إعطائي الشجاعة بالمضي بالعمليّة هو زوجي، الذي وعَدَني بأن يكون موجوداً وأن يعتني بي حتى لو ساءت الأمور. وعندما نظرتُ بعينيه، علمتُ أنّ وجدي لن يتركني أبداً مهما جرى. وقبِلتُ بالدخول إلى المستشفى ثانية والتخلّص من هذا الورم الخبيث. وقبل أن يأخذوني إلى غرفة الجراحة قال لي: "سأكون بإنتظاركِ يا حبيبتي".
وعندما عدتُ إلى غرفتي وفتحتُ عينيّ، وجدتُه بقربي يمسكُ بيدي ويقبّلها بحرارة. ولحسن حظّي لم أصب بالشلل وبفضل الحبّ والحنان الذي كنتُ محيطة به بدأتُ أتعافى شيئاً فشيئاً، حتى إستعدتُ كامل قواي.
وبعد سنة ونصف، أنجبتُ صبيّاً ولم أعد أفكّر بالمرض لا لي ولا لزوجي، بل بالمستقبل الجميل لعائلتي الصغيرة. فما الجدوى بأن يعيش المرء بخوف مستمرّ من الغد وإستباق الأمور، فلا أحد يعلم فعليّاً ما سيحصل له.
حاورتها بولا جهشان