تزوّجتُ ماهر لِماله... وهو تزوّجني لجمالي. صفقة مِن كلا الجانبَين بكلّ ما للكلمة مِن معنى. الحقيقة أنّني لَم أفعَل ذلك عن طمَع بل لأنّ الظروف شاءَت ذلك. ويا لَيتني كنتُ أقوى منها.
كانت حياتي جميلة وهادئة، أذهبُ إلى عمَلي البسيط، وأعودُ إلى البيت أنتظرُ مكالمة إبراهيم خطيبي لنخرج سويًّا في المساء. لَم نكن نذهب إلى أماكن فاخرة، فراتبه لَم يكن يسمحُ له بذلك، بل كنّا نأكل في كشك صغير، ومِن ثمّ نمشي على الكورنيش ممسكَين بيدَي بعضنا. لَم أكن بحاجة إلى أكثر مِن ذلك، فأنا إبنة أناس فقراء وبيت يضمّ أبًا وأمًّا وخمسة أولاد. باختصار: كنتُ أعيشُ الحياة التي كان مِن المُفترض بي أن أعيشها.
لكنّ الحياة تخبّئ لنا مفاجآت ليست دائمًا سارّة، وتأخذُ مُنعطفات لا نحسبُ لها حسابًا. فقد تتالَت على رأسنا مصائب كثيرة، أوّلها موت أبي بسكتة قلبيّة أثناء نومه. بكيناه كثيرًا فهو كان إنسانًا طيّبًا، لكن سرعان ما أدركنا أنّ رحيله وضعَنا في ضيقة أكبر مِن التي كنّا فيها. فراتبي لَم يعُد يكفي لإطعام عائلة كبيرة مؤلّفة مِن أولاد صغار ومُراهقين، لذلك راحَت أمّي المسكينة تفتّش عن مورد رزق، وانتهى المطاف بها عاملة نظافة في بيت رجل ثريّ: السيّد ماهر. عندها بالذات تغيَّرَ مصيري.
ففي أحد الأيّام، طلبَت أمّي منّي مُرافقتها إلى بيت السيّد ماهر لأُساعدها على القيام بما أسمَته "التنظيف الموسميّ" الذي لَم تكن قادرة على القيام به بمفردها، خاصّة أنّها كانت تُعاني مِن داء المفاصل. وهي كانت أيضًا خائفة مِن فقدان عملها في حال انتبه ماهر إلى حالتها الصحّيّة التي كانت تُخفيها عنه، ويُقرّر الإستغناء عن خدماتها. لِذا رافقتُها في فرصة نهاية الأسبوع وبدأنا سويًّا بعمليّة التنظيف. لَم أرَ سيّد المكان وهو لَم يطلب أن يتعرّف إليّ. وفي المساء، عُدنا تعبتَين إلى البيت، لنُكمل العمل في اليوم التالي. بعد ذلك، تابعتُ حياتي كالعادة، إلى حين إحتاجَت والدتي إليّ مُجدّدًا حين أرادَ ماهر إقامة مأدبة عشاء في بيته. كان قد سألَها إن كانت قادرة على القيام بالتحضيرات أم لا، إلا أنّها أكّدَت له أنّها بكامل نشاطها وستطلبُ منّي مساعدتها.
أخذتُ إجازة مِن عملي ورحتُ وأمّي إلى بيت السيّد حيث نظّفنا ورتّبنا، بينما كان الطاهي يُحضّرُ المأكولات بمساعدة نادلة. لكن مع اقتراب المساء، شعَرَت والدتي بتعب شديد، وكان مِن المُفترض بها أن تبقى في عملها حتى بعد انتهاء العشاء لغسل الصحون والترتيب، فطلبَت منّي أخذ مكانها. لَم أكن مُتحمّسة للأمر، فقد كان عليّ النوم باكرًا لأستيقظ صباحًا لضرورات عملي، لكنّني قبلتُ كي تُحافظ أمّي على عملها.
جلستُ في المطبخ بانتظار قدوم المدعوّين إلا أنّ أحدًا لَم يأتِ. بدلاً مِن ذلك، دخَلَ المطبخ رجل في متوسّط عمره. لم يكن ماهر وسيمًا بل قصير القامة وبدينًا، إلا أنّه كان يتمتّعُ بِكاريزما واضحة ردَدُتها إلى ضخامة حسابه المصرفيّ، فمِن المعلوم أنّ المال يُعطي صاحبه ثقة بالنفس كبيرة. نظَرَ ماهر إليّ مُبتسمًا وكأنّه راضٍ عمّا يراه، وأخذَني مِن يدي ليقودَني إلى مائدة الطعام طالبًا منّي الجلوس. وعندما رفضتُ ذلك بتهذيب قال لي:
ـ هذه المأدبة هي على شرفكِ... أنتِ المدعوّة الوحيدة.
ـ ماذا؟ لا! لا أريدُ ذلك!
ـ إجلسي أوّلاً وكُلي، فأنتِ تعبة ويلزمُكِ استرجاع قوّتكِ. لقد حضَّرَ لنا الطاهي أشهى الأطباق. لا تخافي منّي، فأنا لا أؤذي ذبابة!
ـ لكن...
ـ إجلسي مِن فضلكِ.
خجلتُ مِن الرجل وجلستُ، وجاءَت النادلة وبدأَت تملأ صحني ومِن ثمّ غابَت. أكَلتُ قليلاً كي لا أغضِب ماهر، وذقتُ أطباقًا شهيّة لَم أكن أعرفُ إسمها حتى. لَم نتبادل الكلام خلال العشاء، ولَم أنظر حتى إلى صاحب البيت مِن كثرة إرتباكي، وعملتُ جهدي لإنهاء الطعام بسرعة. إلا أنّ ماهر بدأ يُكلّمني عن نفسه بالتفاصيل، الأمر الذي استغرقَ وقتًا طويلاً.
كان قد حلّ الليل منذ وقت طويل حين وقفتُ وأخذتُ طبَقي لأغسله في المطبخ، لكنّ ماهر صرَخَ بي:
ـ ماذا تفعلين؟!؟
ـ أقومُ بواجبي، فأنا هنا لأنظّف.
ـ ضعي الطبق مكانه! هل جننتِ؟ أنتِ ضيفتي! تعالي نشرب القهوة في الصالون.
أخذَني ماهر بيَدي مرّة أخرى، وقادَني إلى الصالون حيثُ دخَلَت النادلة بالقهوة. أثناء جلوسنا، شعرتُ براحة أكبر مِن قبل، ربما لأنّ ماهر عمل جهده ألا أحسب نفسي عاملة بل فعلاً ضيفة. وبعد حوالي النصف ساعة، أبدَيتُ رغبتي بالرّحيل. عندها وقفَ الرجل وأمسكَ بيَدي وقبّلَها قائلاً: "لقد تشرّفتُ بحضوركِ يا آنستي... وسأتشرّفُ أكثر برؤيتكِ مُجدّدًا." لَم أجِب، بل أسرعتُ إلى البيت لأخبر أمّي بالذي حصل. لكنّها كانت هي وأخوَتي غارقة في النوم، وجلستُ في سريري أفكّر بالذي حصل، إلى أن نمتُ بدوري.
لا أدري لماذا، لكنّني لَم أخبر في الصباح إبراهيم بأمر ذلك العشاء، ربمّا كي أجنّبُه الإحراج، فهو لم يكن قادرًا على تقديم ولو جزءًا مِن هذا الطعام لي. ومِن ثمّ سألتُ أمّي إن كانت على علم بمفاجأة ماهر لي فأجابَت بالنفي. نسيتُ الأمر وعُدتُ إلى عملي.
وذات يوم دقَّ ماهر بابنا، وتفاجأنا كثيرًا به إذ أنّه قدِمَ بعد حلول الليل. كان طبعًا مُحمّلاً بالهدايا، وجلَسَ وسطنا وكأنّه واحد منّا. كان مُرتاحًا للغاية، ينظرُ إلى بيتنا بتعجّب وكأنّه يسألُ نفسه كيف لأناس أن يعيشوا في مكان بهذه البساطة. برَّرَ مجيئه على أنّه أرادَ أن يُخبر أمّي بأنّ عليها التوقّف عن تنظيف بيته لبضع أيّام لأنّه مسافر لفترة قصيرة. كان يودُّ الإتصال بها هاتفيًّا إلا أنّها لا تملكُ هاتفًا. نظَرَت إليّ والدتي وقالَت لي: "أعطِه رقمكِ حبيبتي، فلا يجوزُ أن يتعذّبَ السيّد هكذا كلّما أرادَ التكلّم معي." أعطَيتُه رقمي، لكنّني لَم أكن مرتاحة للأمر. وبعد دقائق، رحَلَ ضيفنا. ومنذ ذلك المساء، باتَ ماهر يتّصل بي يوميًّا لإلقاء التحيّة عليّ.
أبدَيتُ استيائي لأمّي مِن اتصالات ماهر، إلا أنّها قالَت لي:
ـ كَم أنّكِ غبيّة... تنزعجين مِن اهتمام رجل ثريّ ومهذّب!
ـ لكنّني مخطوبة يا أمّي!
ـ نعم، لشاب فقير مثلنا. أنظري حولكِ... هل تُريدين العَيش هكذا حتى آخر أيّامكِ؟ ألَم تتعلّمي شيئًا خلال حياتكِ؟
أقفَلتُ الموضوع، لكنّني لَم أكن مُرتاحة لكلام والدتي، ورحتُ أتّصل بإبراهيم لأستمدّ منه بعض الراحة. إلا أنّه كان مُضطربًا بعدما سمِعَ خبرًا في عمله عن نيّةٍ بالإستغناء عن عدد مِن العمّال، وكان خائفًا على مصيره. طمأنتُه بأنّه إنسان مُجتهد وجدّيّ في عمله وأنّه سيبقى في عمله، إلا أنّني خفتُ مثله، فمستقبلنا كان متوقّفًا على قرار إدارته.
وحصَلَ ما كنّا نخشاه، وطُرِدَ إبراهيم مِن عمله مع وعد بقبض تعويض بسيط في تاريخ لَم يتمّ ذكره. وهكذا تدمّرَت أحلامي بالعَيش مع حبيبي في المُستقبل القريب. غاصَ إبراهيم في اكتئاب حاد، وصارَ صعب المزاج بالرّغم مِن مُحاولاتي للترفيه عنه وإعطائه بعض الأمل. ومع الوقت، لَم يعُد يفكّر سوى بمصيبته، وصارَ ينزعجُ منّي وكأنّني أذكّرُه بوضعه البشع.
في تلك الأثناء، لَم ينفكّ ماهر عن الإتصال بي حتى بعدما عادَ مِن سفره. ومع الوقت، بتُّ مُعتادة على سماع صوته وتبادل الأحاديث المُفرحة معه. فمع ماهر، كانت الأمور مُختلفة، وكلّ شيء متوفّرًا وسهلاً. رافَقتُ أمّي إلى بيت السيّد لأساعدُها مرّة أخرى، إلا أنّني، في تلك المرّة، كنتُ فرِحة لفكرة رؤيته.
وبعد أشهر قليلة، تزوّجتُ مِن سيّد البيت بعد أن طلَبَ يدي، وتركتُ إبراهيم لتعاسته. هل كنتُ سعيدة آنذاك؟ أجل، إلى حين علِمتُ أنّ ما حصَلَ لَم يكن تراكم صدف بل خطّة مُدبّرة... مِن ِقبَل أمّي! قد يقول البعض إنّ المسكينة أرادَت لي حياة بعيدة عن الفقر كما سبَق وقالت لي، إلا أنّ الواقع كان مُختلفًا. فذات يوم وأثناء زيارتها لي في بيتي الزوجيّ، تباهَت والدتي أمامي بعدما قلتُ لها كَم أنّ الظروف التي أدّت إلى زواجي غريبة، ممّا يدلُّ حتمًا على أنّ القدر هو مَن أرادَ جمعي بماهر. ضحِكَت والدتي عاليًا وقالت:
ـ القدر؟ لا بل أمّكِ يا عزيزتي!
ـ لَم أفهم قصدكِ.
ـ أتذكرين يوم أخذتُكِ معي للتنظيف الموسميّ؟
ـ أجل، ولكنّني لَم أرَ ماهر في ذلك اليوم وهو الآخر لَم يرَني.
ـ لَم ترَينَه لأنّه كان مُختبئًا يُراقبكِ عن بُعد، بعدما أخبرتُه أنّ لي إبنة جميلة ومهذّبة. فذلك الرجل كان قد فتَحَ لي قلبه، وقال لي إنّه يشعرُ بوحدة قاسية بالرّغم مِن ثراءه لأنّه كان مُحاطًا بنساء طامعات بماله وجاهه.
ـ يا إلهي...
ـ وتلك المأدبة التي كانت مخصّصة لكِ... إنّها فكرتي! فمَن تركَكِ لوحدكِ معه؟ وزيارته لنا في الليل لأخذ رقم هاتفكِ... فكرتي أيضًا!
ـ ولكنّني كنتُ مخطوبة وأحبّ ابراهيم! كيف تفعلين ذلك بي؟ هل لأحصل على حياة هنيئة؟
ـ بل لأرتاح! ليس كلّ شيء يدور حولكِ يا آنسة! يحقُّ لي أيضًا أن أعيش كباقي الناس! أريدُ أن أذوق طعم الرّخاء بدلاً مِن الإكتفاء بفتافيت الآخرين. فلقد وعدَني ماهر بتلبية كلّ طلباتي في حال أقنعتُكِ به. المال وحده يهمّ.
ـ فعلتِ ذلك مِن أجل نفسكِ!؟! أيّ أمّ أنتِ؟
ـ لَم أجبركِ على ترك خطيبكِ والزواج مِن ماهر.
ـ بلى، فأنتِ أقمتِ فخًّا مُحكمًا كان سينجحُ حتمًا، فأنتِ تعرفيني عن ظهر قلب، ناهيك عن استفادتكِ مِن تقلّب مزاج إبراهيم. لقد بعتِني يا أمّي!
ـ التعبير قويّ بعض الشيء، لكن... نعم. ففي آخر المطاف أنتِ لي، فلقد أنجبتُكِ وأعطَيتُكِ الحياة... والجمال، وأنتِ مُدينة لي.
ـ يا إلهي... لَم أكن أعرفُ إلى أيّ مدى حبّ المال قد يوصل الإنسان.
ـ هذه نتيجة الفقر.
ـ أبدًا! الفقير لدَيه عزّة نفس لأنّه يُقدّر الحياة بصعوبتها، الفقير لا يبيعُ أولاده بل يفعلُ المستحيل لإطعامهم حتى لو كان ذلك مِن لحمه. أنتِ إنسانة أنانيّة وجشعة!
ـ قولي ما تريدين... فلديَّ الآن كلّ ما أتمنّاه بفضل صهري العزيز... ما يسَعكِ فعله؟
ـ قد أتركُه.
ـ ومِن ثمّ؟ ماذا تفعلين؟ تعودين إلى عملكِ الحقير؟
ـ ليس هناك مِن عمل حقير يا أمّي، هذا ما لَم تفهميه. لن أترك زوجي مع أنّني لا أحبُّه، بل أحترمه وأقدّره، وهو لا يستحقّ أن أحطّم قلبه. لا ذنب له بما حصل، فهو فعَلَ ما بوسعه للزواج منّي. أمّا أنتِ...
ـ أمّا أنا، سأتجاهل كلامكِ وأتابعُ حياتي مع أخوتِكِ. تذكّري أنّني لَم أجبركِ على شيء. لا تلومي سوى نفسكِ.
قطعتُ صلتي بأمّي لكثرة اشمئزازي منها. ويا لَيتني لَم أعلم الحقيقة، فمنذ ذلك اليوم لَم أعد أطيقُ حياتي بل صرتُ أتصوّر باستمرار ما كان حصَلَ لولا لَم أتزوّج ماهر.
علِمتُ أنّ ابراهيم وجَدَ مَن يأخذ مكاني وأنّ زوجته حامل. حاولتُ أيضًا الإنجاب، لكنّ عقم ماهر حالَ دون تحقيق هذا الحلم. كان قد كُتِبَ لي أن أقضي باقي حياتي لوحدي معه.
إشتقتُ لفقري، حين كانت الحياة جميلة بالرّغم مِن صعوبتها. فكان كلّ يوم بمثابة معركة جديدة نحتفلُ بالإنتصار بها ونأملُ أن يكون الغد أفضل.
اليوم حياتي مملّة وخالية مِن المشاعر التي تقاسمتُها مع ابراهيم. هل الذنب ذنبي؟ هل كان لدَيّ فرصة للإفلات مِن فخّ أمّي؟ أم أنّ هذا هو قدَري؟ عبء الإجابة أتركُه لكلّ مَن يقرأ قصّتي.
حاورتها بولا جهشان