أتذكّر بوضوح تلك الليلة... كان المطر ينهال علينا ووصلتُ مبتلّة إلى منزل جدّتي. إستقبلَتني بحرارة بينما بقيَ أبي على الباب وبعد أن قبّلني على جبهتي، كما كانت عادته، رحلَ دون أن ينظر خلفه. لم أقدّر حينها أهميّة ما حدث لأنني كنتُ لا أزال في الرابعة من عمري ولكنني شعرتُ أنّ عليّ التمسّك بهذه اللحظة لأتذّكرها لاحقاً.
أدخلَتني جدّتي إلى غرفة صغيرة، حيث عمِلت على تجفيفي وأعطَتني ثياباً كانت في الحقيبة التي أوصلها أبي معي. أكلتُ صحناً من الطعام ثم خلدتُ إلى النوم. وفي صباح اليوم التالي، علِمتُ أنّ والدي سافر إلى بلد بعيد ليتزوّج من قريبة له وأنّه لن يعود. لم أحزن كثيراً لأنّ العجوز أعطتني فوراً لعبة جديدة أعجبَتني كثيراً وإستقطبَت كل إهتمامي. وفي ذلك النهار، بدأَت حياتي الجديدة. لم أعرف الكثير عن أهلي، سوى أنّه كان لي أمّاً ولكنّها توفيَت عندما كنتُ في الثانية وحاولَ أبي أن يهتمّ بي قدر المستطاع ولكنّه لم ينجح، فلم يكن معتاداً على التعامل مع الأولاد وقرّر أن يتزوّج. ولكن بعد بحث دام أكثر من سنة، لم يجد من يقبل برجل لديه إبنة صغيرة، لذا عرضَت عليه أمّه أن تأخذني لكي يكمل حياته بعدما وجدَ أخيراً إمرأة في أميركا.
لا أدري إن تردّد أبي بالقبول أو فرحَ، لأنّه سيتخلّص من عبء فُرِضَ عليه، فأقنعتُ نفسي عندما كبرتُ قليلاً، أنّه حزِنَ كثيراً للتخلي عني والسفر بعيداً. وبهذه الطريقة إستطعتُ عدم كرهه والعيش بوهم إختلقته لنفسي. جدّتي لم تكن إمرأة سيئة ولكنّها كانت كبيرة في السنّ وبعدما توفِيَ زوجها أصابتها كآبة الوحدة، فوجدت فيّ فرصة لكي تخرج من حياة الروتين التي غرِقت بها، فأصبحتُ شغلها الشاغل وسبب إستمرارها بالحياة. ولكن تمسّكها بي والفرق الشاسع في العمر، شكلا ضغطاً كبيراً على فتاة صغيرة كانت قد فقدت أمّها ومن بعدها أبيها. فصوّبتُ كرهي عليها ولم أعد أطيقها وكنتُ أعمل جهدي على معاندتها وفعل كل ما يضايقها. إحتارت المسكينة بأمرها وحاولَت بشتّى الطرق أن تهدّئ من غضبي تجاهها ولكنّها لم تفلح بذلك. فلم يعد أمامها سوى حلّ واحد: وضعي في مدرسة داخليّة. وها أنا مرّة أخرى أحزم أمتعتي، بعدما قرّر أحدهم التخلّص منّي مجدّداً. وعندما وصلتُ إلى تلك المدرسة، كنتُ في وضع نفسي يرثى له، أكره الدنيا بأكملها وأريد الإنتقام من كلّ إنسان يمرّ في طريقي. إستقبلَتني الآنسة سناء، إمرأة في الثلاثين من عمرها وقالت لي:
- سأكون المسؤولة عنكِ هنا، فإذا أرَدت أي شيء ليس عليكِ سوى أن تأتي إلى مكتبي. لا تخافي ستكونين سعيدة هنا.
لم أجب لأنني كنتُ قررتُ ألا أتكلّم مع أحد، لأثبتَ عدم موافقتي على ما يجري. لم أحبّ هذه المدرسة ولا الأساتذة ولا أياً من رفاقي وفضّلتُ أن أبقى وحيدة بعيدة عن كل ما يذكّرني بواقعي. علاماتي المدرسيّة كانت طبعاً رديئة رغم ذكائي، فتحمّلوني فقط بسبب ظروفي الصعبة وصبروا عليّ ريثما أعتاد على الواقع. ومرّت الأشهر ثم السنون وغرقتُ أكثر وأكثر في وحدَتي. كانت تأتي جدّتي لزيارتي كل نهاية أسبوع ولكنني كنت أرفض دائماً رؤيتها وعندما أخبروني بعد سنين أنّها توفيَت لم أحزَن، فأنا لم أكن أحبّها ولم تكن بالنسبة لي سوى والدة الذي تركَني ليتزوّج. لم يسأل والدي عنّي ولو مرّة واحدة وكأنني لم أكن يوماً موجودة في حياته، خاصة بعدما أصبح له أولادٌ من تلك المرأة. وأصبحتُ فعلاً لوحدي، لا أقارب ولا أصدقاء لي. وفي سنّ الخامسة عشرة قررتُ وضع نهاية لحياتي، فلم أعد أريد أن أعيش هكذا دون سبب أو دافع.
ففي ذات ليلة صعدتُ إلى سطح المدرسة لأرمي بنفسي. كان الظلام يغطّي السلالم ووجدت صعوبة في الوصول إلى الباب الذي كان موصداً. نزلتُ مجدّداً ودخلتُ خلسةً غرفة الآنسة سناء وهي نائمة وسرقتُ المفتاح المعلّق على الحائط قرب سريرها. ولكنّني أُجبرت أن أُرجئ إنتحاري، لأنّ الصباح كان قد بدأ يطلع.
وفي الليلة التالية، عدتُ ألى السطح وتوجّهتُ إلى الحافة وحضّرتُ نفسي للقفز، حينها سمعتُ صوتاً آتياً من الزاوية وكأنّه بكاء خافت ما أثار إنزعاجي ثمّ فضولي. نزلتُ عن الحافة وبحثتُ عن مصدر الصوت، فوجدتُ زميلة لي جالسة على الأرض تبكي بحرارة. قلتُ لها بإستياء:
- ماذا تفعلين هنا؟ هيّا إنزلي إلى فراشكِ فأنا مشغولة هنا!
سكتَت الفتاة ثم عاودَت البكاء. تابعتُ:
- ألَم تسمعي ما قلته لكِ؟ هيّا!
لم تجب الفتاة. حينها سألتُها لكي أنتهي من المشكلة:
- ولماذا تبكين هكذا؟
- أمّي... هي مريضة جداً... أحبّها كثيراً...
- وهي؟ هل تحبّكِ أيضاً؟ لو كانت تكنّ لكِ أيّة عاطفة لما وضعتكِ هنا.
- أقول لكِ أنّها مريضة... لا تستطيع الإعتناء بي فإختارَت أن تعطيني فرصة لكي أتعلّم وتكون لي حياة كريمة.
- حياة كريمة هنا؟ لا بدّ أنّكِ تمزحين!
- لن أبقى في هذه المدرسة طوال حياتي... بعد بضعة سنين أتخرّج وأجد عملاً وأكون مستقلّة أفعل ما أحلم به... إنّها مرحلة صعبة ولكنّها إنتقاليّة... المهمّ الآن أن تتحسن والدتي...
- أنا لم أعد أحتمل هذا الوضع... سأنهي حياتي الليلة!
- هذا غباء منكِ.
- ماذا؟ تقولين إنني غبيّة؟ لماذا؟ لأنّ أمّي ماتت وأبي تركَني عند عجوز ظنّت أنني لعبة عندها ومن بعدها قرّرَت أن ترميني هنا؟
- أحياناً لا نفهم نوايا أهلنا ونحكم عليهم بقسوة... قد تكون لهم أسبابٌ وجيهة لما يفعلونه... منذ مجيئك إلى هنا وأنتِ وحيدة... لم تحاولي ولو لمرّة واحدة أن تختلطي معنا...وحدتكِ سببها أنتِ ولا أحد سواكِ... لو حاولتِ أن تتعرّفي على البنات الأخريات لوجدتِ صديقة بينهنّ ولكان مكوثكِ هنا أخفّ وطأة عليكِ.
- صديقة؟ ولماذا؟
- لتتكلّمي معها عن أمور كثيرة... لتقاسمك أحزانكِ وأفراحكِ كما نفعل الآن.
- أيعني ذلك أننا صديقتان؟
- ليس تماماً ولكننا قد نصبح صديقتين إذا أردتِ.
- هيّا إنزلي إلى سريركِ!
- لن أنزل من دونكِ فأنا أخاف من الظلمة.
ورافقتها إلى غرفتها ولكنني لم أعد إلى السطح. أرجأتُ مشروعي إلى يوم آخر.
ومن بعدها أصبحَت تلك الفتاة تأتي وتجلس معي. في البدء لم أتكلّم معها كثيراً، ثم إعتدتُ عليها وبدأنا نتبادل الآراء والقصص حتى أصبحتُ أنتظر مجيئها. وتغيّرَت حياتي. بدأتُ أضحك وتحسّنَت علاماتي. وماتت أمّ صديقتي وبذلت جهدي للتخفيف من حزنها ووجدت فيّ صديقة حقيقيّة. وعندما أصبحنا في الثامنة عشرة ونلنا شهادة البكالوريا، قررنا أن نذهب سويّاً إلى الجامعة نفسها لندرس العلوم الإنسانيّة. هي إختارت الفلسفة وأنا علم النفس. وجدنا مكاناً نعيش فيه في مبنى مخصّص لتلامذة الجامعة وعملنا في مكتبة الكليّة لجني المال، لنأكل وندفع الإيجار. ولكنني لم أتوقّع أبداً أنّ للآنسة سناء دوراً حاسماً في ما حصلَ، فعلِمتُ مؤخّراً من صديقتي أنّها أرسلَتها تلك الليلة إلى السطح قائلة: "أراكِ حزينة... إصعدي إلى السطح وإبكي ما تشائين... أظنّ أنّكِ ستجدين التعزية هناك". لا بدّ أنّ الآنسة إستيقظَت عندما دخلتُ غرفتها وإكتشفَت أختفاء المفتاح وعلِمَت أنني سأبدل قراري عندما أرى مصائب غيري. وأنا متأكّدة أنّها كانت موجودة في مكان ما على السطح، تترقّب ما سيحصل.
واليوم أنا في آخر سنة من تخصّصي والحياة تفتح لي ذراعيها. وعندما أنظر إلى صديقتي وأفكّر بالآنسة سناء، أرى فيهما منقذتيَّ، فلولاهما لكنتُ قد متُّ ولما عرفتُ معنى الصداقة وطعم الحياة الحلو رغم الأوقات المريرة التي مرّرتُ بها. ولما عرفتُ كيف أعطي دون مقابل وأن أتفهّم ضعف الناس الذين يسبّبون لنا الأذى عن غير قصد، فقط لأنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع ما يعترض طريقهم.
حاورتها بولا جهشان