تخلّت عني أمّي لتحميني من أبي الشاذ!

حدث ذلك منذ زمن بعيد. اليوم أنا جدّة وما زلت أطرح على نفسي السؤال ذاته: كيف يُلحق إنسانٌ الأذى بأشخاص من المفترض أن يحبّهم؟  

كنت في السابعة من عمري حين أرسلني والداي للعمل في المدينة. هكذا جرت العادة في تلك الحقبة داخل العائلات الفقيرة إذ كان الفتيان يشكلون اليد العاملة، فيما يتمّ التخلّص من الفتيات للتخلص من عبء إطعامهنّ وإلباسهنّ. كنت الفتاة الثانية في العائلة ولطالما تساءلت لمَ بقيت أختي في المنزل.
في الواقع كانت أمي هي من أصرّت على رحيلي وهذه لم تكن رغبة والدي في المقابل. وأنا لا أنسى جملة والدتي التي ما زالت تطنّ في رأسي: "لن أسمح لها بالبقاء هنا ثانية واحدة!".

 

مع البقجة في يدي، رحلت برفقة جارتنا التي أكّدت للجميع أنّ حياتي ستكون أفضل. لم أبكِ فلم أكن مدركةً ما سيحصل معي. 

كان أصحاب المنزل حيث عملت طيبين وعادلين وهذه نعمة! كنت أقوم بعملي جيداً وهم يكافئونني بمعاملة لطيفة كما لو أنّني فرد من العائلة. في الحقيقة هم ربّوني وعلموني القراءة والكتابة والعادات السليمة والسلوك الحسن. عندهم لم ينقصني أيّ شيء! وحين كنت أدخل عند المساء إلى السرير وأنا أفكّر بعائلتي كانت سيدة المنزل تأتي لمواساتي وتبقى إلى جانبي حتى أنام. 
في سنّ السادسة عشرة قدّموا لي خطيباً كان يدعى عادل، ويعمل في معمل رب منزلي. برأيهم، كان عادل إنساناً قوياً يعمل بجهد ولديه مستقبل جيد في انتظاره. لذا أعجبني عادل وتزوّجنا. وحين أراد زوجي أن يقابل عائلتي رفضت! لم أخجل بهم لكن بالنسبة لي ما عادوا عائلتي بل أشخاصاً تخلّوا عني. كنت بالفعل قد قلبت الصفحة نهائياً!

 

بعد فترة، انتقلنا إلى مدينة عادل، ولكي أُريح ضميري أرسلت خبراً لعائلتي من أجل إخبارهم أنّني رحلت إلى بلد آخر إذا أرادوا الاتصال بي مجدداً مع العلم أنّ ذلك كان غير وارد على الإطلاق.

مرت السنوات بهدوء وكنت سعيدة، وتوقفت عن العمل في المنازل ورحت أساعد زوجي في زراعة أرض صغيرة يملكها ويبيع محصولها في الأسواق. وبفضل تفانينا نجحنا في شراء أرض أوسع وازدهر عملنا. ربّيت أولادي متعهّدةً ألا أنفصل عنهم البتة مهما حصل. وحين كانوا يسألونني عن عائلتي لم أكن أخبرهم أيّ شيء عن طفولتي ولا عن حقيقة جدّيهم المرّة. لم أشأ أن يفكروا بأن ذلك قد يحصل معهم يوماً.

 

في صباح أحد الأيام، قُرع جرس المنزل. حين فتحت الباب، رأيت امرأة تقف أمامي. كانت سماتها مألوفة بنظري ولكنني لم أتعرّف إليها. كانت عيناها تلمعان من دموع الفرح حين همست:


- أنتِ جميلة للغاية.


- هل تعرفينني؟ سألتها متعجبةً!


- أنا أمك.

 

وارتمت على عنقي فتراجعت إلى الخلف وحاولت أن أغلق الباب بوجهها ولكنها نجحت في الدخول إلى المنزل.


- لن أرحل قبل أن تسمعيني. لطالما انتظرت هذه اللحظة لسنوات طويلة.


وبدأت تسرد القصة:


- أعرف ما هو شعورك حيالي ولكن خلافاً لما تظنينه فلطالما أحببتك وأكثر مما تتخيّلين. أنا لم أتركك بل أنقذتك! لو عاد لي الأمر وحتى لو قضت الحاجة كنت لأبيع شعري وأسناني كي أبقيك إلى جانبي. لقد أنقذتك من ذاك الوحش المدعو أباكِ.

 

- لم يشأ والدي أن أرحل بل أنت من أصررت على الأمر! هو كان يلاطفني طيلة الوقت ويلعب معي أمّا أنت فكنت تصرخين في وجهه ليتوقف.


- صحيح يا عزيزتي. أراد أن تبقي في المنزل أما أنا فوددت نزعك من بين يدي ذاك الشاذ. اجلسي يا صغيرتي ودعيني أخبرك بكل شيء. بدأت المسألة مع شقيقتك الكبرى. وحين عرفت بما يجري كان الوقت قد تأخر. حين اكتشفت الأمر فعلت ما بوسعي لحمايتها والله وحده يعلم كم عانيت من العنف في كل مرة كنت أمنعه من لمسها. ما كان يهمّني انتقامه مني ما دام بعيداً عنها. لم أكن أنام في الليل لأبقيها إلى جانبي طيلة الوقت، والأسوأ أنّني لم أستطع إخبار أحد فمن كان ليصدّقني؟ كان الأمر دنيئاً جداً! ثمّ عرفت أنني حامل وطلبت من السماء أن يكون صبياً ولكنني أنجبتك فتاة صغيرة رائعة، فريسة جديدة لذاك الوحش الذي تزوّجته. وبما أنّني لم أكن قادرة على حماية فتاتين في الوقت عينه اتخذت القرار المؤلم بإرسالك بعيداً عنه. عرفت أنّك ستكرهينني لكنّ ذلك لا يُقارن بما كان سيفعله بك. لهذا السبب أصرّ على بقائك أمّا أنت فكنت صغيرة جداً لتفهمي. من حسن الحظ أنني لم أنجب إلاّ صبياناً من بعدك وإلاّ صدّقيني لفعلت الأمر نفسه. لم أتوقف عن البحث عن أخبارك من دون أن تعلمي. لم أرد أن تعودي إلى المنزل ما دام على قيد الحياة.

 

- لقد مات الآن. لهذا السبب أنت هنا؟ قلت باكيةً.


- مات البارحة وأنا هنا اليوم. لم أرد حضور دفنه حتى فليتعفّن في الجحيم! انتظرت هذه اللحظة سنوات طويلة وسارعت لرؤيتك وملامستك وشمّ رائحتك يا ابنتي الصغيرة الغالية!

 

ارتميت بين ذراعيها وعانقنا بعضنا دقائق طويلة ووددت لو أبقى هكذا لحياة كاملة! أمي لم تتركني بل لشدّة حبّها لي عاشت من دوني من أجلي. رجع أولادي من المدرسة في تلك الأثناء.


- تعالوا للتعرّف إلى جدّتكم، أفضل أم في العالم. قبّلوها بقوة!


- ولكن لمَ تبكين يا أمي؟


- لأنّ الكثير من الحب دفعة واحدة أمرٌ مبكٍ بالفعل يا أعزائي!

 

بقيت أمي عندنا ثلاثة أشهر ثمّ حان دورنا لنعود إلى قريتنا الغالية. هناك، قابلت شقيقتي وأصدقائي من جديد وتعرّفت إلى أشقائي واجتمعنا كعائلة حقيقية. ومن الغريب أنّني أصريت على الذهاب إلى قبر والدي فقد أردت أن أسأله لمَ فعل ما فعله؟ وكيف عسى أب يلحق هذا النوع من الأذيّة ببناته؟ هل أحبّني حقاً؟ هذا ما لن أعرفه أبداً! 

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button