يولَد البعض لافتعال الأذى، وأمّي كانت مِن هؤلاء الناس! وكان مِن الجيّد أنّها تركَتني وأنا صغيرة، لأحظى بالحياة الجميلة التي عشتُها.
تعرّفَ أبي عليها وفقَدَ عقله لحظة رآها، وصمّمَ في قرارة نفسه أن يتزوّجها مهما كلّفَه ذلك. وكان يعرف أنّ الأمر لن يكون سهلاً بِسبب جمال أمّي وكميّة الشبّان الذين سعوا للإرتباط بها. وكان والدي آخر مَن سَيقع الاختيار عليه بسبب أوضاعه الماديّة المتوسّطة. ولكن لم يبقَ سواه بعد أن رُفِضَ جميع العرسان الذين سبقوه.
ولكنّ أمّي لم تكن أبداً مستعدّة للنزول إلى مستوى لا يليق بها، فصمّمَت أن تعيش كالأميرات. ولم يصغي أبي لكلام جدتي عندما نصحَته بالإبتعاد عن والدتي:
ـ يا سامر... أنا والدتكَ ولا أريد سوى سعادتكَ... ناهيكَ عن خبرَتي في الحياة... هذه الفتاة... أعني جلنار... ليست لكَ.
ـ بلى يا أمّي... هي لي ولن تكون لِغيري... لماذا لا تحبّينها؟ ماذا تعرفين عنها؟
ـ أنا امرأة وأعرف النساء جيّدًا... لن تجلبَ لكَ جلنار سوى المتاعب... هناك العديد مِن الفتيات اللطيفات و...
ـ ولكنّني لا أريد سواها! أحبّها!
ـ وهي، هل تحبّكَ أيضاً؟
ـ بالطبع!
ولكنّ أمّي لم تكن قادرة على حبّ أحدٍ سواها، وكل ما توقعته جدّتي قد تحقق في النهاية. فبعد الزواج، بدأَت العروس بالطلبات الشبه مستحيلة. فكانت تريد الأفضل وبِسرعة، وراتب أبي لم يكن كافيًّا لإشباع نزواتها المتكاثرة. وكي يشتري لها كل ما أرادَته، وجَدَ أبي وظيفةً ليليّةً، ومع ذلك بقيَت والدتي غير راضية.
كانت جلنار فائقة الجمال. ويقال أنّها كانت تهتمّ كثيراً بمظهرها الخارجي، خاصةً عندما كانت تستعدّ للخروج مع والدي. فكانت تجلس على كرسيّ أمام المرآة وتبرّج نفسها لِساعات طويلة. وكانت النتيجة مذهلة، لِدرجة أنّ الناس كان يتوقفون عن الكلام والأكل عندما تدخل المطعم.
وكان أبي جدّ فخور بالتواجده جانبها وبتقاسم حياته معها. وكان لها تأثير كبير على الجميع دون أستثناء، لأنّها كانت تدرك مدى قوّة جاذبيّتها.
أنجبَت أمّي أبنتَان، ولكنّها لم تهتم بهما لِكثرة أنشغالها بِنفسها. وكانت جدّتي وبِمساعدة عمَّتَيَّ، هي التي غيّرَت الحفاضات وحضّرَت زجاجات الحليب وسهرَت وربَّت. جلنار كانت تنام طوال النهار وتستفيق لتتحضّر لِسهرتها، والتي ستمضيها بالطبع مِن دون أبي، لأنه كان قد بدأ يعمل ليلاً.
وفي احدى الليّالي، خَرَجَت أمّي ولم تعد. وانشغلَ بال الجميع وبحثوا عنها في كل مكان ولكن مِن دون جدوى. عندها أدركوا أنّها رحَلت ولكن ليس بِمفردها، بل مع عامل في ورشة بناء قيد الأنشاء.
ومرَّت سنتان مِن دون خبر عنها، وكاد أبي يفقد صوابه، فلم يكن قادراً على العيش مِن دونها. كان بالكاد يأكل ويقضي أيّامه أمام النافذة والدمع يملأ عَينَيه. في الليل، كان يصرخ اسمها خلال نومه، وكانت أمّه تركض لإيقاظه ومواساته. والغريب في الأمر، هو أنّ أبي لم يكن غاضباً منها، بل كل ما كان يريده هو إرجاعها إلى المنزل.
وفي ذات يوم، قال أصدقاء له أنّهم إلتقوا بجلنار في بلد مجاور، ولم يصدّقوا أبداً ما رأوه. فكانت أمي جالسة على الرصيف، تُرتي السجّاد، وكان مظهرها مخيفاً بسبب شعرها المنكوش وملابسها القديمة والممزّقة. وعندما سألوها إن كانت حقّاً جلنار زوجة سامر، بدأَت تشتمهم وطلبَت منهم الرحيل.
عند سماع هذا، طلَبَ أبي مِن عمّتيّ وجدتي السفر لأقناعها بالعودة. وبعد مشاورات طويلة، إقتنعتا بتنفيذ المهمّة.
عندما وصلتا إلى المكان المذكور، وجدَتا أمّي كما وصِفت، أي في وضع مأساويّ بعيد كل البعد عمّا كانت عليه حين كانت تعيش مع أبي. وبِقربها على الرصيف، كان هناك طفلة تصرخ وتبكي مِن شدّة الحرّ. وعندما رأَت جلنار عمّتيَّ، نظَرَت إليهما بازدراء وقالت:
ـ ماذا تريدان؟
ـ جلنار... أيُعقَل أن نجدكِ هنا وفي هذه الحالة؟
ـ أنا بألف خير... ومشغولة جدًّا... هيّا ارحلا!
ـ جئنا لِنعيدكِ إلى دياركِ.
ـ دياري هنا.
ـ يريد سامر أن نعيدكِ معنا... إنّه مستعدّ لِمسامحتكِ.
ـ مسامحتي؟ عليه أن يشكر ربّه أنّني مكثتُ كل ذلك الوقت معه!
ـ كنتِ تعيشينَ كالملكة معه... أنظري إلى نفسكِ الآن.
تابَعت أمي رتي سجّادتها وكأنّها تقول لهما أنّ الحديث أنتهى. وإذ بطفلتها تعاود الصراخ، فقالت جلنار لِعمّتَيَّ:
ـ اصطحابها معكما... ليست مِن سامر بل هي ابنة الآخر... لا أعلم شيئًا عن مكان تواجده ولا أكترث للأمر... إن كنتما مصَّرتَين على فعل شيئ مفيد، خذوها معكما... لم أعد أحتمل بكاءها.
الطفلة التي تخلت عنها جلنار بكل بساطة، هي أنا!
لم أفهم حتى الآن، ما الذي دفعَ عمّتَيَّ على اصطحابي؟ فلم يكن هناك صلة بيننا، بل كنتُ ابنة الذي سَرَقَ جلنار مِن سامر. أظن في أعماقي، بأنّ السبب الأوّل هو الشفقة والثاني أنّهما لم تريدا العودة بدون أي شيء.
وقيلَ لي، أنّ عند وصولي، أخذَني سامر بأحضانه وغمَرَني بِقوّة وأخذَ يشمّني وكأنّه يريد إستعادة رائحة التي أحبّها إلى حدّ الجنون. وعلِمتُ أنّه أمضى ليالي عديدة وهو يراقبني وأنا نائمة والدموع تنهال على خدَّيه. وكبِرتُ وأنا أناديه "بابا"، وأصبحَت كأخواتي، فرداً من العائلة.
وبعد ثلاثة سنوات وبعدما فقدَ الأمل، قرّرَ أبي أن يتزوّج مِن جديد مِن إمرأة واسعة القلب والعقل. ونسيَ معها جلنار وأحزانه، وأصبح المنزل مكاناً يحلو فيه العيش. فكانت عبير تعامَلًنا بِمحبّة، وحَلّت مكان الأمّ المهملة والأنانيّة التي أنجَبتنا.
ونسيتُ أمر أمّي البيولوجيّة طوال سنين. ولكن عندما أوشكتُ على الزواج، عادَت إليّ المشاعر التي كنتُ قد نسيتُها. فكان قلبي مليئ بالحزن والغضب والتساؤولات، وأرَدتُ أن أتصافى مع التي تخلَّت عنّي بِسبب بكائي. وأخذتُ أفتّش عنها حتى أن وجدتُ أثرها. كانت قد تزوّجَت ورحَلَت مع زوجها إلى كندا. وبعد أن حصلتُ على رقم هاتفها، قرّرتُ الأتصال بها. لم أكن أدري ما كنتُ سأقول لها ولكن كان عليّ المحاولة على الأقل مِن أجلي ومِن أجل الرجل الذي اخترتُه.
كان حديثاً مهذّباً وقصيراً. لم تبدِ أمّي أندهاشاً أو حماساً لِسماع صوتي. كان الأمر وكأنّنا تكلّمنا سويّاً قبل يوم مِن ذلك. دعيتُها إلى فرحي ولكنّها لم تأتِ وأرتاح الجميع لِعدم وجودها معنا في مناسبة كهذه.
ولكن بعد حوالي السنَتَان، أتصلّت بِدَورها بي لِتخبرَني أنّها قادمة إلى البلد وتريد رؤيتي. هل يُعقل أنّ تكون تلك المرأة المهملة والقاسية قد شعَرَت بِبعض الحنان تجاه أبنتها؟ أخبرتُ زوجي بالأمر وأنتظرتُ مجيئها. لم أكن أتذكّرها فعليّاً بل أعرف شكلها مِن خلال بضعة صوَر قديمة. أخذتُ أتخيّل لقاءنا وما سنقوله لِبعضنا وعشتُ فترة عصيبة لم أذِق خلالها النوم. وحضّرتُ لها غرفة لِتكون مرتاحة خلال مكوثها عندنا. ويوم وصولها ذهبتُ إلى مُصفّف الشعر ولبستُ أجمل ما عندي لِتكون فخورة بي.
وصَلَت جلنار بِسيّارة أجرة ولم تمكث سوى ساعة واحدة. قبّلَتني على خدَّيّ كما قد تفعل مع أي شخص آخر. لم أرَ دموعاً أو أشعر بأي عاطفة. وبعد أن تبادلنا بعض المجاملات، أطلعَتني على سبب زيارتها الحقيقيّ: كانت قد ترَكَت زوجها وجاءَت إليّ لأساعدها ماديًّا.
لم أصدّق أذنيّ! لم أتصوّر أن ألتقي بأحدٍ بهذه الوقاحة! أتَت مِن أجل المال فقط وليس لِترى إبنتها. عندها لم أستطع تمالك نفسي وصرختُ:
ـ أخرجي مِن بيتي ولا تعودي أبدًا! لا أريد رؤيتكِ مجدّدًا أو سماع أي شيء عنكِ! أنتِ قبيحة وأخجل أن أكون قد ولِدتُ منكِ... لم تسألي عني أو عن أبنتَيكِ طوال حياتكِ وكأنّنا لم نرَ النور يومًا... الحيوانات تسأل عن صغارها.أنتِ لا تستحقّين حتى لقب حيوان! المرأة التي ربَّتنا أحبَّتنا أكثر منكِ وعاملَتنا أفضل منكِ... أعطَتنا الحب والطمأنينة وأشكر ربّي أنّكِ تخلّيتِ عنّي وإلاّ كنتُ الآن ملقاة على أحد الأرصفة أبيع نفسي لأعيش.
رحَلَت جلنار وأختفَت كليّاً.
وأصبحتُ أمّاً بِدوري، وعندما أحضن أطفالي أقسم لهم أنّني سأكون موجودة معهم ومِن أجلهم حتى آخر نفس، وأن لا شيء سيحملني يوماً على تركهم. فهكذا تكون الأمّهات.
حاورتها بولا جهشان