تحالفَت أمي مع زوجي ضدي

الأب يُمثّل صورة الرّجل القويّ الذي هو سنَد لأولاده وملجأهم وحصنهم المنيع ضدّ مخاطر الحياة. لَم أحظَ بهكذا أب، لكن شأني شأن معظم البنات، فقد أحبَبتُه مِن كلّ قلبي.

وضعفه هذا دفَعَه للزواج مِن أمّي التي كانت إمرأة قويّة أدارَت البيت بقبضة حديديّة. هي لَم تأبه لشخصيّة والدي، بل كانت بحاجة إلى رجل شبه غائب يسمحُ لها ببسط سلطتها على "مملكتها". كانا قد وجدا في بعضهما التوازن المثاليّ.

لكنّني لَم أكن سعيدة بهذه التركيبة، إذ كان عليّ الحصول على العطف والحنان مِن أبي والقوّة والأمان مِن أمّي، أي أنّ عالمي كان مقلوبًا رأسًا على عقب. قد تقولون إنّ الأمر ليس بهذا السوء، إلا أنّ الأحداث التي تلَت والتي هي وليدة هذا الخلَل، كانت بغاية الخطورة. فقد رأيتُ بعَينَيّ زوجي يضربُ أبي بمساعدة أمّي، وكان المشهد فظيعًا.

تعرّفتُ إلى عماد عند إحدى صديقاتي، وكانت رجولته أوّل ما لفَتَ انتباهي. كان يتكلّم بصوت عالٍ وبثقة واضحة، ويعرِفُ الكثير عن أمور عديدة. وهو لَم يتأخّر بطلَب رقم هاتفي منّي عند انتهاء الجلسة وبطريقة لا تحمل المُجادلة. وافقتُ على طلبه، لأنّني بُهِرتُ بقوّته وشعرتُ بأنّني قد أكون بأمان معه. وكَم كنتُ مُخطئة! فرجولته هذه كانت نابعة مِن نفس بشعة يملكُها انسان بغيض، لا يهمُّه سوى ذاته والسيطرة على مَن حوله ليشعر بقوّته. وكنتُ سأصبحُ احدى ضحاياه وكذلك والدي بعد أن وجَدَ عماد بأمّي حليفًا له.

خلال فترة تواعدنا، كان ذلك الرجل فائق اللياقة معي، وعمِلَ جهده على طمأنتي بأنّني سأكون معه في يد أمينة، خاصّة بعدما أخبرتُه عن خذلان أبي لي. كان عماد سيستعملُ ضدّي ما علِمَه عنّي، وهو أسلوب وضيع خاص بأصحاب النفوس السوداء.

أُعجِبَ عماد بأمّي على الفور، فقد وجَدَ فيها صفات يملُكها، وباتَ يزورُنا باستمرار ليجلس معها، متجاهلاً والدي الذي شَعَرَ بوحدة أكبر بعد مِن التي كان يعيشُ فيها. وكنتُ أنا مسرورة مِن أنّ تلك المرأة الجبّارة راضية عن حبيبي ولا ترى مانعًا مِن زواجنا، بل خطَّطَتْ معه مسار فرَحنا بالكامل. لَم أنتبه آنذاك إلى أنّهما لَم يطلبا رأيي بشيء وكأنّني غير معنيّة بالأمر.

 


تزوّجنا، وقبِلَ عماد بالعَيش معنا بعدما عَرَضَت والدتي عليه ذلك، وكنتُ مرتاحة للبقاء حيث وُلِدتُ وكبرتُ. بالطبع لَم يأخذ أحد إذن أبي.

مع الوقت، أصبَحَ الوضع وكأنّ عماد هو زوج أمّي، إذ كانا يُشكّلان ثنائيًّا قويًّا ويفعلان كلّ شيء سويًّا، وبتُّ كأبي مُستَثناة مِن أيّ قرار أو حتى نشاط. قد يظنّ القارئ أنّ علاقة عاطفيّة أو جنسيّة كانت تربطُ زوجي بأمّي، لكنّ الوضع كان مُختلفًا. كانا مُتحالفَين فقط، لكن بطريقة وطيدة. وهذا التحالف خَدَمَ مصالحهما، أي أنّ أمّي بقيَت مُسيطرة على البيت وعليّ وأبي، في حين يستفيدُ زوجي مِن السكن والمأكل والمشرب المجانيّ ويتفرّغ لمطاردة النساء والفتيات. فرجل مثله لَم يكن ليكتفي بامرأة واحدة، خاصّة إذا كانت مثلي، أي كما كان يُردّد، لا طعم لها ولا لَون.

عندها فهمتُ ما يشعرُ به أبي ولَم أعُد ألومه، فالشيء نفسه حدَثَ لي مع أنّني كنتُ أعتبرُ نفسي إنسانة قويّة وذات عزيمة. فكان مِن الواضح أنّ عماد وأمّي هما أقوى مِن غيرهم بكثير.

ظنَنتُ أنّني قد أستطيع قلب الموازين إن أعطَيتُ زوجي ولدًا، وأنّ الأمر سيُحدِث شيئًا في قلبه يحملُه على ترك عشيقاته وإعارتي أهميّة أكبر، لكن ما أن وُلِدَ إبننا حتى أصبحتُ مصدر إزعاج لعماد، ولَم يعُد يقوم بواجباته الزوجيّة معي على الإطلاق. قرّرتُ عندها التكلّم مع أمّي لتُقنِعَ زوجي بالإلتفات إليّ قليلاً، لكنّها ضحِكَت بوجهي قائلة: "ما كان عليه الزواج منكِ على الإطلاق، فالرجال أمثاله بحاجة إلى نساء أمثالي".

بكيتُ كثيرًا لأنّني أدركتُ أنّ لا أحدًا سيُساعدُني، وأنّني صرتُ لوحدي وسط عائلة غريبة عجيبة. خطئي كان أنّني لَم أبحث عن المساعدة والقوّة في داخلي بل بقيتُ أنتظرُها مِن غيري.

رأى والدي مدى تعاستي وواساني على طريقته، أي أنّه قال لي أنْ لا فائدة مِن البكاء على وضع لا أمل في تغييره. ونظرتُ إليه بعتاب وصرخت به:

 

- كلّ ذلك يحدثُ بسببكَ! لو كنتَ رجلاً حقيقيًّا لأوقفتَ أمّي وزوجي عند حدّهما! أيّ أب أنتَ؟ كيف تقفُ مُتفرّجًا هكذا؟

 

تحمَّسَ أبي لكلامي، ووقَفَ فجأة وقصَدَ زوجته وبدأ المسكين بالصّراخ عليها. إلا أنّها قالَت له باستهزاء:

 

- أرى أنّ رجولتكَ قد استيقظَت فجأة... لن أردّ عليكَ بل سأتركُ رجلاً حقيقيًّا يُهذّبكَ.

 

ونادَت عماد، وطلَبَت منه أن يُلقّن "الجبان درسًا لن ينساه"... فبدأ زوجي بضرب أبي. ركضتُ لأبعده عن والدي، إلا أنّه رماني جانبًا وتابَعَ ما بدأه. في تلك الأثناء، جلَسَت أمّي على الأريكة لتستمتع بالمشهد وكأنّها في دار للسينما.

بعد جهد جهيد، إستطعتُ انتشال والدي مِن بين يدَي عماد، وأخذتُه إلى الغرفة لأرى إن كان بحاجة إلى طبيب أو مشفى. لَم نتبادل الكلام بل بكينا سويًّا بِصمت.

بعد ذلك اليوم، كان عماد وأمّي قد بسطا نهائيًّا سلطتهما على المكان وأهله. لكن بعد أقلّ مِن سنة، وقَعَ عماد ضحيّة حادث سيّارة كبير أبقاه في السرير مدّة طويلة. للحقيقة، لم أزعَل عليه، بل رأيتُ بذلك عقابًا عادلاً. لكنّني حزنتُ على إبني الذي كان يرى أباه ملقىً في السرير غير قادر على الحراك. وأغرَب ما في الأمر، هو أنّ أمّي ابتعدَت عن زوجي مباشرة بعد أن أدركَت أنّ الرجل الذي كان يُوازيها قوّةً، باتَ ضعيفًا ومكسورًا مِن الخارج والدّاخل. لِذا لَم يعُد لعماد سوايَ للإهتمام به. وأنا، بدوري، لَم أجد سببًا للإعتناء كما يجب بإنسان بذلَ جهده لتحطيمي وإهانتي مع أبي.

 


لذلك قمتُ مِن أجله بواجباتي الإنسانيّة وحسب، الأمر الذي حملَه على الشعور بالأسى تجاه نفسه، حتى أنّني رأيتُه ذات يوم وهو يبكي. إقتربتُ منه وقلتُ له:

 

ـ يجدر بي تركَكَ تتعفّن في سريركَ، فأنا لا أحبُّكَ ولا أحترمُكَ على الإطلاق. لقد حوّلتَ حياتي إلى جحيم مع أنّني لم أرتكب يومًا أيّ سوء. أنتَ رجل بغيض وأنا أمقتُكَ لأقسى درجة. أين هي حليفتكَ؟ لا أراها بالقرب منكَ! هذا لتعلَم أنّكَ لا تساوي شيئًا لأحد مِن جرَّاء أفعالكَ الشنيعة. لقد أهنتَني وخنتَني وعزلتَني وضربتَ أبي أمامي... أيّ مخلوق أنتَ؟ ماذا حصَلَ لكَ خلال طفولتكَ لتصير بهذه الشناعة؟ وما ذنبي أنا إن كان أهلكَ قد أهانوكَ وضربوكَ؟ لَم أعد أريدُكَ منذ زمن طويل ولستُ خائفة منكَ، فبقائي معكَ سببه إبننا فقط الذي لا ذنب له بسواد قلبكَ. لا أحسدُه على أب مثلك، وأفضّل بكثير أبي عليكَ، فعلى الأقل هو إنسان هادئ ومحبّ وشريف. إبنكَ سيكبر ليكرهُكَ كما أنا أكرهُكَ. قد تُخيفُه في البدء كما أخَفتَني، لكنّه سيكتشف ضعفكَ الدّاخليّ، وينتظر حدوث ضعفكَ الجسديّ لينتقم منكَ، تمامًا كما أفعلُ معكَ الأن. فلا أحد بمنأى عن الحوادث والمرَض والموت، وأكبر الجبابرة يقعون ولا يجدون أحدًا يُساعدهم على النهوض. قال لي الطبيب إنّكَ حين تشفى ستمشي بصعوبة، لِذا ستكون بحاجة إلى عكّازات. ولو كنتَ رجلاً مُحبًّا وصالحًا، لأصبحتُ أنا عكّازكَ، لكنّني لن أفعل بل سأتفرّج عليكَ وأنتَ تناضل لتمشي. هذا هو مصير كلّ طاغٍ... يا زوجي العزيز!

 

تركتُ عماد وهو يبكي بمرارة، وشعرتُ وكأنّ ثقاً رُفِعَ عن صدري. كنتُ قد انتقمتُ لنفسي ولأبي. بقيَ أن أفعَلَ الشيء نفسه مع أمّي.

وجدتُ والدتي جالسة في الصالون تشاهد التلفاز. جلستُ بالقرب منها وقلتُ لها:

 

ـ لِما لستِ مع حليفكِ؟

 

ـ هذا الضعيف؟ لا ينقصُني رجال ضعفاء في هذا البيت!

 

ـ الرجل القويّ ليس الذي يصرخُ ويضربُ ويبسطُ طغيانه على مَن حوله، بل الذي يتفهّم ويصبر ويُحكّم عقله. لقد أسأتِ طوال حياتكِ فهم معنى الرجولة، بل تحوّلتِ مِن امرأة إلى رجل كريه. أنا لا أحبّكِ. نعم، لا أحبّ أمّي، وهذا أمر مؤسف.

 

ـ وتحبّين أباكِ، هذا الجبان؟

 

ـ نعم، أحبُّه وآسف عليه لأنّه اختاركِ زوجة له، فقد كان بامكانه أن يكون سعيدًا مع غيركِ.

 

ـ هو سعيد معي، لا تخافي.

 

ـ بل فعلتِ جهدكِ لإتعاسه وإتعاسي. لا أحد يُحبّكِ في هذا البيت، وأنا متأكّدة مِن أنّكِ تشعُرين في داخلكِ بوحدة رهيبة. ستبقين وحيدة وخاصّة في أحرَج الأوقات. أنظري إلى صديقكِ عماد كيف هو لوحده في ألمه وسريره. مَن سيهتمّ بكِ عندما تمرضين وتشيخين؟

 

ـ أنتِ وأبوكِ.

 

ـ لا، لأنّني سأطلبُ الطلاق، وآخذ إبني وأبي وأرحلُ مِن هذا المكان المُقرف. لدَينا الحقّ لنعيش بسلام نحن الثلاثة. ستبقين لوحدكِ مع كرهكِ وكبريائكِ، وسنرى مَن سيكون سعيدًا، أنتَ أم نحن.

 

إتّصَلتُ بمحام وشرحتُ له وضعي، وأخبرتُه عن العنف الذي تعرّضتُ له وأبي مِن زوجي وعدَم معاشرته لي. طلَبَ منّي الإنتظار حتى يشفى عماد، كي لا يستدرّ شفقة القاضي بسبب حالته. وقد أصرَّيتُ طبعًا على الإحتفاظ بإبني.

لم يُعارض زوجي الطلاق. على كلّ حال، هو تغيَّرَ كثيرًا بعد شفائه ولكن ليس بطريقة تُعيدُ حبّي القديم له.

رحلتُ مع أبي وإبني مِن البيت، وعشنا في شقّة ظريفة ووجدتُ عملاً بفضل شهادتي الجامعيّة. ساعدَني والدي بالإعتناء بإبني أثناء وجودي في عملي وأصبَحنا سعداء.

بقيَ عماد مع أمّي فترة قصيرة، ثمّ هرَبَ منها بعد أن صارَت تعامله كما كانت تعامل أبي. وعاشَت هي لوحدها سنينًا إلى أن مرضَت وذهبَت إلى المشفى. زرتُها مرّة واحدة على أمل أن أجد فيها ما يُمكّنُني مِن الإعتناء بها، لكنّها طردَتني قائلة إنّها ليست بحاجة إليّ أو لأحد. لَم تسألني عن إبني أو عن أبي أو كيف هي حياتي.

بعد ذلك، دخلَت والدتي دارًا للعجزة. أسألُ عنها الممّرضات بين الحين والآخر، وعلِمتُ منهنّ أنّها مريضة صعبة للغاية ولا تحبّ أيّ واحدة منهنّ دخول غرفتها إلا للضرورة القصوى.

عماد هو الآخر لَم يسأل عنّي وعن إبني. إختفى كليًّا ولَم أعُد أعرفُ شيئًا عنه وعن حاله.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button