كفاكم كذباً على الأطفال والمُراهقين بإخبارهم تلك القصص حيث الخيال يُصبح لدَيهم حقيقة والوعود إنتظارًا سيطول ويتحوّل إلى مرارة. فقصص الحبّ التي نسمعُها لا تتحقّق إلا نادرًا والواقع ليس زهريّ اللون. لَم أرَ في حياتي فتاة قرويّة تلتقي بأمير يتزوّجُها ويعيشان سويًّا سعداء حتى آخر أيّامهما، أو بِفقير يعثرُ على كنز سحريّ يجلبُ له الخيرات والمحبّين. حتى علاقاتنا اليوميّة تتّسمُ في غالب الأحيان بالخذلان والمصلحة والغشّ، ونجدُ أنفسنا نبحثُ على مدار الساعة على بصيص يُعيدُ لنا أملنا بالبشريّة. لا تقولوا عنّي إنّني مُتشائم بل إبحثوا وقولوا لي حقًّا إن كنتُ مُخطئًا أم لا. فقسم كبير منّا يهوى الكذب على نفسه ليتمسّك بخيوط السعادة الخياليّة قائلاً لنفسه: "ماذا لو..."
قصّتي هي قصّة رجل آمَنَ بالحبّ وتعرَّفَ إلى الواقع المرير. فالواقع يكون غالبًا مريرًا لأنّه بالفعل الصورة الحقيقيّة لعالمنا، هو نفسه الذي يُحجبونه عنّا في صغرنا. يا لَيتهم أخبرونا عنه لنواجهه ونتحضّر له أكثر حتى نحمي نفسنا.
أحببتُ ديما حبًّا كبيرًا حين كانت زميلتي بالصفّ في المدرسة الثانويّة، وهي أحبَّتني أيضًا واتّفقنا أن نربطَ مصيرَينا لاحقًا. تحبّون سماع قصص الحبّ التي تبدأ باكرًا، أليس كذلك؟ لأنّكم تعتقدون أنّها أقوى مِن غيرها لأنّها تنشأ في قلب مَن لا يزال يحتفظُ بشيء مِن البراءة. لكنّ المرء يكون فاسدًا منذ البدء، وكأنّ المكر والشرّ والأذى هي بمثابة زهرة تنمو بصمت في قلب صاحبها مِن دون أن يظهر شيء للعلَن. أكلَتُ وشربتُ ونمتُ واستيقظتُ على حبّ ديما، واجتهَدتُ لأنال شهادتي الجامعيّة وإيجاد عمَل لأتزوّج منها وأُسعِدُها. أجل كان هدفي، ولسنوات طويلة، ألا تمّحى بسمتها عن وجهها وأرى باستمرار عينَيها وهي تلمَع مِن الفَرَح.
كان كلّ شيء يُنذر بأنّني سأكون أسعَد زوج، فالعائلتان كانتا تُباركان علاقتنا وتعدّ السنوات والأشهر لحضور حفل زفافنا.
بدأتُ العمل في مصرف حيث كان لي مستقبلاً لامع، ودبّرتُ لخطيبتي أن تكون إلى جانبي، فهي الأخرى عمِلَت في المصرف نفسه. كنّا نذهب إلى العمل ونعودُ منه سويًّا، وهذا حلم كلّ ثنائيّ. وذات يوم، بحضور زملائنا والمدير، ركعتُ أمام ديما طالبًا يدها رسميًّا وهي قبِلَت وسط تصفيق الجميع. قبِلَت حبيبتي بي وبدأنا بتحضيرات الزفاف.
لكنّ صديقي وزميلي مازن قال لي ذات يوم أثناء استراحة الظهيرة:
ـ هل أنتَ متأكّد مِن قراركَ؟ أعني الزواج مِن ديما؟
ـ ما هذا السؤال؟!؟ بالطبع! فأنا أنتظرُ هذه اللحظة منذ سنوات طويلة. ما بكَ يا صاحبي؟ لا أحد يعرفُ أكثر منكَ مدى حبّي لحبيبتي.
ـ وهل هي تُحبّكَ بالقدر نفسه؟
ـ بل أكثر!
نظَرَ إليّ مازن بتمعّن ثمّ ابتسَمَ وأضافَ:
ـ أدعو لكَ بالتوفيق إذًا.
تزوّجنا وسكّنا بشقّة إشترَيناها بفضل قرض أخذناه مِن المصرف، وسرعان ما حمِلَت ديما بابنتنا الجميلة. كانت فرحتي لا تُقاس وقرّرتُ عدَم إلقاء الحمل كلّه على زوجتي، بل صِرتُ أستفيق وسط الليل لأطعم إبنتنا وأغيّر لها حفّاضاتها. كنتُ سعيدًا بلعب دور الأب كما يفعل الآباء العصريّون وليس كما كانت تجري العادة أيّام أهلي.
لاحقًا، حتى بعدما اكتشفتُ ما كان يجري، لَم آسف ولو للحظة على كلّ الذي فعلتُه مِن أجل صغيرتي، ولا حتى لأخيها الذي ولِدَ بعد سنة واحدة.
كانت قد أصبحَت لنا عائلة جميلة وحياة هنيئة حين عادَ مازن يسألني أسئلة غريبة لَم تُعجبني قط. فهو لمَّحَ لي كيف أنّ إبني الصغير لا يُشبهني بتاتًا، دعابة غريبة لَم أجدها طريفة. إضافة إلى ذلك، سألَني كيف لزوجتي أن تشتري لنفسها سيّارة حديثة وسريعة بينما كنتُ لا أزال أقود المركبة نفسها منذ سنوات. أجبتُه بأنّها أخذَت قرضًا إضافيًّا نحن قادران على إيفائه، وأنّه يحقّ لها أن تُدلّع نفسها بعد حمَلَين مُتتاليَين. أضافَ مازن أنّ ديما لا تبدو له مِن اللواتي تتمتّعنَ بحسّ أمومة مُرهف، فأسكتُّه مهدِّدًا إيّاه بفسخ صداقتنا لو تمادى أكثر مِن ذلك. للصراحة، كلامه الدائم عن زواجي دفعَني إلى الإمتعاض منه ولَم أعد أستمتع برفقته وصرتُ أتفاداه.
لَم تمضِ سنة حتى بدأَت المشاكل، فطلبَني المدير إلى مكتبه وأطلعَني على الشكوك التي تدور حول نزاهة ديما، وأنّ التحقيقات جاريّة، طالبًا منّي حلّ المسألة بطريقة سلسة لتفادي الفضيحة قدر المُستطاع. دافعتُ عن زوجتي وأقسمتُ عاليًا أنّها تتمتّع بأخلاق عالية. عندها ابتسَمَ المدير وقال: " أخلاق عالية؟ هاهاها". لَم أفهم ما قصدَه بذلك فخرجتُ مُستاءً للغاية.
مرَرتُ بمكتب ديما وأخذتُها على الفور إلى البيت لإجراء حديث معها حول الموضوع. هي أنكَرَت بشدّة وأنا صدّقتُها بعد أن اقترحَت أنّ هناك مؤامرة ضدّها كي يوظّفوا مكانها شخصًا يمتُّ حتمًا للمدير بصلة ما. أكّدتَ لها أنّنا سنُعيّن محاميًّا بارعًا وأنّ على بالها أن يرتاح، فلن أسمحَ لأحد أن يمسّ بسمعتها.
لَم تذهب زوجتي إلى العمل في اليوم التالي بل بقيَت في البيت، أمّا أنا، فلَم أُبارح مكتبي لأتفادى نظرات وانتقادات زملائي. لدى عودتي إلى البيت مِن المصرف، كانت ديما قد أخذَت إبننا وهربَت إلى ما وراء الحدود مِن دون إنذار، بل تركَت لي رسالة على طاولة المطبخ تقول: "إبنتكَ عند الجيران. لقد اصطحبتُ معي الولد لأنّه ليس منكَ. لن تراني مُجدّدًا وأنصحُكَ بعدَم التفتيش عنّي. الوداع."
ماذا؟!؟ هل كانت تلك دعابة سيّئة أم مُحاولة مِن زوجتي لتفادي العواقب وتجنيبي الفضيحة؟ أجل، ظننتُ أنّ ديما تُحبُّني لِدرجة أنّها فضّلَت تشوية سمعتها على أن يطالني شيء. فكيف لي أن أصدّق أنّها اعترفَت لي لتوّها بسرقة المصرف وخيانتي بِبضع كلمات مكتوبة على ورقة مُلقاة في المطبخ؟ كانت الحقيقة فظيعة لِدرجة لا تتصوّرونها.
إنتظرتُ أيّامًا عديدة إتصالاً مِن ديما يُطمئنني عنها وعن الولد بعد أن أطفأت جوّالها، لكن مِن دون نتيجة. كنتُ قد سلّمتُ إبنتنا لأمّي مُخترعًا لها حجّة غير مُقنعة. لكن حين استُدعَيت ديما للتحقيق، إضطرِرتُ أن أفصِح عن هروبها.
علِمَ الجميع في المصرف بفرار ديما، فأخذَني زميلي وصديقي مازن إلى أحد المقاهي وقال لي:
ـ حاولتُ تحذيركَ يا صاحبي، وهذا قبل زواجكَ منها.
ـ هل علِمتَ بموضوع اختلاس ديما للمال منذ ذلك الحين؟
ـ بالطبع لا... كنتُ أتكّلم عن علاقاتها العديدة داخل المصرف بدءًا بالمدير.
ـ ماذا؟!؟ كانت تخونني منذ ما قبل الزواج؟
ـ تعرفُ ديما كيف تتدبّر أمورها جيّدًا كي لا ينقصُها شيء.
ـ الآن فهمتُ ما قصدَه المدير منذ أيّام... لا أستطيع تصديق ما يجري... لطالما كانت ديما إنسانة هادئة ومُحبّة وخلوقة. لا بدّ أنّ هناك تفسير منطقيّ لِـ...
ـ كفى خلق أعذار لها! أقولُ لكَ إنّها خائنة وأنا متأكّد مِن أنّ إبنكَ، الذي لا يُشبهكَ بتاتًا، ليس منكَ! ماذا تُريد أكثر مِن ذلك؟ ناهيكَ عن هروبها لتتفادى الملاحقة بشأن اختلاساتها.
ـ سأتركُ العمل هنا، لا أستطيع مواجهة نظرات الجميع... يا إلهي... كيف سأعيش مِن دون إبني؟!؟ أحبُّه يا مازن لدرجة لا تتصوّرها... وأحبّ ديما أيضًا.
ـ حتى بعد كلّ الذي فعلَته؟
ـ لا يستطيع عقلي استيعاب كلّ الذي جرى، فهو مُعتاد على فكرة كون ديما أفضل إنسانة على الإطلاق... كيف سأنساها يا مازن، كيف؟ قلّ لي! وكيف سأعيشُ مِن دونها وإبني؟
قرّرتُ التقصّي عن زوجتي والصغير، وعلِمتُ بعد فترة أنّها تعيش في البلد المُجاور مع رجل في مكان لا يليقُ بها بعد أن صرفا المال الذي سرقَته مِن المصرف.
إنتظرتُها أن تعود إليّ وصمّمتُ على مُسامحتها، لكنّها لَم تعُد وسرعان ما امتلأ قلبي بالكره تجاهها بعدما بدأ عقلي باستيعاب حقًّا ما حصل.
أصبتُ بالإكتئاب، الأمر الذي حال دون عثوري على عمل آخر وصرتُ سريع الغضب. أهملتُ إبنتي الحبيبة ورفضتُ رؤيتها لأنّها تُذكّرني بأمّها، لِذا أبقَيتُها عند أمّي. المسكينة... ما ذنبها بالذي اقترفَته ديما؟
كبُرَت إبنتي مِن دوني بالرغم مِن مُحاولات والدتي تقريبي منها. وبما أنّني لَم أعد قادرًا على تسديد ديوني للمصرف، خسرتُ البيت ورحتُ أسكن في غرفة صغيرة إلى حين نفذَ مالي كليًّا، بعد أن بعتُ سيّارتي. عندها اضطررتُ للّجوء لأمّي والعَيش معها ومع صغيرتي.
حياتي هناك كانت صعبة عليّ وعلى والدتي والمسكينة وكذلك إبنتي، فكنتُ صعب المزاج وأنام طوال النهار وأصرخُ بهما حين أكون مستيقظًا. وعشنا ممّا كان يعطينا إيّاه أخوَتي، الأمر الذي زادَ مِن امتعاضي.
لَم تتحسّن حالتي إلا حين أقنعَتني أمّي أخيرًا بتطليق ديما، فكنتُ حتى ذلك الوقت مُتمسّكًا بالبقاء مُتزوّجًا منها، لأنّ قسمًا منّي كان لا يزال يُحبّها. عدتُ ووجدتُ عملاً في إحدى الشركات التي قبلَت بي بعدما انتشَرَ خبر اختلاس ديما للمال، ولَم يعُد يُريدُني أيّ مصرف خوفًا مِن أن أكون مُتواطئًا معها.
تعلّمتُ أن أحبّ إبنتي مِن جديد وصارَت الأمور شبه عاديّة بيننا، إلا أنّني كنتُ أرى وجه ديما في ملامحها.
لا أزالُ حتى اليوم أحاول استيعاب ما جرى لي، وأنا بحاجة حتمًا إلى مُساعدة طبيب نفسيّ. فكيف لحبّ عظيم أن يتحوّل هكذا إلى مكر وخيانة؟ لستُ أدري.
لَم أسمَع مِن ديما قطّ، فهي اختفَت وابنها مِن الصورة كحبّة ملح في المحيط. كلّ ما علِمتُه هو أنّهما سافرا إلى بلد آخر. هل ستتلاقى دَربانا يومًا؟ الله وحده يعلم ذلك.
حاورته بولا جهشان