بِعتُ نفسي لكي لا أبقى في الشارع

عندما يُسأل المرء عمّا قد يطلبه في حال رَبِحَ ورقة يانصيب يكون غالباً الجواب: سيّارة فخمة أو منزل جميل أو أيّ شيء ثمين ولكن في حالتي كل ما أردتُه هو خادمة. وإصراري هذا ناتج عن ماض أليم سببه إمرأة شرّيرة وجشعة: زوجة أبي.

فبعد أن ماتَت والدتي المسكينة بمرض خبيث عندما كنتُ لا أزال في السابعة مِن عمري ركَضَ والدي ليتزوّج مجدّداً كي لا يبقى وحيداً ولا يتكبّد عناء الإهتمام ببنت صغيرة. ولكنّه لم يحسن الإختيار ربمّا بسبب تسرّعه. وبالرغم مِن توصياته لها بأن تعاملَني بلطف وحنان ووعودها له بأنّها ستعتبرني وكأنّني إبنتها دخَلَت سَلوى حياتنا وبِنيّتها شيئاً واحداً وهو تحويلي إلى خادمتها الخاصة. قد يبدو الأمر وكأنّه إحدى القصص التي تروى للأولاد منذ أجيال عديدة ولكنّ ذلك حَصَل لي فعلاً ودمّرَ باقي حياتي.

في البدء إدّعَت زوجة أبي أنّها تستلطفني وأنّ نواياها حسنة وإبتاعَت لي الألعاب الجميلة وساعدَتني في واجباتي المدرسيّة وإعتقدتُ أنّني وجدتُ فيها الأمّ البديلة خاصة بعد مروري بأوقات صعبة خلال مرض والدتي ووفاتها. ولكن سرعان ما تحوّلَت تلك المرأة إلى وحش لا يردعه شيء خاصة بعدما بدأ أبي يسافر بكثرة بداعي العمل ويتركنا لوحدنا فترات طويلة. وإستغنمَت سَلوى الفرصة لتمارس رعبها عليّ فكانت الإنتقادات والشتائم حتى أن أصبحتُ تحت سيطرتها. حينها قرّرَت أنّ لا داعي أن أقضيَ وقتي على المقعد الدراسي وأنّها ستستفيد منّي أكثر إن بقيتُ في البيت لأقوم بالأعمال المنزليّة بدلاً عنها. وكان عذرها أمام أبي أنّني غير فالحة في المدرسة وأنّها ستعلّمني كل ما عليّ معرفته. وأظنّ أنّ أبي لم يعارض هذا القرار لأنّه لم يكن يريد تكبيد نفسه بأشياء تعيق راحة باله وسير أعماله في الخارج.

وخلال سنين شقائي إنتظرتُ أن يأتي فارس ما وينتشلني مِن واقعي البشع ولكنّني أدركتُ أخيراً أنّ الحياة الواقعيّة لا تشبه بشيء القصص الخرافيّة. لِذا قرّرتُ أن أصبر حتى أن يعود أبي بصورة دائمة ليرى ما يحصل ولكنّه ولسوء حظّي قرّرَ أنّ لا منفعة مِن رجوعه خاصة أنّه تزوّج حيث هو ونسيَ أمرنا.

وأمام غضب زوجته الشديد منه لم أكن قادرة على شيء سوى أن أتحمّل إنتقامها عليّ. ومِن مشاهدتي للتلفاز إستنتجتُ أنّ خلاصي الوحيد هو إيجاد رجلاً قويّاً وغنيّاً يحميني ويعطيني كل ما حُرِمتُ منه بدلاً مِن أن أصمّم على إنقاذ نفسي بنفسي لأنّني كنتُ لا أزال مراهقة تفتقد للتربية الصالحة والإرشادات اللّازمة لبناء شخصيّة قادرة على مواجهة المغريات وتقييم الأمور.

 


وهكذا حين بلغتُ السادسة عشر قرّرتُ الفرار مِن البيت. ولكنّني لم أكن أعلم إلى أين أو إلى مَن أذهب لأنّه لم يكن لَديّ أصدقاء أو حتى معارف وكان أهل أمّي وأبي قدّ تخلوّا عنّي منذ وقت طويل. وبالرغم مِن ذلك الإنعزال فضّلتُ أن أرمي نفسي بالمجهول على أن أبقى مع سَلوى. وفي ذاك ليلة حملتُ حقيبة صغيرة على ظهري وبعض المال كنتُ قد سرقتُه مِن مدخّرات زوجة أبي وخرجتُ مِن البيت دون أن أنظر ورائي.

مشيتُ طوال الليل مِن دون وجهة معيّنة ونمتُ بضعة ساعات في مدخل مبنى شبه خالي حتى أن طلعَ الضوء وأخذتُ أدقّ أبواب الناس وأسألهم إن كانوا بحاجة إلى مَن ينظّف منزلهم. ولكن معظمهم لم يفتح حتى لي والباقي أجابَني بالرفض. وقضيتُ نهاري في الشوارع أتوقّف لأبتاع شيئاً آكله ثمّ أتابع بحثي. وهبطَ الليل مجدّداً ومرّ يوم آخر وليلة أخرى. بكيتُ كثيراً لوحدي في الظلمة وفكرّتُ لبرهة أن أعود لِسَلوى ولكنّني عَدلتُ عن ذلك لأنّني تذكرّتُ أنّني تمنيّتُ مراراً الموت على متابعة حياتي معها. لِذا قرَرتُ ألاّ أستسلم وأمضي في البحث عمّن يقبل بي.

وبعد أربعة أيّام قضيتُها كالمتشرّدة وجدتُ أخيراً الفرصة التي كنتُ أبحث عنها. كنتُ قد قرعتُ باب إحدى شقق مبنى فخم وإذ بِرجل يفتح لي ويقول لي:


ـ لا أريد شراء شيء!

 

ـ لستُ بائعة بل أبحث عن عمل.

 

ـ عن عمل؟ هنا؟

 

ـ أجل... أجيد تنظيف وترتيب المنازل وأنا بحاجة ماسّة إلى العمل... قضيتُ أيّاماً طويلة في الشارع... أرجوك سيّدي...

 

ـ قد أحتاج إلى... إلى مَن يعمل عندي ولكنّني أسكن لوحدي... هل يزعجكِ ذلك؟

 

ـ أبداً... لن تندم سيّدي... أعدكَ بذلك!

 

ـ كم تبلغين مِن العمر؟

 

ـ ستّة عشر عاماً يا سيّدي.

 

ـ م م م... لا تزالي قاصراً... ولكنّكِ جميلة ولا يجب ترككِ في الشارع هكذا... هل يعلم أهلكِ بوجودكِ هنا؟

 

ـ لا يا سيّدي... لا أحد يعلم أين أنا.

 

ـ أدخلي.

 

كنتُ أعلم أنّه أدخَلَني بسبب سنّي اليافع وجمالي ولكنّني لم أكن أدرك طبيعة نواياه تجاهي لأنّني كما قلتُ لم أتلقّى أيّ توجيه مِن أحد. ولكن سرعان ما علِمتُ ما الذي يريده ذلك الرجل منّي ولم أمانع لأنّني كنتُ خائفة ووحيدة وكنتُ قد وجدتُ مكاناً جميلاً أعيش فيه.

وهكذا أصبحتُ عشيقته أنفّذ ما يريده منّي وأحصل بالمقابل على ما أريده منه أيّ اللبس الجميل والمأكل اللذيذ. ولكنّني بقيتُ خادمة بالنسبة له خاصة أمام عائلته وأصدقاءه وبالرغم أنّه لم يعدني بشيء ولم يقل لي يوماً أنّه يحبّني كنتُ أنتظر منه بعض الإحترام العَلَنيّ. والغريب في الأمر أنّني لم أشعر بالخجل مِن الوضع الذي كنتُ فيه ربمّا لأنّني إعتبرتُ أنّ لا خياراً آخراً أمامي وأنّ كل ما كان لديّ هو جسدي وأنّ الحل الوحيد كان إستعماله لأنقذ نفسي.

 


وبعد أقل مِن سنتَين على قدومي قرّرَ عشيقي أن يتزوّج فإستحال بقائي عنده وإحتارَ بما سيفعله بي ليس رأفة بي بل خوفاً مِن أن أبتزّه وأخبر التي سيتزوّجها بالذي فعلَه بي فقرّرَ أن يجد لي مورد رزق"شريف" كما أسماه:

 

ـ لديّ معارف كثر ولا أحد يعلم بطبيعة عملكِ عندي... ستتمكنّين مِن البدء مِن جديد.

 

ـ ولكنّني لا أحسن عمل شيئاً...

 

ـ أصدقائي مدينون لي بالكثير ولن يرفضوا تشغيل مَن ليس له خبرة... سأجد لكِ شيئاً مناسباً قريباً... ولكن عليكِ أن تعديني بألاّ تقولي لأحد ما فعلناه... أسمعتِ؟

 

ـ أجل سيّدي.

 

وبعد أيّام قليلة أعطاني عشيقي بعض المال لأجد مكاناً أعيش فيه وبعثَ بي إلى شركة تجاريّة لأعمل كمساعدة لسكريتيرة المدير لأنّها كانت حامل وكنتُ سأحّل مكانها بعد بضعة أشهر حين تولِد. وخفتُ كثيراً مِن الذي ينتظرني لأنّني شعرتُ أنّني فعلاً أمام وضع صعب جداً فلم أضطر يوماً لإثبات جدارتي. ولكنّ المرأة كانت لطيفة معي وأخذَت تعلّمني كل ما كان عليّ معرفته أي الإجابة على الإتصالات وأخذ المواعيد وإدخال الأوراق للمدير ليوقّع عليها. ووجدتُ صعوبة بأن أتذكّر ما كنتُ قد تعلّمتُه قبل أن تُخرِجني سَلوى مِن المدرسة مثل الكتابة والقراءة ولكنّني إستعَدتُ كل شيء بوقت قصير.

وحين حصلتُ على أوّل راتب لي شعرتُ بقوّة رهيبة وبطعم الحريّة الحقيقيّة وفي تلك اللحظة أدركتُ أنّ ما فعلتُه مع ذلك الرجل كان خطأ. وأخذتُ قراراً بأن أعمل بكدّ للحصول على مالي. وبِفضل هذا الإستعداد الجديد زِدتُ قوّة وتصميماً وطلبتُ مِن السكريتيرة أن تعلّمني إستعمال الحاسوب والإنترنت وكل ما كنتُ أجهله. وأظنّ أن تلك المرأة شعرَت تجاهي بنوع مِن العاطفة ربّما لأنّها كانت ستصبح أمّاً وإعتبرَتني الإبنة التي ستولد لها لأنّها أعطَتني كل وقتها الزائد لِتدريبي.

وحين ذهبَت إلى المستشفى وأخَذَت إجازتها كنتُ جاهزة للعمل مكانها. وكان مديري ممنوناً بي كثيراً وقرّرَ أن يبقيني معهم بصورة دائمة. وها أنا اليوم وبعد مرور عشر سنين على دخولي الشركة أصبحتُ موظّفة فعّالة أجني راتباً محترماً وأعيش حياة جميلة. ولكنّني لم أجلب لنفسي خادمة كما كنتُ أتمنّى أن أفعل فيما مضى لأنّني أعرف معنى التعب والعمل الشاق وما يمرّ به المساكين لإيجاد لقمة العيش. وياليتني علِمتُ بكل ذلك مِن قبل لتّجنبتُ الإذلال الذي مررتُ به حين بعتُ جسدي ولكن ما مِن رجوع إلى الماضي بعدما أصبحَ حاضري جميلاً ومستقبلي واعداً.

لم أجد بعد الحبّ لأنّني مشغولة بِعملي لأضع جانباً ما أستطيع مِن مال لكي لا أحتاج إلى أحد في حياتي. أمّا بالنسبة لِسَلوى فلم أتصل بها أبداً ولا أعرف شيئاً عنها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button