بيتنا في البراري (الجزء الثاني)

أوّل شيء خطَرَ ببالي أنّ رياض زوجي له ضلع بالذي يحصَل لي في القرية. لكن سرعان ما طردتُ تلك الفكرة مِن بالي، فما مصلحته بأن نترُك "بيتنا في البراري"؟

إنتهَت العُطلة وعُدنا إلى المدينة وإلى أشغالنا، وبدأ يكبُر بطني وفرحتي بقدوم أوّل مولود لنا. أقول "أوّل" لأنّني لَم أكن أنوي التوقّف عند ولد واحد حتى إن كان زوجي يُريدُ ذلك. فما المانع؟ كنتُ أملكُ ما يكفي مِن مال لتربية دزيّنة أولاد!

جاءَت فرصة نهاية الأسبوع، وقرّرتُ أنّ علينا قصد القرية بسبب الطقس الجميل الذي سادَ في تلك الفترة ولأنّني أردتُ إكمال تحرّياتي باستجواب أصحاب المحلات القليلين، فهؤلاء يعرفون أشياء كثيرة عن أمور عديدة.

تركتُ زوجي في البيت وركضتُ إلى وسط البلدة، فورًا إلى الجزّار لشراء اللحمة والتحدّث معه قليلاً. وقبل أن أبدأ بالكلام، قالَ لي:

 

ـ أنا آسف لِما حصَلَ لكم.

 

ـ أرأيتَ ما فعلَه البغيضون بأرضنا والشجَيرات؟!؟

 

ـ أتكلّم عن انسداد بئركم الارتوازيّ والذي فاضَ مِن جهة أخرى وأحدَثَ أضرارًا.

 

ـ ماذا؟!؟ وكيف أنسدَّ؟

 

ـ وجَدَ العمّال أحجارًا ضخمة وُضِعَت عن قصد في البئر.

 

ـ عن قصد؟!؟ يا إلهي... مَن الذي يضطّهدُنا هكذا؟ ما الذي فعلناه لأيّ منكم لتُبادلونا بالأذى؟

 

ـ ومَن قالَ لكِ إنّ الفاعل هو مِن القرية؟

 

ـ وكأنّ شخصًا سيأتي مِن المدينة للتخريب ثمّ العودة! إضافة إلى ذلك، ليس لنا أعداء حيث نحن بل أشخاص مُحبّون فقط.

 

ـ إسمعي سيّدتي، قبل انتقالكم إلى هنا، لَم يحصل ولو مرّة أن تعدّى أحد على الآخر، بل نعيشُ في جوّ مِن التفاهم والمحبّة. بالتأكيد تقَع بين الحين والآخر خلافات بسيطة حول حدود أرض أو فقدان رأس ماشية، لكن ليس شيئًا مِن هذا القبيل!

 

ـ قُل لي، هل صحيح أنّ جيراني المُزارعين كانوا ينوون شراء أرض بيتي؟

 

ـ أجل، لكنّهم غيّروا رأيهم قبل مجيئكم بفترة لا بأس بها، واشتروا بعض المواشي بدلاً مِن ذلك.

 

لَم أعرِف المزيد مِن الرجُل ولَم أستفِد مِن معلوماته، لِذا رحتُ على الفور إلى صالون تصفيف الشعر، فكلُّنا نعلَم أنّ المُصفّفين يعرفون كلّ ما يجري بسبب ثرثرة الزبونات في ما بينهنّ. جلستُ على الكرسيّ الخاص بعد غسيل شعري، وسألتُ المُصفّف وهو يعمل على تسريحي:

 

ـ قد لا تراني هنا مرّة أخرى... فليس مُرحّبًا بي في هذه القرية. ألَم تعلَم ما جرى لأرضي وشجَيراتي وبئري؟

 

ـ بلى يا سيّدتي... ولقد غضبتُ كثيرًا مِن ذلك، فأنا أتمنّى لو تأتي إليّ زبونات مِن المدينة، فالموجودات هنا بالكاد تقصنّ شعرهنّ مرّة في السنة! أمّا بالنسبة للتصفيف، فعليّ انتظار فرَح ما كلّ بضع سنوات! هذا ليس مُنصفًا. إسمعي... قالَت لي العصفورة إنّ البيت باسمكِ وإنّ زوجكِ لا يملكُ شيئًا... لا تُسيئي فهمي لكن... أعني، مِن الواضح أنّه تزوّجكِ مِن أجل مالكِ مع أنّكِ سيّدة جميلة. لكن...

 

ـ هل انتهَيتَ مِن شعري؟!؟

 

رحتُ مُستاءة، فما دخل زواجي بالذي يحصل؟ تبًّا لألسنة الناس! ألن يتركوني وزوجي بسلام؟ لماذا لا يتكلّمون عن تلك النساء اللواتي تتزوّجنَ مِن رجُل ثريّ بدلاً مِن تهنئتهنّ؟ مِن جهة أُخرى، عدَم تدخُّل رياض في ما يحصل لي كان بالفعل مُريبًا ويستحقّ البحث والاستفسار. عدتُ أزورُ رئيس القرية مِن أجل سؤاله عن مسألة البئر ولماذا هو لَم يُطلعنا على قضيّة تخريبه مع أنّه يملكُ رقم هاتفنا. لكنّه قال لي مُندهشًا:

 

- لقد خابرتُ السيّد رياض فور معرفتي بالأمر يا سيّدتي، فأنا أقومُ بواجباتي على أكمَل وجه!

 

وشعرتُ فجأة انّني وسط مؤامرة كبيرة يشتركُ فيها زوجي، لكنّني لن أبيعَ "بيتي في البراري" مهما حصل! فسيولَدُ جنيني ويكبرُ ويلعبُ في أرضنا الجميلة وسط زقزقة العصافير!

رجعتُ إلى البيت، ودخلتُه كما لو أنّني أنوي القيام بمعركة حربيّة ضدّ رياض الذي تفاجأ بي أقولُ له صارخة:

 

ـ ما الذي تُخطّطُ له؟ تكلّم! أخفَيتَ عنّي أمورًا كثيرة! أوّلاً قلتَ لي إنّكَ تكلّمتَ مع رئيس القرية ولَم تفعَل، وثانيًا لَم تقُل لي إنّه خابركَ بموضوع تخريب البئر!

 

ـ ما هذا الحديث المُجرّح؟ أوّلاً، لَم أرَ مِن منفعة لإغضاب السكّان بالتحرّي والاشتكاء، لأنّنا جئنا إلى هنا لنعيش أيّامًا سعيدة وهنيئة. وثانيًا، أخفَيتُ عنكِ أمر تخريب البئر لأنّكِ حامل ولَم أشأ إزعاجكِ. ليس هناك مِن نيّة خفيّة، صدّقيني. أعلمُ أنّ وضعكِ الهرمونيّ يحملُكِ على التصرّف بمزاجيّة، إلا أنّ عليكِ التفكير مليًّا بما تقولينه لي، مِن فضلكِ. كلّ ما أفعلُه منذ زواجنا هو مُحاولة إسعادكِ وحسب، مع أنّني لا أنتظرُ منكِ أن تشكرُيني على ذلك، بل على الأقلّ أن تُقدّري مجهودي.

 

ـ أنا آسفة يا حبيبي... أنتَ على حقّ. أظنُّ أنّني سأهدأ عند مجيء المولود. أحبُّكِ كثيرًا وأنتَ تعلَم ذلك جيّدًا، إلا أنّني لا أفهَم مَن يُريدُنا أن نترك هذا البيت وهذه الأرض، فنحنُ لا نُزعجُ أحدًا بوجودنا.

 

ـ إنّه فعل مجنون ما، ثقي بي، فكلّ الناس هنا يُحبّوننا لأنّنا نحترمُ طريق عَيشهم وتقاليدهم. لكن إن استمرَّيتِ بالتقصّي، سيلتفّون جميعًا ضدّنا، ويصير مكوثنا هنا بمثابة جحيم. أتركي المسألة تنحلّ بنفسها.

 

ـ أرجو أن تكون على حقّ.

 

إنتهَيتُ بمعرفة هويّة الفاعل، لكنّني تفاجأتُ كثيرًا بمُلابسات القضيّة على أصعدة مُختلفة. فلَم أتصوّر رياض قادرًا على القيام بذلك ولأسباب مُخالفة تمامًا للصورة التي كوّنتُها عنه!

ففي عُطلتنا التالية، وبينما كنتُ جالسة على شرفة "بيتنا في البراري" الواسعة والمُشمّسة أُغنّي لجنيني لينعمَ في بطني بالراحة التامّة، رأيتُ جارتنا العجوز قادمة إليّ. تحضّرتُ للمواجهة، فتلك المرأة وزوجها كانا صعبا المزاج ولا شيء يُرضيهما على الإطلاق. وبعد أن ألقَت التحيّة عليّ ودعوتُها للجلوس بقربي، قالَت لي:

 

ـ جئتُ لأودّعكِ يا سيّدتي... كَم أنا حزينة لِترك قريتنا الجميلة، لكن حان الوقت، على ما أعتقِد.

 

ـ لِما الرحيل؟!؟

 

ـ أرى أن بطنكِ كبرَ... علّمي طفلكِ حبّ الطبيعة والأرض، أنا لَم أفلَح في ذلك، فلقد رحَلَ أولادنا إلى المدينة عند أوّل فرصة أُتيحَت لهم.

 

ـ هذا ما أفعلُه، إن تركَنا هؤلاء المُخرّبون ننعَم ببيتنا. أرجو أن يكتشِف زوجي الفاعل بأسرع وقت.

 

ـ زوجكِ هو الوحيد الذي يعرفُ الفاعِل، صدّقيني.

 

ـ أنتِ الأخرى تتّهمين رياض!؟ ما بالكُم! هل لأنّه تزوّجَ مِن امرأة ثريّة؟ إنّه إنسان رائع ومُحبّ ولا مصلحة له بتخريب رزقي.

 

ـ رائع بالفعل!

 

ـ لا تتهكّمي، أرجوكِ.

 

ـ أنا لا أتهكّم بل أُثني على أخلاقه العالية.

 

ـ وما تعرفين عن أخلاقه؟ أنتِ بالكاد تبادلتِ بضع كلمات معه.

 

ـ بل هو يزورُنا كلّ يوم حين يكون هنا ويمكثُ معنا وقتًا طويلاً.

 

ـ رياض يزورُكما؟ ولِما يفعل؟

 

ـ أرى أنّه لَم يُخبركِ بالأمر. حسنًا... بما أنّنا راحلان، سأقولُ لكِ ما لا تعرفينه. زوجي هو الذي خرّبَ رزقكِ وبئركِ.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ أجل... إنّه يُعاني مِن خرَف بدأ خفيفًا ثمّ اشتدَّ مع الوقت. أبقيتُ الأمر سرّيًّا لأنّ المسكين كان في ما مضى رجُلاً عاقلاً ومُحترمًا. وهذا ما حمَلَ زوجكِ على مُساعدتنا.

 

ـ لستُ أفهَم.

 

ـ السيّد رياض استنتجَ أنّ زوجي هو الفاعل وجاء يطلبُ منّا الكفّ عن التخريب. ولكن عندما جلَسَ مع المسكين وفهِمَ أنّ عقله ليس صحيحًا، قبِلَ بكتمان القضيّة. سيّدتي... لو تعرفين كيف كان زوجي... الكلّ كان يأتي لاستشارته، وهو ساهَمَ بحلّ خلافات عديدة حصلَت في ما مضى في القرية. ولا يجوز أن يصبَحَ زوجي ذلك الشخص الخرِف الذي يسخَر منه الجميع. لِذا، وحفاظًا على سمعته، قرَّرَ زوجكِ طمس القضيّة بإقناعكِ بالكفّ عن التقصّي، فهو خافَ أن تُدخِلي العدالة بالموضوع وتتلطّخ سمعة رجُل طيّب فقَدَ عقله. ومُقابل صمته، وحفاظًا على بيتكِ وأرضكِ مِن التخريب، أجبرَنا السيّد رياض على رؤية طبيب وإعطاء علاج لزوجي ليُبطئ خرَفه. لكنّ الأطبّاء الذين رأيناهم قالوا لنا إن حالة المسكين بلغَت حدًّا لا رجوع عنه وإنّه، إلى جانب إمكانيّة أذيّة الغَير، قد يصل إلى أذيّة نفسه. لِذا سآخذُه إلى المدينة حيث سنكون بالقرب مِن أولادنا والمشفى، فلا يجوزُ أن يدفع أحد ثمَن مرَض زوجي.

 

ـ يا إلهي... أنا آسفة جدًّا... لَم أتصوّر أبدًا أن يكون زوجكِ في هذه الحالة لأنّه بدا لي صحيح العقل.

 

ـ يحصل أن يكون واعيًا في بعض الأوقات. سامحينا يا سيّدتي، أرجوكِ. وقبل أن أتركُكِ دعيني أُباركِ لكِ.

 

ـ شكرًا، أرجو أن يولَد الجنين صحيح البنية والعقل.

 

ـ قصدتُ مبروك عليكِ بيتنا وأرضنا.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ لقد بعنا لزوجكِ أملاكنا، فهو أكّدَ لنا أنّه سيهتمّ برزقنا جيّدًا. ولأنّه لا يملكُ المبلغ المطلوب، سيدفعُ لنا على أقساط تمتدّ على سنوات. أرادَ السيّد رياض مُفاجأتكِ، لكنّني لَم أقدِر على كتمان السرّ... هـ هـ هـ... فأنا عجوز!

 

بكيتُ بعد رحيل الجارة ، فاتّضَحَ لي أنّ زوجي أروَع مِمّا تصوّرتُ، فهو ستّرَ على العجوز الخرِف حفاظًا على سمعته واشترى بيتًا آخر وأرضًا جميلة ليُفرحَ قلبي وليُثبتَ لي أنّه قادر، وحسب إمكاناته، على شراء مُلك. وحين عادَ رياض مِن وسط البلدة حيث ذهَبَ لشراء الحاجيّات لنا، قفزتُ مِن مكاني وعانقتُه صارخة: "لدَيّ أعظَم زوج في الدنيا!" وبعد ذلك، أخبرتُه عن زيارة العجوز، فاتّفقنا أن نثِق أكثر ببعضنا وأن نعيش بعيدَين عن حكم الآخرين على زواجنا وتركيبته الفريدة. فالحبّ هو ما يجب التركيز عليه وليس المال.

اليوم لدَيّ أربعة أولاد، ونترقّب جميعًا موعد الفرَص والأعياد لنقصد القرية حيث نقضي أجمَل أيّامنا. يهتمّ أهل القرية بالأرض أثناء غيابنا، فهم أحبّونا كثيرًا وصرنا جزءً مِن ذلك المكان الرائع. ولقد قرّرتُ ورياض أنّنا سنعيشُ في "بيتنا في البراري" بصورة دائمة يوم نتقاعد، فلَن نجِد مكانًا أفضل منه في العالم!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button