بماذا أقحَمتُ نفسي؟ (الجزء الثاني)

ثقتي بالنفس الجديدة بانَت أيضًا في مكان عمَلي وبين زملائي، وصرتُ أنظرُ إليهم نظرة فوقيّة وهم خافوا منّي. لَم أعُد ذلك الموظّف الهادئ والذي يكتفي بالقيام بعمَله ويُسرِع بالعودة إلى بيته مساءً، بل بدأتُ أُقدّم لمديري الاقتراحات لتوسيع عمَلنا وحصلتُ على الموافقة شبه الفوريّة. بعد ذلك، حانَ الوقت للإنجاب! في البدء لاقَيتُ حماسًا مِن جانب رنا زوجتي، إلا أنّها صارَت تتضايَق مِن شخصيّتي الجديدة ولامَتني على ثقتي العارِمة بنفسي. ردَدتُ الأمر إلى امتعاضها مِن ابتعادي الطوعيّ عن وائل عديلي وأختها، فلا تنسوا أنّني أبلغتُ عن الرجُل لدى الشرطة ولَم أكن أُريدُ التورّط بأعماله الغامضة.

لكن حدَثَ أن ماتَ صاحب الشركة التي أعمَل لدَيها وأنّ يُقرِّر ورثاؤه إقفال الشركة. وهكذا وجدتُ نفسي مِن دون عمَل، الأمر الذي أتعسَني كثيرًا، خاصّة بعدما حلِمتُ بأن أصبحَ مُديرًا فيها. مِن جانبها، أرجأت زوجتي موضوع الانجاب إلى حين أتمكّن مِن إيجاد مورد رزق يُمكّننا مِن تربية صبيّ أو ابنة. أسفتُ كثيرًا إذ أنّني أردتُ أن أثبتَ لوائل أنّ باستطاعتي إنجاب دزّينة أولاد إن شئتُ. لذلك، حين قالَت لي زوجتي إنّ صهرها مُستعدّ لتوفير عمَل لي في مؤسّسته وجدتُ صعوبة بالرفض. لكن كيف لي أن أكون فردًا مِن عصابة تقومُ بتجارة مُريبة؟ إلا أنّني عدتُ وفكّرتُ أنّها ستكون فرصة ذهبيّة لأجِد إثباتات متينة لإيقاف عديلي عن الذي يفعله. وخُيّلَ لي أنّني جاسوس كالذين رأيتُهم مرارًا في الأفلام لدى الشرطة أو الحكومة، وشعرتُ بأهميّة كبرى. قبِلتُ العرض وبدأتُ العمَل لدى وائل.

 

للحقيقة ذُهلتُ بكبر وفخامة مقرّ عمَله، وذلك دلّ على كمّيّة المال التي كان يتداولها وشركاؤه وراء البحار، هم نفسهم الذين يبعثون له الممنوعات أو يُبيّضون أموالهم مِن خلاله. هكذا إذًا... لكنّني كنتُ لهم بالمرصاد وسيلقون جميعهم جزاءهم الواحد تلوَ الآخَر. شغلتُ مكتبًا جميلاً ومنصب مُراقِب للبضائع، وهو عمَل جيّد ومُريح إذ أنّ لدَيّ عُمّالاً يعرفون مهامهم. لِذا ركّزتُ على نوعيّة وكمّيّة البضائع التي تُغادر المخازن والبلاد، وعمِلتُ نسخات مُزدوجة لكلّ الأوراق لأُعطيها للتحرّي الذي استمَعَ لي حين قصدتُه في القِسم. عادَت العلاقات الوطيدة بيني وبين وائل وزوجته، ما أفرَح زوجتي وأعطاها حافزًا للإنجاب. وبعد فترة قصيرة، أخبرَتني أنّها حامل.

هنّأني وائل وبسمة لعينة على وجهه، لكنّني لَم أسمَح له بإطلاق تعليق ساخر حول الموضوع، فلَم أعُد ذلك الزوج الخجول والضعيف. على كلّ الأحوال، كنتُ الذي سيضحكُ أخيرًا. جمعتُ بعد فترة ملفًّا كبيرًا ضدّ عديلي كان عليّ مُراجعتُه مع خبير في المُحاسبة، لِذا إتّصلتُ بصديق قديم لي ووافَيتُه في بيته حاملاً ملفّي، وقضَينا الليل بأسره نُراجعُ الأرقام. عندها قال لي المُحاسب:

 

ـ لا أرى شيئًا مُريبًا في الأوراق، فكلّ شيء مُبرَّر.

 

ـ يا إلهي... ماذا سأفعَل؟ أنا مُتأكّد مِن أنّ تلك الأعمال مشبوهة، إلا أنّ الرجُل هو مُحترِف وقد أخفى كلّ شيء بتأنٍّ.

 

ـ قُل لي... ما شأنكَ وشأن ذلك الرجُل؟ هل أخَذَ منكَ أموالاً تُريدُ استرجاعها؟

 

ـ لا... بل أخَذَ منّي كرامتي!

 

ـ عليكَ إيجاد دلائل أخرى، أنا آسف... لِما لا تُراقِب المُستودع، فقد تجد ما تبحث عنه.

 

يا للفكرة المُمتازة! ركضتُ أطلبُ مِن عديلي نقلي إلى المُستودعات، مُدّعيًا أنّ عمَلي في المكتب مُملّ للغاية وأنّني بحاجة إلى حركة أكثر. هو لَم يُمانع، الغبيّ! فهكذا يقَع أكبَر المجرمون: يظنّون أنفسهم أذكى مِن غيرهم! سنرى يا وائل مَن الذكيّ بيننا!

 

وُلِدَ ابني وعمَّت الفرحة، إلا أنّني لَم أرَه كثيرًا بسبب انشغالي بالمُستودعات، فكنتُ قد طلبتُ العمَل ساعات إضافيّة بحجّة جمع المال مِن أجل طفلي. لَم يشكّ أحد بشيء وسُرِرتُ لذلك. إلا أنّ غيابي الدائم حمَلَ رنا على الانتقال للعَيش مع أختها ووائل، وصرتُ أوافيها مِن وقت لآخَر إلى ذلك البيت لأطمئنّ على عائلتي الصغيرة. لَم أُبالِ بالأمر، فكان وائل سيدخلُ بفضلي السجن قريبًا ويعودُ كلّ شيء كما في السابق.

مرَّت الأشهر بسرعة فائقة وثمّ السنة، ولَم أكتشِف شيئًا أستطيع استعماله كدليل ضدّ عديلي، وصِرتُ إنسانًا غاضبًا وكريه المزاج أصرخُ على زوجتي وابني كلّما رأيتُهما. هدّدَتني رنا بالطلاق وأخذ ولَدي منّي فضحكتُ عاليًا بوجهها. وهي نظرَت إليّ بتعجّب كبير وسألَتني باكية:

 

- أين الرجُل اللطيف والمُحبّ الذي وقعتُ في غرامه وتزوّجتُه؟!؟

 

وأدركتُ في تلك اللحظة أنّني سأفقدُها وابني لِذا رحتُ باكرًا القسم وطلبتُ رؤية التحرّي لأمر مُستعجِل. وهو قالَ لي:

 

ـ أراكَ لا تزالُ مُصرًّا على تلك المسألة.

 

ـ أكثر مِن قبل، أكثر مِن قبل. هل لدَيكم أيّ جديد؟

 

ـ لقد تحرَّينا عن المدعو وائل ولَم نجِد شيئًا سيّدي، فأعماله كلّها قانونيّة.

 

ـ هذا ليس صحيحًا! أنا مُتأكّد مِن أنّه يقوم بأشياء مُريبة! إسجنوه!

 

ـ ما تقوله لا أساس له على الاطلاق وأنصحُكَ بنسيان الموضوع... إضافة إلى ذلك، لدَينا قضايا مُهمّة ولا وقت لدَينا للتصوّرات. وداعًا سيّدي.

 

هل يُعقَل أن يكون وائل قد أقنَعَ المُحقّق بالانضمام إليه وبدفع المال له مُقابل غضّ النظر عنه؟!؟

في اليوم نفسه، علِمت مِن المسؤول عن الموارد البشريّة في شركة وائل أنّني فُصِلتُ. إنتابَني غضب عارم فركضتُ إلى مكتب عديلي وصرختُ في وجهه:

 

ـ أيّها الماكِر! تفصُلني؟ هل تخالُ أنّني سأخافُ منكَ وأتراجَع؟!؟ أعرفُ حقيقتكَ وسأفضحُكَ أمام العالم أسره!

 

ـ أيّ حقيقة تتكلّم عنها؟ حقيقتُكَ التي صنعتَها بنفسكَ؟ سأُخبرُكَ عن حقيقتي، وأنصحكَ أن تفتحَ أذنَيكَ جيّدًا وخاصّة عقلكَ الضيّق الذي سكنَته الغيرة. الحقيقة، يا صاحبي، أنّني إنسان ناجح، على خلافكَ. أنا إبن مُزارع بسيط عمِلَ طوال حياته ليؤمِّن لي الفرصة للتعلّم وأنا شاكر له حتى مماتي. أمّي كانت تُسانده بالعمَل في بيوت أغنياء البلدة، الأمر الذي أعاقَ جسدها الهشّ، لكنّني أوفِّر لها اليوم الراحة الجسديّة والمعنويّة كعربون شكر لها. إنطلقتُ في مجال العمَل أثناء دراستي الجامعيّة، وفي بالي خلق فرَص عمَل للذين هم فقراء، ولقد وفّقَني الله في ذلك إذ أنّه أعطاني الرؤية والاصرار والقوّة للوصول إلى هدفي. وسَّعتُ تجارتي إلى ما وراء الحدود ولاحقًا البحار، ولَم أتعَب أو أيأس حتى حين كنتُ أُلاقي الصعوبات. خسرتُ أحيانًا مبالغ كبيرة لكنّني استعدتُها بسرعة، بخلق طرق جديدة وسبُل مُختلفة للوقوف على رجلَيّ مُجدّدًا وكَي لا أخذِل مَن يعملون لدَيّ. وجدتُ زوجة صالحة أنجبتُ منها أولادًا سيواصلون عمَلي مِن بعدي، لأنّني لقّنتُهم القدرة على المُساعدة والمُشاركة والابتكار وما هو أهمّ، العمَل بشرَف وضمير.

 

ـ شرَف وضمير؟!؟ دَعني أضحَك!

 

ـ إضحَك قدر ما تشاء، ففي آخر المطاف أنتَ سجين غيرة تأكلُكَ مِن الداخل، لأنّكَ تُدرِك في صميمكَ أنّك إنسان صغير وستبقى صغيرًا.

 

ـ كفاكَ إهانات!

 

ـ إنّها الحقيقة. فأنتَ حصلتَ في صغركَ على جميع الفرَص وماذا فعلتَ بها؟ إختَرتَ الطريق السهل لأنّكَ كسول وعديم الطموح. إكتفَيتَ بالذي أنتَ فيه لأنّكَ لا تحبّ مُشاركة ما لدَيكَ بل فقط الشعور بالغبن والظلم. لا أشكّ بحبّك لِرنا، لكنّكَ تُحبّ نفسكَ أكثر. ويوم ساعدتُكَ في مصاريف زفافكَ، لَم أتوقّع أو أطلب أي مُقابل، بل كنتُ أُفرِحُ قلب أخت زوجتي وآملُ أن أكون وأنتَ صديقَين.

 

ـ بل أردتَ تحجيمي!

 

ـ بالعكس! كانت يدًا ممدودة لكَ.

 

ـ لقد طلبتَ منّي بالمُقابل استضافة صديقَيكَ المهرِّبَين وإقحامي بمشاكل جسيمة!

 

ـ هذان الرجُلان هم شخصان مُهمّان في بلدهما، ولقد فرّوا مِن اضطهاد حكومتهما لهما، وعمِلتُ على أن يحصلا على حقّ اللجوء في بلدنا. لكنّ الأمر يتطلّبَ السرّيّة التامة وبعض الوقت لِذا لَم تجهز أوراقهما بسرعة، ودخولهما البلد سرًّا لفَتَ انتباه الشرطة. لكنّهما صارا شرعيَّين الآن ولا أحد يهتمّ لأمرهما قانونيًّا.

 

ـ والطرد الذي وصلَني؟!؟

 

ـ إنّها هديّة لزوجتي قادمة مِن إفريقيا... عقد مُرصّع بالماس صمّمتُه بنفسي لها وأردتُه أن يبقى سرًّا، فخفتُ أن يعرفَ أحد به قبل موعد عيد ميلادها. لقد وثقتُ بكَ، خطأً. أعلمُ أنّكَ قصدتَ الشرطة بشأن ذلك، ولَم أتوقّف عن مُساعدتكَ بل أمّنتُ لكَ وظيفة حين أقفلَت الشركة التي تعمَل لدَيها. وأعلَمُ أنّكَ حاولتَ إيجاد أيّ شيء بإمكانه إحداث الضرَر لي في أوراقي ومستودعي. لكن حين خابرَني قبل ساعات تحرّي قسم الشرطة ليُطلعَني على جنونكَ، طفَحَ كَيلي منكَ وقرّرتُ فصلكَ.

 

ـ هو اتّصَلَ بكَ؟!؟ كنتُ على حقّ! الشرطة تعمَل لدَيكَ!

 

ـ بل صرتُ أعرفُ التحرّي شخصيًّا، بعدما طلبَني مرارًا إلى القسم بسبب شكواكَ ضدّي وبعد أن فهِمَ أنّكَ إنسان مريض! لَم أقبَل عرضه برفع شكوى قدح وذمّ بحقّكَ، الأمر الذي حملَه على إحترامي أكثر. إسمَع... ما تفعله أنساكَ أنّ لدَيكَ عائلة الآن وأنتَ على وشك أن تخسرها، صدّقني. لن أتدخّل مِن أجلكَ بعد الآن، أنتَ لوحدكَ منذ اليوم وصاعدًا. أنصحُكَ بنزع تلك الغيرة مِن قلبكَ والعمَل على مُصالحة نفسكَ. تُريدُ أن تكون مثلي؟ إفعَل ما فعلتُه أنا! فليس لدَيكَ عمَل وزوجتكَ لَم تعُد تُحبّكَ وابنكَ يكبر مِن دونكَ. لقد دمَّرتَ نفسكَ بنفسكَ، ومِن إنسان صغير صِرتَ نكرة ولَم تكبُر إلا حين شعَرتَ أنّكَ تغلّبتَ عليّ، لكنّ الوهم لا يُعطي القوّة بل فقط المزيد مِن الوهم. وداعًا يا صاحبي.

 

في البدء لَم أصدِّق كلام وائل بل ثرتُ عليه ولعنتُه. لكن مع الوقت، وجدتُ أن ما كنتُ مُتأكّدًا منه كان مُجردّ خيال وتصوّر. للحقيقة، لَم أستمتِع ولو بيوم بزواجي مِن التي أحبَبتُها، أيّ منذ زفافي الذي سدَّدَ عديلي ثمنه. كان بإمكاني رفض مساعدته أو العمَل على إعادة المال له لكنّني اخترتُ مُحاربته وتصغير حجمه أمام الجميع وتدميره عند الشرطة والعدالة. بالفعل لَم تعُد رنا تُحبُّني فلَم أكن زوجًا صالحًا لها أو أبًّا جيّدًا لابني. يا إلهي، لقد دمّرتُ نفسي وليس وائل وعليّ تحمّل تداعيات أفعالي.

رحتُ أسكنُ لفترة عند أهلي لأجمَع أفكاري التي صارَت مُشتّتة. بعد ذلك، فتّشتُ عن عمَل مُصمِّمًا على التعَب مِن أجله لأتفوّق فيه كما فعَلَ عديلي قبلي. لَم يكن الأمر سهلًا لكنّني لَم أستسلِم، الأمر الذي أعطاني القوّة على مواجهة زوجتي، والاعتراف لها بذنوبي والطلَب منها العودة إليّ. إلا أنّها رفضَت لكنّني لَم أستسلِم بل بقيتُ أُثابِر وأُثابِر إلى حين هي رأَت كَم أنّني جدّيّ بوعودي بالتغيّر.

اليوم أنا زوج سعيد وأب صالِح لابني... ولأولادي الباقين الذين وُلِدوا لاحقًا. وما هو أهمّ، أنّني صرتُ شريك وائل في تجارته، فهو أعطاني فرصة ذهبيّة لإثبات نفسي. يا له مِن إنسان عظيم، فهو لَم يتخلَّ عنّي بل دفعَني إلى البحث عن الأفضل فيّ، بعيدًا عن الغيرة الحقيرة التي سكنَت قلبي والتي كانت عُذرًا لقلّة طموحي وتحمّلي المسؤوليّة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button