لم يعد يهمّني شيء أو أحد بعد موت نبيل خطيبي. كنّا قد أنهينا تحضيرات الزفاف، عندما لقيَ حتفه في حادث سيّارة. وعندما أخبروني بما حصل، شعرتُ بأنّ الحياة كما أعرفها إنتهَت. وعزلتُ نفسي عن العالم وإمتنعتُ عن الطعام حتى أن ساءَت حالتي الصحيّة والنفسيّة ونقلوني إلى المستشفى. هناك حاولوا إقناعي أنّ ما أفعله بنفسي ليس صائباً وأنّ عليّ أن أنسى حبيبي. وبعد أن تحسّنتُ وخرجتُ من المستشفى، عدتُ إلى كل ما يذكّرني بنبيل. وقبل أن يتسنّى لي أن أترك نفسي أموت قرّر أهلي أن يرسلوني إلى خارج البلاد.
وهكذا وجدتُ نفسي على متن طائرة تقلّني عند خالتي في فرنسا، لأنني أجيد الفرنسيّة ولطالما كان بودّي أن أزور برج إيفل وقصر فرساي. هناك إستقبلوني بحرارة وخصّصوا لي غرفة جميلة لها شرفة مطلّة على الشارع الرئيسي. وعندما كانت خالتي وزوجها يذهبان إلى عملهما وأولادهم إلى مدارسهم، كنتُ أقضي وقتي على تلك الشرفة أتفرّج على المارة وأطعم الحمام. وأعترف أن سفري إلى خارج بلدي، أفادني فهناك إبتعدتُ عن الأماكن التي كنتُ أقصدها مع خطيبي والناس الذين كنّا نعرفهم. فبدأتُ أسترجع قواي الجسديّة والنفسية وأستذوق جمال تلك المدينة الرائعة. وفي ذات يوم وأنا جالسة على الشرفة، رأيتُ شخصاً يركب درّاجة هوائيّة آتياً من بعيد وسيّارة مسرعة قادمة في الإتجاه المعاكس وقبل أن يتسنّى لي أن أصرخ للدرّاج بأن ينتبه، كانت السيّارة قد صدمَته وألقَت به بعيداً. قفزتُ كالمجنونة من على الكرسي ونزلتُ السلالم بِسرعة فائقة وخرجتُ على الطريق.
كان قلبي يدقّ بسرعة خشية من أن يكون قد لقِيَ المسكين حتفه. ركضتُ إليه وركعتُ قربه أحاول معرفة حالته بينما بدأت الناس تتجمّع. رأيتُ دماً يخرج بكثرة من فخذه، فكبستُ عليه بقوّة لإيفاف النزيف. ثمّ صرختُ للمارّة بأن ينادوا سيّارة إسعاف ومسكتُ بيدي الثانية يد الرجل قائلة:
- لا تخف... الإسعافات قادمة... أنا هنا... لن أترككَ...
وبعد دقائق جاءت سيّارة الإسعاف وذهبتُ معه إلى أقرب مستشفى. هناك أدخلوه غرفة الطوارئ ثمّ العمليّات وأنا بقيتُ أنتظر خروجه. في هذه الأثناء إتّصلتُ بخالتي وأخبرتها بما حصل وأنّني سأبقى لأطمئنّ على الجريح. ولكنّها قالت لي:
- حبيبتي... عودي إلى المنزل... ماذا لو مات؟ لا أظنّ أنّكِ تستطعين تحمّل هذا... ما زلتِ ضعيفة...
- لن يموت! أنا أكيدة من ذلك! لن أبارح مكاني!
وأقفلتُ الخط بغضب. ولكن بداخلي كنتُ أخشى أن يموت الدرّاج تحت العمليّة، فكانت إصابة بالغة وكان قد فقدَ كميّة كبيرة مِن الدم. فأخذتُ أصلّي من أجله. ودام إنتظاري ساعات طويلة، ثمّ خرج الطبيب وبعد أن سأل من أكون قال لي:
- عملنا اللازم... سننتظر حتى مرور 24 ساعة لنعرف حقيقة وضعه... وجدنا معه أوراقه الثبوتيّة ونعمل على إيجاد أقاربه... تقولين أنّكِ لا تعرفين شيئاً عنه؟
- للأسف لا... كنتُ على الشرفة عندما حصل الحادث... لا أعرف سوى أنّه كان يقود درّاجته عندما أتت سيّارة... هل تمّ القبض على السائق؟
- لا أعلم... هذا شأن الشرطة. أتركي لنا عنوانكِ ورقم هاتفكِ وسنتصّل بكِ عندما يستفيق.
- لا... لا داعي لذلك فأنا باقية هنا.
- هذه إجراءات قانونيّة فأنتِ من جلبه إلى هنا.
- حسناً.
وذهبتُ إلى مكتب الدخول وأعطيتهم عنوان خالتي ورقم هاتفها ورقمي الخاص، ثمّ رجعتُ إلى مكاني بإنتظار المستجدّات. مرّت ساعات طويلة وكان الليل قد هبط حين خرجَت ممرّضة من غرفة العناية الفائقة وقالت لي:
- المريض بحالة جيّدة... إستقرَّت حالته... هل أنتِ زوجته؟
- لا... أنا صديقة مقرّبة جدّاً...
- يمكنكِ الذهاب الآن.
- هل أستطيع رؤيته ولو لدقيقة واحدة؟ أعدكِ بأن أرحل فور خروجي.
- حسناً... ولكن لدقيقة أو إثنتين على الأكثر فهو ضعيف جدّاً!
ودخلتُ غرفة العناية بعدما ألبسوني ثياباً معقّمة وتوجّهتُ إلى سريره. كان المسكين في حالة يرثى لها، محاطاً بأسلاك وماكينات. جلستُ على الكرسي الموضوع إلى جانبه ومسكتُ يده. وفي تلك اللحظة فتحَ عيونه ونظرَ إليّ بتعجّب ثمّ إبتسمَ لي وهَمَسَ:
- هذا أنتِ...
- أجل... قلتُ لكَ أنني لن أترككَ وبقيتُ على وعدي... هيّا عُد إلى النوم الآن.
أغمضَ الرجل عيونه وغرق بالنوم بلحظة. عندها تركتُه يرتاح. شكرتُ الممرّضة وسألتُها قبل أن أخرج:
- ما إسم المريض؟
- ظننتكِ صديقته المقرّبة!
- لا... أنا التي جلبَته إلى هنا بعد وقوع الحادث... كذبتُ عليكِ خوفاً من أن تطرديني... سامحيني...
- إسمه نبيل.
عند سماع إسمه شعرتُ بضيق نفس وخرجتُ مسرعة من المستشفى. جلستُ على جانب الطريق أحاول حبس دموعي. نبيل... إسم خطيبي المتوفّي... يا للصدف... أبعدوني من بلدي وأرسلوني إلى مكان يبعد آلاف الكيلومترات لأقع على نبيل آخر... ولم يكن هذا الرجل فرنسيّاً بل عربيّاً أيضاً... من كل الدرّاجين في فرنسا حصل الحادث معه هو بالذات وأنا التي أنقذته! وفي تلك اللحظة إنتابني خوف شديد. ماذا لو مات الدرّاج هو أيضاً؟ هل يكون هذا بسببي؟ هل أجلب الموت لهؤلاء الرجال؟ طردتُ كل تلك الأفكار السخيفة من رأسي وعدتُ إلى منزل خالتي ورويتُ لهم ما حصل. ذُهلوا عندما علموا بأنّه عربيّ وإسمه نبيل وقالَت لي خالتي:
- لا داعي للذهاب إلى المستشفى مجدّداً فحالته مستقرّة الآن.
- أريد أن أراه... مرّة واحدة بعد... أن أتكلّم معه... أن يخبرني عن نفسه قليلاً ومن ثمّ سأتركه وشأنه.
لم أنم أبداً تلك الليلة، لأنّني كنتُ أنتظر طلوع الشمس لأزور مريضي وأطمئنّ عليه. وعندما دخلتُ غرفته وجدتُ إلى جانبه إمرأة شابة ترتّب له وسادته. عندما رأتني نظرَت إليّ بتعجّب فأسرعتُ بالقول:
- أنا التي جلبته إلى هنا... أهو بخير؟
- أجل... أنا زوجته... قالوا لي أنّكِ لم ترافقيه وحسب بل أوقفتي النزيف... لولاكِ...
وبدأت بالبكاء. ركضتُ إليها وأخذتها بذراعيّ وقلتُ:
- لا داعي للبكاء فهو لم يعد بخطر. أظنّ أنّ القدر شاء أن أتواجد بذلك المكان وأشاهد الحادث... الحياة غريبة... يموت البعض ويعيش البعض الآخر...
- ماذا تقصدين؟
- مات خطيبي منذ أقلّ من سنة في حادث سيّارة... كان إسمه نبيل...
- من أين أنتِ؟
- أنا من لبنان
- زوجي لبنانيّ أيضاً... تعرّفتُ إليه عندما جاء إلى فرنسا لينال شهادة الدكتوراه وتزوّجنا... لن أشكركِ كفاية...
ثمّ إستفاق نبيل وعندما رآني إبتسم لي وقال:
- شكراً...
ثمّ إبتسم لزوجته التي حضنَته بحبّ وحنان. تركتهما لوحدهما وخرجتُ سعيدة من المستشفى. وبعد فترة قصيرة قررتُ العودة إلى بلدي. تلك الحادثة أعادت لي الأمل في الحياة وإعتبرتُ إنقاذي للدرّاج إنتصار على موت خطيبي. ودّعتُ خالتي وعائلتها وطرتُ إلى بيروت حيث كان الكل بإنتظاري. مرّ حوالي الشهر عندما تلقّيتُ إتّصالاً مِن نبيل الدرّاج فرّحَ قلبي. كان قد أخذَ رقمي مِن المستشفى وسألني إن كان بإمكانه أن يبقى هو وزوجته على إتصال بي. وبالطبع قبِلتُ عرضه. وهكذا بدأنا نلتقي تارة في فرنسا وتارة في لبنان وعندما أنجبا طفلتهما الأولى طلبا منّي أن أكون عرّابتها وبهذا أصبحان أكثر مِن أصدقاء. أصبحنا عائلة واحدة.
حاورتها بولا جهشان