ما حصل لي في إحدى الليالي أشبه بفيلم سينما، وما مررتُ به لا يزال يبعث في قلبي الخوف والقلق.
أنا فتاة عاديّة لا يحصل لها شيئاً مميزاً، بل بالعكس حياتي يسيطر عليها الروتين والملل. كنتُ أحسد رفيقاتي في المدرسة على تنوّع أيامهنّ، فكانت تذهبنّ في رحلات وسهرات ولكلّ واحدة منهنّ صديق. أما أنا، فكان ممنوعاً عليّ التحدّث إلى فتى مهما كان. صحيح أنني كنتُ لا أزال في السابعة عشر من عمري ولكنني لم أكن أعرف شيئاً عن الحياة الحقيقيّة لكثرة تشدّد أهلي. وأظنّ أنّ هذه البراءة الواضحة على وجهي وفي تصرّفاتي، هي التي جذبَت إليّ من ورّطني بالمشاكل التي حصلَت لي. فالأناس الشرّيرين، يبحثون عن فتيات مثلي للإيقاع بهنّ ويبتعدون عن اللوات تكون واعيات.
وفي بداية السنة الدراسيّة، جاءت هنادي إلى صفّي. كانت جميلة وجذّابة، تضع سرّاً المساحيق على وجهها وتتمتّع بثقة بالنفس واضحة. كلّ البنات كانت محسودة منها وكل الشبان أعجبوا بها لدرجة أنّها أصبحَت محط حديث الجميع. وفوجئتُ كثيراً بإهتمام هنادي بي، فلم أكن أشبهها بشيء، لبَل كنتُ عكسها تماماً. ولا أخفي أنني كنتُ فخورة أن تتحدّث معي أنا وتجلس معي خلال الإستراحات. ثم دعَتني إلى منزلها لأكل الحلوى التي تحضّرها أمّها وقبِلتُ بسرور لأرى أين وكيف تعيش مخلوقة عظيمة مثلها. وأُبهرتُ بكثرة التحف والسّجاد والأثاث المحفور يدويّاً التي تملأ بيتها وببركة السباحة التي كانت تتوسط حديقة ضخمة. وإستغربتُ أن أناس بهذا الثراء يرسلون إبنتهم إلى مدرسة عاديّة جداً بدل من تلك المؤسسات الخاصة ذات شهرة عالميّة. ولكنني لم أقابل والديها ولا أحداً من عائلتها وعندما سألتُها عنهم، قالت لي أنّهم ذهبوا برحلة إلى مالطا لبضعة أيّام. يا للحياة الجميلة... وفي اليوم التالي أخبرتُ الجميع في المدرسة عن زيارتي لها ولكنني لم أقل شيئاً لأهلي، لأنني كنتُ أعلم أنّهم لن يحبّذوا معاشرتي لها. وأصبحنا أعزّ الصديقات ولكن كانت دائماً لها تحفظّات بشأن ملابسي وشكلي عامة. فعرضَت عليّ مرافقتي لشراء ملابس جديدة. أجبُتها أنّ والديّ لن يعطوني المال فضحِكَت وقالت:
- لا تخافي... تكاليف إعادة تأهيلكِ عليّ... أنا فتاة ثريّة ولن يؤثّر ذلك على مصروفي... لا تقلقي...
وذهبنا للتسّوق وإشترَت لي أشياء جميلة لم أحلم يوماً بإقتناءها. ولكنني خبأتُ مشترياتي عن الجميع بوضعها تحت فراشي وكأنني أخبئ شيئاً كنتُ قد سرقته. وعندما إشتكيتُ لهنادي لعدم إرتدائي فساتيني الجديدة قالت:
- سآخذكِ معي حيث يمكنكِ لباسها.
وفعلتُ ما تفعله فتيات كثر في مثل سنّي، أي كذبتُ على أهلي وتحجّجتُ أنني ذاهبة للدرس عند صديقتي وتوجّهتُ أنا وهنادي إلى ملهى ليلي، بعد أن غيّرتُ ملابسي عندها في البيت. ودخلتُ عالم الليل وذهِلتُ بالأصوات الصاخبة والأضواء المُبهرة والرقص والشرب. ولاحظتُ أنّ صديقتي كانت معتادة على الذهاب إلى أماكن مماثلة، فكانت تعرف الكل، من النادل، إلى صاحب الملهى وتناديهم بإسمهم. عرّفتهم عليّ قائلة: "هذه فتاتي الجديدة" فرحّبوا بي بحرارة. أمضينا سهرة مسليّة جداً ثم عدتُ إلى بيتها ولبستُ ثيابي العاديّة ورجعتُ إلى المنزل. لم يلاحظ أحد شيئاً، لذا أصبحتُ أذهب كل أسبوع مع هنادي إلى سهراتها الممتعة. لم يحدث شيء يُلحظ سوى أنني كنتُ أستمتع بوقتي هناك وخلتُ أن الأمور ستبقى هكذا ولكنني كنتُ مخطئة. الآن بعد أن كبرتُ وحدثَ لي هذا أعرف أنّ لا شيء يأتي مجاناً وأنّ هكذا أشخاص لهم دائماً غاية لما يفعلونه. ولكنني تعلّمتُ هذا بعدما كدتُ أن أدفع الثمن غالياً.
ففي أحد الأيّام، طلبَت مني هنادي أن أذهب إلى صديقة لها وآتي لها من عندها بكيس وطلبَت منّي ألا أفتحه، لأن الأمر خاص بهذه الصديقة. وعدتُها بأنني لن أحاول معرفة ما في الكيس وأخذتُ العنوان منها وذهبتُ إلى شقّة في الطابق السادس من مبنى قديم. ولم يكن هناك مصعد، فأخذتُ أصعد الطوابق الواحد تلو الآخر حتى أن وصلتُ أخيراً. فتحَت لي إمرأة في العقد الخامس من عمرها وعندما قلتُ لها أنني آتية من قِبَل هنادي صرخَت: "منى! يا منى! جاء المرسال!". وظهرَت فتاة من عمري وأعطتني كيساً، ثم عادت من حيث أتَت. وبعد أن شكرتُ السيّدة نزلتُ السلالم كما صعدتُها. وعندما وصلتُ إلى الطابق الثالث فُتِحَ باب شقة ورأيتُ رأس رجل في السبعين من عمره يمتدّ من خلف الباب ويقول لي:
- ألن تدَعونا بسلام؟ ألم تكتفوا بعد؟ لو إستطعتُ لتركتُ بيتي وإبتعدتُ عن هذا المكان المشؤوم! تباً لكِ ولأمثالكِ!
أردتُ الإجابة ولكنّه أقفل الباب بقوّة. ورغم أنّه كان من الوضح أنّه خالني شخصاً آخراً أو أنّه بكل بساطة مصاب بالخرف، لم أكن مسرورة أن يتكلّم أحد معي هكذا. أعطيتُ الكيس لهنادي وأخبرتُها بالذي حدث وقالت لي أنّ الرجل حتماً مجنوناً وطلبَت مني عدم التفكير بالموضوع. وبعد فترة قصيرة عادت صديقتي تطلب منّي الذهاب إلى تلك الفتاة، فإستغربتُ للأمر وسألتُها عن محتوى الأكياس. أجابتني:
- صديقتي فتاة فقيرة جداً وهي تصنع الزيوت والصابون والمواد التجميليّة وتعطيني إياها لأبيعها لمعارفي. أنا أفعل هذا من أجلها ومن أجل والدتها التي تعاني من مرض خبيث. إذا كنتِ لا تريدين مساعدة أناس فقراء فهذا من حقّكِ...
- لا... لا... أريد المشاركة.
وتوجهتُ إلى ذلك العنوان وصعدتُ السلالم ولكن عندما وصلتُ قرب باب الرجل المختل فتحَ فجأة بابه وصرخَ:
- رأيتكِ من النافذة! قلتُ لكِ أن تكفّي أعمالكِ هذه!
ومسَكَني بذراعي وأخذَني إلى الداخل وأقفلَ الباب وراءنا. ولشدّة خوفي بدأتُ بالصراخ ولكنني سكتتُ عندما سمعتُ أصوات أقدام على السلّم وأناس كثر يتهامسون. نظرتُ من منظار الباب ورأيتُ عدد كبير من رجال الشرطة منتشرين في كل أنحاء المبنى. سألتُ العجوز:
- ماذا يحصل؟
- طلبتُ البوليس عندما رأيتُكِ آتية وأتوا بسرعة لأنّهم يراقبون المبنى بإستمرار. ستنالين جزاءكِ أنتِ وشركائكِ!
- ولكنني لم أفعل شيء! لماذا طلبتَ الشرطة؟
- لوضع حدّ لتجارة المخدّرات التي تجري منذ فترة هنا.
- أنتَ مجنون! هل تخال أنني أفعل هذا؟ جئتُ لآخذ كيساً من المستحضرات لصديقة.
ضحِكَ ثم طلبَ منّي أن أفتحَ الكيس ورأيتُ مستوعبات مليئة ببودرة بضياء. عندها فهمتُ أنّه تمّ إستغلالي وسألتُ العجوز ما كان ينوي فعله بي. أجابني بعدما فتحَ الباب قليلاً:
- أرى أنّكِ لم تكوني على علم بشيء... إذهبي ولا تعودي أبداً... سأقول أنني وجدتُ المخدّرات على الأرض. هيّا! إركضي قبل أن تراكِ الشرطة!
ركضتُ كما لم أفعل بحياتي وذهبتُ إلى البيت لأبكي في غرفتي. في اليوم التالي لم تأتِ هنادي إلى المدرسة ولا في أيّ يوم آخَر. وعندما مررتُ قرب منزلها، رأيتُ الشبابيك والستائر مقفلة. لم أعلم إن كانت قد هربَت، أم أنّه تمّ القبض عليها. لم أرها أو أسمع منها منذ ذلك اليوم. لم أخبر أهلي بما حصلَ لي إلا بعد سنين طويلة.
حاورتها بولا جهشان