بخل زوجتي أوصلَنا إلى مصيبة كبيرة

لن أنسىَ فضل سهام زوجتي التي أوصَلتني إلى ما حيث عليه مِن ثراء ونفوذ ولكنّني لا أستطيع القول أنّ ما فعَلَته أسعدَني بل بالعكس أوقَعَني في حزن عميق سَكنَ قلبي حتى الآن.

كل شيء بدأ عندما تعرّفتُ إلى سهام خلال حفل عيد ميلاد إبن عمّي وكانت قد دُعيَت إلى تلك المناسبة لأنّها كانت جارتهم وصديقتهم. وحين رأيتُها شعرتُ بالحاجة إلى التكلّم معها ولكنّني لم أفعل بسبب فقري الذي لم يكن يسمح لي بإقامة أيّة علاقة مع أحد. لذا بقيتُ في مكاني وإكتفَيتُ بالنظر إليها وهي ترقص وتضحك مع المعازيم. ولكنّها هي أيضاً قد أُعجِبَت بي وسألَت عنّي وأوصَلت لي خبراً بأنّها تودّ أن تتعرّف إليّ. فوجئتُ لهذا الكمّ مِن الجرأة ولكنّني سُرِرتُ بإهتمامها بي وبعثتُ لها رقم هاتفي. وحين إتّصلَت بي وبدأنا بالكلام قلتُ لها على الفور أنّ أحوالي الماديّة معدومة كليّاً ويلزمني سنين طويلة لأستطيع تأمين عيشاً كريماً لأيّ كان. عندها أجابَتني:

 

ـ لا عليكَ... أنا صبورة... جداً... وأعلم كيف أساعدكَ على إجتياز هذه المحنة... كان أبي فقيراً فيما مضى وشاهدتُ أمّي وهي تدعم صعوده سلّم النجاح... دعنا نتعرّف إلى بعضنا وسنقرّر ما سنفعله لاحقاً.


وبدأنا نتواعد في أماكن عامة كالحدائق لأنّني لم أكن أملك ما يكفي لأدعوها إلى المطاعم فأولويّاتي آنذاك كانت أمّي ودراستي وكان عملي في المصرف بالكاد يكفي لذلك لأنّني لم أكن سوى حاجباً بسيطاً أحمل الأوراق والملفّات مِن مكتب إلى آخر. ولكنّني كنتُ أعلم أنّني حين أحصل على شهادتي الجامعيّة في إدارة الإعمال سأتمكّن مِن الحصول على وظيفة أفضل ولو بقليل.

ورغم الحرمان لم تتركني سهام بل بقيَت تراني أينما إستطعنا وكنّا نقضي معظم وقتنا عندي في البيت نشاهد التلفاز ونأكل ما حضّرَته أمّي.

 


وبعد سنة واحدة طلَبت منّي حبيبتي أن نتزوّج. وحين سألتُها كيف لنا أن نفعل ذلك وأنا لا أملك شقّة أو حتى مصاريف الزفاف أجابَتني أنّها ستسكن مع والدتي وأنّها لا تريد أي حفل. وهكذا ذهبنا وتزوّجنا دون أن ندعو أحداً وعشنا مع بعضنا. وكانت والدتي تقدّر سهام كثيراً لأنّها أدركَت أنّ تلك المرأة تحبّني فعلاً وأنّها ليست طامعة بشيء وكانت تردّد دائماً للناس: "سهام هي الكنّة المثاليّة... هي بمثابة إبنتي."

ولكنّ المسكينة توفَّت بعد فترة قصيرة بسبب مشاكل في القلب. وهكذا وجدنا نفسنا أنا وزوجتي لوحدنا في المنزل وشعرتُ أنّ علينا ربما إنجاب طفل لتأسيس عائلة. ولكن سهام رفضَت لأنّ الوقت لم يكن مؤاتياً لأنّني لم أكن قد نلتُ الشهادة بعد. وقرّرَت زوجتي أنّ عليها العمل أيضاً لِتحسين أحوالنا فبدأَت وظيفة بمستشفى بفضل شهادتها في التمريض. وبدأ مشوارنا ولم أتصوّر أنّ أحد قد يفعل ما فعَلَته سهام مِن أجلي: كانت المسكينة تعمل مِن الصباح حتى المساء ولم تكن تصرف شيئاً مِن راتبها على نفسها بل تعطيني إيّاه بالكامل لأدفعه لجامعتي وكنّا نتصرّف براتبي الصغير قدر المستطاع أيّ أنّ سهام كانت تحضّر لنا كل يوم نفس الأكل: بعض البطاطا مع العدس. وأقسم أنّنا لم نأكل شيئاً آخراً خلال سنتَين كاملتَين ولم نخرج مِن المنزل ولم نشترِ ثياباً جديدة.

والحقيقة أنّني كنتُ أشعر بذنب كبير تجاه زوجتي ولكنّها بقيَت مصرّة على متابعة حياتنا هكذا. لِذا عمِلتُ جهدي لكي أحصد أعلى العلامات وأنال شهادتي مِن أوّل مرّة كي أريحَ سهام مِن عذابها. وجاء اليوم المنتظر وأصبحَ بإمكاني ترك المصرف والتفتيش عن عمل مربح أكثر ولكنّ سهام كانت قد قرّرَت أنّه مِن الأفضل لو أؤسّس شركتي الخاصّة قائلة:"سأجعل منكَ أعظم رجل أعمال في البلد." وبالرغم مِن رفضي لهكذا مغامرة لأنّني كنتُ أفتقر للخبرة اللازمة لهكذا مشروع بقيَت زوجتي مصرّة وأكّدَت لي أنّها ستظل واقفة إلى جانبي حتى أنجح في إعداد وتنفيذ تلك الشركة.

ولكثرة حماسها أقنعَتني بأن أمضي بالمشروع وهكذا فعلتُ.

وفي هذه الأثناء بقيَت سهام تعمل ساعات طويلة وتحرم نفسها مِن أبسط الأمور. ومرّة أخرى وعدتُ نفسي أن أنجح فقط لكي يكون لها حياة هنيئة. وعندما كنتُ أشتري لها فستاناً أو حتى قطعة مِن الحلوى كانت تصرخ بي وتوبّخني بأنّ هكذا مصروف ليس مسموحاً. وإحترتُ لأمري فلم أكن أعلم كيف أسعد زوجة تتفانى لزوجها إلى ذلك الحدّ.

 


ونجحتُ بجعل شركتي إحدى أهمّ الشركات التجاريّة في البلد بعدما أمضيتُ سنين أنكبّ على عملي. وعندما أصبحنا قادرَين على العيش برخاء طلبتُ مِن سهام ترك عملها والإستمتاع بالحياة. حاوَلت مقاومة قراري ولكنّني كنتُ حازماً معها فقبِلَت على مضض ولكنّها بقيَت ترفض الهدايا التي كنتُ أبتاعها لها فلم أعد أهديها شيئاً خوفاً مِن أن أغضبها. وبعد ذلك عرضتُ عليها أن ننجب طفلاً لينعم بالمال الذي كان يتدّفق علينا فلم تمانع لأنّها كانت قد ملَّت مِن الجلوس في المنزل لوحدها طوال النهار دون فعل أيّ شيء.

وسرعان ما حمِلَت منّي وكانت فرحتي كبيرة ولكنّني لم أعرف جنس الجنين لأنّ سهام أرادَت إبقاء الأمر مفاجأة لِكلينا. ولكن ما لم أكن أعلمه آنذاك هو أنّ زوجتي كذبَت عليّ حين كانت تقول أنّها تذهب عند الطبيب لتفقدّ حال طفلنا والسبب لِعَدم ذهابها كان هو نفسه الذي منعَها مِن الإستمتاع بشيء وهو البخل. فما كنتُ أظنّه فناء وتضحية كان في الحقيقة أبشع خصل العالم وتحجَّجت بحالتي الماديّة لكي نتجنّب صرف المال. وحين وصَلَت في حمَلها إلى الشهر التاسع وأوشكَت على التوليد قالت لي أنّها لا تريد أن تذهب إلى المستشفى بل أنّها ستأتي بمّمرضة تعرفها لتساعدها. وحين سمعتُها تقول ذلك ظننتُها فقدَت عقلها فمَن يفعل ذلك في زمننا؟ ولكنّها وقَفَت في وجهي وصَرَخَت:

 

ـ هذا طفلي وهذا جسدي! لن أدع أحداً يأخذ مالنا إن كان بإستطاعتنا الوصول إلى نفس النتيجة! أنسيتَ أنّني مّمرضة وأعلم كيف أولّد الناس؟

 

ـ ولكنّكِ لستِ داية! والتي ستولِّد هي أنتِ! لما تخاطرين بنفسكِ وبالجنين؟

 

ولكنّها لم تسمع منّي وأتَت بزميلة لها. ولكنّ الجنين كان بحالة سيئّة بسبب وضعه في الرحم ولم تكن سهام تعلم بذلك لأنّها وبكل بساطة لم تجرِ أيّ صورة لِبطنها خلال كل تلك الأشهر. ومِن جرّاء ذلك تضاعفَ الوضع ولم تكن كلتا الإمرأتَين قادرَتَين على إخراج الجنين ما أدّى إلى موته. كنتُ أنتظر في الغرفة المجاورة وعندما لم أعد أسمع صراخ زوجتي ولم أسمع صوت الطفل ركضتُ لأرى ما يجري فوجدتُ سهام سابحة بدمها. فأسرعتُ بطلب الإسعاف الذي نقلَها هي والجنين الميّت إلى المستشفى ولكن ما مِن أحد إستطاع إنقاذها لأنّها كانت قد فقدَت كميّة كبيرة مِن الدم. وهكذا ماتَت زوجتي وإبني بسبب البخل المرضيّ الذي عانَت منه سهام.

وفجأة أدركتُ أنّ كل مال الدنيا لن يستطيع إعادة عائلتي لي وأنّني قضيتُ معظم سنين حياتي أعيش في الحرمان لكي أؤمّن كل ما يلزم لإسعاد مَن حولي. ولم أتزوّج مجدّداً لأنّ الحزن إستحوذَ على قلبي وحوّله إلى رماد ومنذ وفاة سهام وأنا أعمل مِن الفجر حتى المساء وأعطي نصف أرباحي إلى مؤسّسة تُعنى بالفقراء لكي أساهم ولو بعض الشيء بتحسين أحوالهم. فالحياة قصيرة وإن لم نعشها جيّداً ستمرّ وتنتهي بدوننا.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button