لقد تركتُ المدرسة باكرًا جدًّا أو بالأحرى لَم يتسنَّ لي سوى تعلّم بالكاد الكتابة والقراءة وذلك بسبب إصرار والدي على تعليمي مهنته، تصليح السيّارات. فبِنظره لَم أكن بحاجة إلى كلّ "التفاهات" التي تُدَرَّس لينتهي بي المطاف في كراجه. كنتُ صبيًّا في التاسعة حين بدأَت حياتي المهنيّة بعيدًا عن أبناء سنّي. لكن سرعان ما أحبَبتُ العمَل وبرَعتُ فيه بفضل والدي الذي لقَّنَني كلّ ما يعرفه. للحقيقة لَم أندَم لاحقًا أنّني لَم أحذُ حذوَ أخوَتي بنَيل الشهادات، لأنّني حتى اليوم أجني أكثر منهم وأعيشُ أفضَل منهم، وما هو أهمّ، وجدتُ الحبّ الحقيقيّ خلافًا لهم.
لقد وجدتُ الحبّ في أغرَب الأماكن، بالتحديد في بيت مُلاصق للكراج، بيت ذي طابع خاص جدًّا... بيت دعارة. دعوني أخبرُكم عن داليا، زوجتي وأمّ أولادي التي أفتخرُ بها وأدعو الله يوميًّا أن يُبقيها إلى جانبي.
كنتُ قد كبِرتُ وكُبرَ حَجم العمَل حين قرَّرَ أبي الإنتقال إلى كراج أكبَر، فانتهى بنا المطاف في حيّ جميل لكن ضيّق بعض الشيء. لاحظتُ بعد فترة أنّ العديد مِن الصبايا الجميلات تخرجنَ وتدخلنَ مِن باب المبنى المُجاوِر، فسألتُ جاري البقّال عن الأمر فقال لي مُبتسمًا:
ـ إنهنّ بائعات هوى.
ـ وهل يُباع الهواء؟
ـ هوى وليس هواء! بائعات حبّ... كيف أقولُ لكَ ذلك... مومسات!
ـ أليس ذلك ممنوعًا؟
ـ بلى ولا... هكذا هي الأمور، الجميع يغضُّ النظَر، فهذه أقدَم مهنة في العالم. ستعتاد عليهنّ مع الوقت، لكن إيّاكَ أن تدخل ذلك البيت!
ـ لن أفعَل صدّقني، فالحبّ لا يجِب أن يكون له مُقابل.
ـ تمامًا.
أخبرتُ أبي عن الأمر وهو الآخر نبّهَني مِن دخول ذلك المكان، لكنّه كان يعلَم أنّني شاب جادّ وأجني مالي بعرَق جبيني فليس مِن المعقول أن أبذّرُه هكذا.
مرَّت الأسابيع والأشهر، وبالفعل صِرتُ مُعتادًا على رؤية تلك الفتيات وأيضًا الرجال الذين يقصدون ذلك البيت خفيةً خوفًا مِن أن يراهم أحد. إلا أنّ فتاةً لفتَت إنتباهي بالأخص ليس بسبب جمالها أو إغرائها، بل العكس. كانت داليا، كما عرفتُ إسمها لاحقًا، مُختلفة عن الباقيات. شيء في مشيَتها ونظراتها كان يوحي بأنّها ليست في مكانها، أعني أنّها كانت خجولة وحزينة في آن واحد. ولاحظتُ أيضًا أنّها كانت ترمي نظرات مِن ناحيتي مليئة بالحنان، خلافًا لرفيقاتها اللواتي كنَّ تحاولنَ إغوائي. لِذا صرتُ أنتظرُ خروج داليا إلى الدكّان أو مُصفّف الشعر بفارغ الصبر لأبتسم لها عن بعد وتردّ لي تلك الإبتسامة. رآني أبي مرّة وعادَ ونبّهَني مِن الإختلاط بِبنات البيت فطمأنتُه ثانية.
في إحدى المرّات، ركِبتُ سيّارتي ولحِقتُ بداليا وهي ماشية وعرضتُ عليها أن أقلّها حيث هي ذاهبة. تردّدَت قليلاً ثمّ قبِلَت فجلسَت بالقرب منّي، وملأَت رائحتها الزكيّة المركبة. بقَينا صامتَين حتى وصلَت راكبتي المكان المقصود وشكرَتني مِن دون أن تنظر إليّ حتى. إكتفَيتُ بذلك وأبقَيتُ في ذهني تلك الرائحة التي رافقَت خيالي لمدّة طويلة.
مِن دون أن نتّفق على ذلك، أصبحَت داليا تنتظرُني كلّ أسبوع في اليوم والوقت نفسه لأقلّها، ولَم نتكلّم مع بعضنا قط إلا بعد حوالي الشهر، حين قالَت لي وهي تترجّل: "إسمي داليا... ولستُ فتاة سيّئة... بل حياتي هي السيّئة". لا أدري كيف، ولكنّ عَينَيَّ امتلأت بالدموع، لأنّني أدركتُ مِن نبرة صوتها واختيار كلماتها أنّ تلك الصبيّة عانَت ولا تزالُ تُعاني الكثير، وأنّني كنتُ على حقّ باعتبارها مُختلفة عن الأخريات. في ذلك اليوم أخذتُ قرارًا صارِمًا وجدّيًّا، وهو مُساعدة داليا بأيّ طريقة وإنهاء مُعاناتها، فكَم هو فظيع لامرأة أن تُعطي نفسها مُقابل المال!
بعد أيّام، رحتُ سرًّا أدقّ باب البيت المذكور. فتحَت لي سيّدة في العقد الخامس مِن عمرها وسألَتني عن سنّي فأجبتُها: "عمري واحد وعشرون سنة وأُريدُ بالتحديد داليا... كَم تطلبين؟". إبتسمَت السيّدة ثمّ أدخلَتني إلى ردهة حيث جلستُ بانتظار قدوم التي سكنَت بالي. عندما رأتني داليا صرَخت: "لا!" لكنّ المرأة الخمسينيّة أسكَتَتها بقوّة فدخلَتُ وداليا غرفة نوم.
أقفلتُ الباب ورائي وأسرعتُ بالقول لداليا:
ـ لا تخافي... لستُ هنا مِن أجل... تعرفين ما أقصد...
ـ لن أقبَل أن تتشوّه صورتكَ في بالي.
ـ هذا تمامًا ما لا اريدُه أيضًا... جئتُ لنتكلّم، فلقد اشتقتُ لوجودكِ وتلك الدقائق الأسبوعيّة لَم تعُد كافية. إسمي جهاد بالمناسبة.
ـ أعرفُ إسمكَ، أنتَ إبن الميكانيكيّ. ماذا تُريدُ منّي؟ لماذا هذا الإهتمام؟ لستُ فتاة يجب التواجد معها، فأنا...
ـ إنسانة مجروحة. لا أدري ما حصَلَ لكِ في ما مضى والذي أودى بكِ إلى هنا، لكنّني مُتأكّد مِن أنّكِ كنتِ في يوم مِن الأيّام فتاة طيّبة لدَيها أحلام كبيرة، شأن أيّة فتاة في العالم.
أخبرَتني داليا قصّتها ولَم أكن مُخطئًا، فالحياة تأخذُ أحيانًا مُنعطفات خطيرة، إلا أنّ الرجوع إلى الطريق الصحيح ليس مُستحيلاً.
صِرتُ أزورُ بيت الدعارة باستمرار، وعلِمَت صاحبة المكان أنّني أكتفي بالكلام مع داليا لِذا لَم تعُد تأخذ منّي أيّ مال. أظنُّ أنّ تلك السيّدة رأَت بي المُنقِذ الذي تحلمُ به كلّ صبيّة تائهة، ربمّا الذي هي انتظرَته طوال حياتها ولَم يأتِ.
بعد سنة، عرضتُ على داليا الزواج، لكنّها رفضَت بقوّة عالمةً ردّة فعل أهلي ومُحيطي وعواقب ذلك على الأولاد الذين قد نُنجبُهم. طمأنتُها بالقول:
ـ إسمعي حبيبتي... لقد اختبرتُ الحياة باكرًا جدًّا، وعملتُ بكدٍّ وجهدٍ وتعرّفتُ إلى عدد لا يُحصى مِن الناس مِن مُختلف المستويات الإجتماعيّة...أنا شاب مسؤول وناضج، ولقد فكّرتُ بكلّ الذي ذكرتِه ووجدتُ الحلّ: سنتزوّج وننتقل للعَيش بعيدًا مِن هنا، حيث لا أحد يعرفُنا. لا تُسيئي فهمي، فلستُ خجلاً بكِ بل علينا أن نسعَدَ سويًّا كلّيًّا. سأفتحُ كراجًا خاصًا بي، فلقد أعطَيتُ أبي أجمَل سنوات حياتي وحان الوقت لأستقلّ. أنا مُتأكّد مِن أنّ زواجنا سيُحدِثُ بلبلة في العائلة إلا أنّني مُتأكّد أيضًا مِن أنّ الأمور ستهدأ مع الوقت. داليا... أُريدُ أن تكوني أنتِ عائلتي وعالمي... هل تقبليني زوجًا لكِ؟
وبعد شهرَين، خرجَت داليا مِن ذلك البيت وسط زغاريد صديقاتها، وركَبنا سيارتي المُزيّنة ورحنا إلى شقّتنا الصغيرة التي استأجرتُها قرب كراجي الجديد الذي أخذتُه أيضًا بالإيجار.
بقيَ كراج أبي مُقفلاً في ذلك اليوم تعبيرًا عن رفضه لزواجي، هو وأمّي وأخوَتي. أين كانوا جميعًا يوم تركتُ المدرسة وعملتُ بكدّ ليستفيدوا منّي؟
كيف أصِف لكم حياتي مع داليا مِن دون أنّ تظنّوا أنّني أُبالِغ؟ لَم يحدُث يومًا أنّنا تشاجَرنا أو تزاعَلنا. لَم أنظُر إلى غيرها، وما هو أهمّ، هي لَم تخُن الثقة التي وضعتُها فيها. أعطَتني زوجتي ولدَين رائعَين إفتخرتُ بهما. إزدهَرَ عملي فاشترَيتُ الكراج والشقّة وسيّارة جميلة لداليا.
تطلَّبَ الأمر خمس سنوات ليرضى أهلي عنّي فأعربوا عن نيّتهم رؤية ولدَيّ. رحَّبتُ بهم بشرط: ألا ينظروا لداليا سوى نظرة إحترام كامل أو يقولوا لها أيّ كلمة جارحة، وإلا طردتُهم ليس فقط مِن بيتي بل مِن حياتي كلّها. تفاجأوا بداليا التي تصوّروها مُختلفة وبالبيت الجميل الذي رتّبَته بأناقة وبتهذيبها لولدَينا. عانقَت والدتي داليا وقالَت لها دامعة: "يا لَيتني تعرّفتُ إليكِ قبل اليوم لمَا أضعتُ خمس سنوات".
اليوم أنا في الخمسين مِن عمري وأنظرُ إلى حياتي بِفخر واعتزاز. علَّمتُ ولدَيَّ في أفضَل المدارس وها هما في وظيفتَين عاليتَين. الكلّ يحترمُنا ويحسِبُ لنا حسابًا في الحيّ والمنطقة. لو علِمَ الناس ما كانت مهنة زوجتي السابقة لغيّروا رأيهم طبعًا، فكَم مِن السهل تضليل مَن حولنا بالتظاهر. إذًا، أين الحقيقة وكيف نحكمُ على غيرنا حقًّا؟
لقد عمِلتُ حسنًا بعدَم الحكم على داليا بل حاولتُ فَهم وتفهّم الدوافع التي أودَت بها إلى الدعارة، واكتشاف جوهرها الحقيقيّ. الله رحوم ومُسامِح، هو يغفرُ لنا خطايانا إن تُبنا، وبإعطائي فرصة ثانية لفتاة ضالّة ربحتُ ثوابًا عند خالقي. أرجوكم، كفى رجمًا لبعضنا!
حاورته بولا جهشان