بائعة الزهور

حبّي للطبيعة والزهور حمَلَني على شراء باقة كلّ أسبوع مِن محّل وجدتُه لطيفًا، ومُنسّقة زهور عرفَت بسرعة ما أحبُّه. لكنّ تلك السيّدة التي أسمَيتُها حنان لَم تكن سعيدة بالرّغم مِن البسمة التي تُريها للزبائن. فالعيون لا تكذب، وقرأتُ في عَينَيها ما حمَلَني على القول لها ذات يوم:

 

ـ ما قصّتَكِ؟ أعني... ما الذي يُحزنُ قلبكِ هكذا؟

 

ـ أنا حزينة؟ أبدًا! فأنا إنسانة سعيدة في حياتي. سؤالكِ غريب للغاية.

 

ـ بل منطقيّ. أعرفُكِ منذ مدّة وأنتِ مهمّة بالنسبة لي. لا تستطيعين إيهامي بسعادة غير موجودة. أعدُكِ بألا أخبرَ أحدًا، أعني مِن دون ذكر إسمكِ.

 

ـ ستكتبين قصّتي؟!؟ لا! لا!

 

ـ ليس بلا إذنكِ. إسمعي، لن يعرف أحد مَن تكونين، سأغيّرُ إسمكِ... لِنقُل حنان... وكلّ التفاصيل التي تدلُّ عليكِ.

 

ـ ما نفَع كتابة قصّتي إذًا؟

 

ـ ستتمكّنين مِن تفريغ ما في قلبكِ مِن دون تعرّضكِ لأيّ أذى أو عتاب، وسيستفيد الكثيرون مِن الذي يحصلُ لكِ. لا خسارة في الأمر. فكّري في الموضوع، سأعود إليكِ الأسبوع القادم قبل موعد إقفالكِ المحلّ بقليل.

 

للحقيقة، لَم أنفكّ عن التفكير بحنان طيلة الأسبوع الذي فصَلَني عنها، ونويتُ أكثر مِن مرّة الذهاب إليها قبل موعدنا، إلا أنّني لَم أشأ إخافتها، بل تركتُها تشاورُ نفسها على سجيّتها.

ويوم دخلتُ محلّها، نظرَت إليّ حنان بشيء مِن الهمّ ولكن أيضًا بِعزيمة. عرفتُ على الفور أنّها قرّرَت التكلّم. إبتسمتُ لها وقلتُ لها مازحة:

 

ـ يا إلهي، أشعرُ وكأنّني طبيبة أسنان على وشك قَلع ضرس لكِ! هـ هـ هـ... الأمر أسهل بكثير ممّا تتصوّرين... سترَين. أنتِ فقط غير مُعتادة على مُشاركة مآسيكِ مع أحد، وأستنتج مِن ذلك أنّكِ فقدتِ والدتكِ مُبكرًا.

 

ـ كيف عرفتِ ذلك؟

 

ـ مِن خبرتي بالناس. أين سنجلسُ؟

 

ـ دعيني أقفلُ باب المحّل أوّلاً ومِن ثمّ نجلسُ في الغرفة الخلفيّة. لقد حضّرتُ لنا قالب مِن الحلوى. هل تُحبّين الكيك بالجزر؟

 

ـ إنّه المفضَّل لديّ!

 


عندما جلسنا وأكلنا ذلك الكيك اللذيذ، بدأَت حنان بالكلام:

 

ـ قصّتي بدأَت كما قلتِ عند موت أمّي. كنتُ في السابعة مِن عمري ولَم يُحسن أبي تربيتي لوحده. فجدّتي كانت عجوزاً فقدَت عقلها منذ فترة وكان عليه الذهاب إلى عمله، لذلك قضَيتُ وقتي عند جارتنا، وهي إمرأة طيّبة عاملَتني كباقي أطفالها إلى حين اضطرَّت للإنتقال إلى مدينة أخرى. والدي إحتارَ في أمري، فقرّرَ إرسالي عند أخته، في مكان بعيد لِدرجة أنّه لَم يعُد يزورُني سوى مرّة بالشهر ودائمًا على عجلة مِن أمره. شعرتُ طبعًا أنّني بمثابة عبء عليه، لِذا لَم أسأل لماذا صارَت زياراته لي تشحُّ شهرًا بعد شهر إلى أن انقطعَت أخيرًا.

كانت عمّتي إمرأة جافة القلب، تمامًا كمناخ بلدتها، فهي لَم تبتسم يومًا لي... أو لأيّ أحد. ربمّا عدَم إنجابها زادَ مِن كرهها للحياة ولذلك الرجل الذي تزوّجَته. فقد كان عمّي سعيد إنسانًا غليظًا للغاية وأنانيًّا إلى أقصى حدّ. فراحته كانت مُقدّسة، ولَم يكن مسموحًا لي إصدار أيّ صوت، بل أن أتصرّف وكأنّني غير موجودة. فهو لَم يفهَم لماذا عليه تحمّل إبنة غيره، وعلمتُ لاحقًا أنّه هو الذي رفَضَ الإنجاب عمدًا.

كبرتُ وسط ذلك الثنائيّ الجاف، فشعرت بأنّني أزعجُهما لأقصى حدّ. صحيح أنّ أبي كان يُعطيهما المال لصرفه على حاجاتي ومدرستي، إلا أنّ سعيد بقيَ يُردّدُ عاليًا أنّ ذلك لَم يكن كافيًّا، بل كان على والدي دَفع ثمن الإزعاج المعنويّ أيضًا.

في المدرسة كنتُ فتاة هادئة، ولكن لم أكن أعرف كيف ألعَب مع رفاقي، لِذا ابتعدوا عنّي وأسموني "الغريبة الأطوار"، واقتنَعتُ بأنّني مُختلفة أو حتى متأخّرة عقليًا. وهكذا صارَت علاماتي مُتدنّية جدًّا، فلَم يؤمِن أحد بقدراتي، حتى أنا. وسرعان ما قرّرَت عمّتي أنّ عليّ ترك المدرسة، فالمال المُخصّص لِعلمي كان، برأيها، يذهبُ سدىً، وفضّلَت أخذه لها ولزوجها مِن دون علم أبي. ولقد مُنعِتُ مِن القول بأنّني صِرتُ بمثابة خادمة في بيت ليس مُرحَّب بي فيه. على كلّ الأحوال، لَم أكن على تواصل مُباشر مع والدي لأقول له أيّ شيء.

سلوَتي الوحيدة كانت الحديقة المُلاصقة للبيت، حيث كنتُ أقضي وقتي بعد إنهاء الأعمال المنزليّة والطهو. هناك، كنتُ أشعُرُ أنّ العالم جميل وأنّ الخالق ليس بِبعيد. تعلّمتُ كيف أزرعُ الورود وأرعاها، وأصبحتُ خبيرة بذلك.

 

ـ لقد لاحظتُ ذلك، فأنتِ فنّانة حقيقيّة.

 

ـ كلّ منّا لدَيه موهبة، وهذه موهبتي.

 

ـ ماذا حصَلَ بعد ذلك؟ أعلمُ أنّها ليست نهاية قصّتكِ.

 

ـ صحيح. فعندما صِرتُ في الثامنة عشرة، قرّرَت عمّتي تزويجي. فالمال الذي كانت تحصلُ عليه مِن أبي لَم يعُد كافيًا لها ولزوجها، ورأَت أنّ عريسًا مُكتفيًا مادّيًّا سيَفي بالغرض. إختارَت لي رجلاً في الأربعين مِن عمره، أيّ عجوزًا بالنسبة لي. رفضتُه قطعيًّا فهدّدَتني عمّتي بالإنقطاع عن إطعامي وحَبسي في الغرفة إلى أن أموتُ جوعًا. وبقيتُ مُصرّة فسجنَتني ونفّذَت تهديدها لي. بعد ثلاثة أيّام توسّلتُ إليها كي تُطعمُني... وتزوّجتُ مِن عفيف.

 

كان زوجي مُزارعًا يملكُ أرضًا كبيرة والكثير مِن المواشي. إلا أنّه كان مثل بهائمه، أي حيوانًا لا تهمُّه سوى غرائزه. لن أدخل في التفاصيل، لكن تخيّلي ليلة زفافي مع شخص مثله!

 

ـ يا إلهي... أنا آسفة يا حبيبتي. لكن، كيف عاملكَ عفيف بعد ذلك؟

 

ـ مُعاملة ليست سيّئة... أو حسنة. كان قد جلَبَني لأُلبّي حاجاته الجنسيّة وكي لا يبقى مِن دون ذرّيّة.

 

ـ أعطَيتهِ أولادًا؟

 

ـ لا، والحمدُ لله! وإلا لمَا استطعتُ إكمال حياتي والوصول إلى ما أنا عليه الآن. فقد كان عفيف عاقرًا، ولقد حاوَلَ إلصاق التهمة بي إلى حين أثبتُّ له أنّني سليمة بعدما أجرَيتُ كلّ الفحوصات اللازمة. فهو كان يُعيّرُني بأنّني غير نافعة لشيء ويُهدّدُني بالزواج عليّ. وعندما علِمَ الحقيقة، لَم يعُد يتكلّم بالموضوع بتاتًا، لكنّه صارَ يتجاهلُني كليًّا ويُفضّل رفقة بهائمه عليّ... إلا ليلاً طبعًا.

 

ـ كيف صرتِ مالكة محلّ للورود؟ لا أرى خاتم زواج في إصبعك، هل طلّقَكِ؟

 

ـ بل ماتَ بعد سبع سنوات مِن زواجنا، في حادث مِن جرّاء آلة حراثة ضخمة.

 

ـ هل حزنتِ عليه؟

 

ـ لا... بل شعرتُ بشيء لَم أعرفه مِن قبل: طعم الحريّة. في البدء، لَم أستطع تسمية ذلك الاحساس الجميل لأنّني لَم أختبره ولَم أعرفه موجودًا. إلا أنّ سرعان ما حامَ حولي مَن أدركَ أنّني ورثتُ زوجي الراحل، وصرتُ مالكة مزرعة تدرّ ُالمال الوفير.

 


ـ عمّتكِ وزوجها؟

 

ـ نعم، وأيضًا الذي تركَني لمصيري: أبي.

 

ـ كيف علِمَ بأمر موت عفيف؟

 

ـ كما علِمَ بأمر تزويجي منه! فهو لَم يرَ مانعًا مِن أن أتزوّج مِن رجل يكبيرني سنًّا ورغمًا عن إرادتي. أجل، الكلّ خانَني، الكلّ.

 

ـ أكملي، مِن فضلكِ.

 

ـ أعطيتُ الذين باعوني ما طلبوه مِن مال.

 

ـ لماذا؟ كنتِ في الخامسة والعشرين وأرملة، فلا سلطان لهم عليكِ.

 

ـ صحيح، إلا أنّني اعتدتُ إطاعتهم منذ صغري. إضافة إلى ذلك، كان يتبقّى لي الأملاك كلّها، فبعتُها وتركتُ المنطقة مِن دون أن أخبر أحداً. فلَم أكن مُستعدّة لِفقدان حرّيتي الغالية عليَّ.

 

ـ واشترَيتِ هذا المحلّ؟

 

ـ أجل وشقّة جميلة. تعلّمتُ القيادة وابتعتُ سيّارة أيضًا!

 

ـ هكذا أريدُكِ! كم أنّني فخورة بكِ!

 

ـ وأنا فخورة بنفسي!

 

ـ وماذا عن حياتكِ العاطفيّة؟

 

ـ معدومة للأسف. لقد صادَفتُ العديد مِن الرجال، لكنّني اعتبرتُهم مجرّد أشخاص غير مُهمّين بالنسبة لي، وفي بعض الأحيان يُذكّروني بأبي الذي ترَكَني، وزوج عمّتي الذي كرهَني واستغلّني، وبزوجي الذي لَم يرَ فيّ سوى أداة مُتعة.

 

ـ الكلّ ليس سواء.

 

ـ أعرفُ ذلك، لكنّني سعيدة هكذا... بين زهوري.

 

ـ الآن فهمتُ سبب الحزن الذي في عَينَيكِ. لَم يحبُّكِ أحدٌ، بل أنتِ التي أحبَبتِ فقط. لكنّ الزهور لن تستطيع يومًا إعطاءكِ الحنان الذي يُعطيه البشر.

 

ـ حبّي لزهوري يكفيني، صدّقيني.

 

ـ ستجدين يومًا رجلاً صالحًا، أنا متأكّدة مِن ذلك.

 

ـ لا أظنّ ذلك، فقد صرتُ في سنّ الأربعين.

 

ـ أنسيتِ أنّني كاتبة وأعرفُ الكثير عن الناس وحياتهم؟

 

ـ لا، لَم أنسَ.

 

ـ إذًا صدّقيني. فأنتِ جميلة ورقيقة كزهوركِ، وسيأتي رجل يعرفُ كيف يقطفُكِ بحنانه وحبّه. ستُحاولين إبعاده بأشواككِ، لكنّه سيبقى مُصرًّا بعد أن يُدركَ أنّكِ مِن صنف مميّز، إمرأة رقيقة وحسّاسة، مليئة بالحبّ والحنان وخائفة مِن أن يخذلها الزّمَن مرّة أخرى. إلا أنّكِ أيضًا إمرأة قويّة إستطاعَت تحمّل المرارة لسنوات، وتحقيق حلمها والوصول إلى الحرّيّة. أنتِ مميّزة حقًّا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button