كنتُ على عِلم بمغامرات والدي العاطفيّة، لكنّني لَم أجرؤ على مفاتحته بالأمر، وتساءَلتُ كثيرًا كيف له أن يخون إنسانة رائعة كأمّي. فهي لَم تكن متطلّبة أو مُتذمّرة، بل كانت مُحبّة تهتمّ بزوجها وأولادها وبيتها الذي لَم تكن تُبارحُه إلا نادرًا.
إنتابَني غضبٌ شديد عندما كنتُ مُراهقًا، واكتشفتُ صدفةً أنّ الرجل الذي كنتُ أعتبرُه مثالي الأعلى بالحياة ليس إلا كاذبًا حقيرًا. فقد سمِعتُه مرّة يتحدّثُ عبر الهاتف مع إحداهنّ وبطريقة بذيئة للغاية. كان والدي يشرحُ لتلك المرأة ما ينوي فعله معها في السرير حين يلتقيان. أجل، هكذا اكتشفتُ الحياة الجنسيّة، وليس بمحادثات جدّيّة وعلميّة كما تجري العادة بين أب وابنه.
لَم أُخبر أحدًا بالأمر، أيّ أنّ اخوَتي الصّغار وأمّي بقوا يجهلون أين كان يصرفُ والدي ماله، ليعود مِن مواعيده ويطلبُ منّا تحمّل حالته المادّيّة الصعبة. فهو حرَمَنا مِن أشياء بديهيّة كثيرة لينعَمَ بملذّات الحياة. رجل أنانيّ لا يأبَه سوى برغباته، ولا يهوى سوى النساء الرخيصات اللواتي تبِعنّ خدماتهنّ للرجال.
ولتعويض أمّي، قرّرتُ الإهتمام بها أكثر مِن قبل، وعدَم إغضابها لأيّ سبب، وصِرتُ وكأنّني رجل البيت، وهي مسؤوليّة إتّخذتُها باكرًا بدل أن أعيش مراهقتي كأيّ شابّ آخر. وأُعجِبَ أبي بمُبادرتي فباتَ أكثر إهمالاً وغيابًا. ويوم سألتُ أمّي عن موقفها حيال سهرات زوجها الطويلة وعدَم مُساندته لها، قالَت لي:
ـ ما عساني أفعَل يا بنيّ؟ عندما تزوّجتُ، قطعتُ عهدًا بأن أقبَلَ به بالضرّاء قبل السرّاء.
ـ صحيح، ولكنّهم يقصدون بذلك تحمّل الشدائد سويًّا كثنائيّ!
ـ لا تأسف عليّ يا حبيبي، فأنا أشعُرُ وكأنّني ملكة جالسة على عرش جميل ومُحاطة بأفضل الأولاد... لا أنتظرُ مِن أبيكَ أن يُعطيني قيمة ما، فأنا اكتسَبتُها مِن جرّاء طيبتي وأخلاقي واهتمامي ببيتي وأهله.
ـ ألستِ تعيسة؟
ـ بل فرِحة عندما أراكم بخير وسعيدين، وهذا يكفيني.
كان مِن الواضح أنّ والدتي قابلة بوضعها، لكنّني لَم أكن واثقًا مِن أنّها تعلم بأنّ زوجها يخونُها، بل تعتقدُ أنّه يقضي وقته مع أصدقائه، وهم رجال مثله بلا مسؤوليّة.
مرَّت السّنوات على هذا النحو، ولم يتغيّر شيء سوى أنّ والدتي كبرَت قبل أوانها، فالزهرة التي لا تحصل على الإهتمام الذي تستحقُّه تذبل بسرعة. أمّا أبي، فكان لا يزالُ يرتاد الكباريهات حيث يصرفُ ما "جناه مِن عرَق جبينه، وهو أحقّ به"، كما كان يُردّد.
تخرّجتُ مِن جامعة حكوميّة لأنّ والدي رفَضَ إدخالي جامعة خاصّة بسبب تكلفتها العالية، وبدأتُ بالعمل. كنتُ بالطبع أُعطي راتبي لوالدتي لتصرفه على أخوتي الذين كانوا لا يزالون في المدرسة، وأُبقي معي جزءًا بسيطًا مِن أجل المواصلات، فلَم يكن لدَيّ ما يكفي لشراء سيّارة. حاوَلَ أبي أن يضَعَ يدَه على راتبي بذريعة أنّه دفَعَ الكثير عليّ منذ ولادتي، إلا أنّني رفضتُ بقوّة بعدما صرتُ قادرًا بسبب سنّي، على الوقوف بوجهه. نعَتَني بالناكر للجميل وتركَني وشأني، آملاً بأن يستفيد لاحقًا مِن أخوَتي.
وجدتُ الحبّ في شخص رانيا، فتاة جميلة ومهذّبة، وتغيّرَت حياتي إلى الأفضل. صِرتُ أضحكُ وأستمتعُ بالأوقات الجميلة التي كنتُ أقضيها مع حبيبتي. فرِحَت أمّي لي طبعًا، وشجعّتَني للإقدام على الزواج، بعد أن أكّدَت لي أنّها ستكون بخير مِن دون وجودي معها في البيت. أضافَت أنّني قمتُ بواجباتي تجاهها على أكمل وجه.
لِذا رحتُ أزورُ أهل رانيا لطلب يدها، والبدء بالتخطيط لحياة جميلة مع أجمل حبيبة. صحيح أنّني لم أكن أملكُ شيئًا، إلا أنّني كنتُ مُتأكّدًا مِن أنّني سأفعل المستحيل لتأمين حياة كريمة لحبيبتي. لكن حين عرف والد رانيا إسمي صَرَخ عاليًا:
ـ أنتَ إبن توفيق؟
ـ نعم سيّدي، وأودّ...
ـ لن تودّ شيئًا! لا يُمكنُني تزويجكَ ابنتي! فأنتَ حتمًا مثل أبيكَ... ولا أحد يجهل ممارساته البشعة. مِن الأفضل لكَ أن تبحثَ عن زوجة أخرى.
ـ لكن يا سيّدي، أنا شاب جدّيّ ورصين، إسأل عنّي!
ـ أنتَ إبن توفيق وهذا كافٍ. الوداع!
خرجتُ مِن ذلك المنزل مكسورًا مُحطّمًا. كان والدي قد سدَّدَ لي، ولو غير مباشرةً، ضربة قاضية، وكأنّ ما فعلَه حتى ذلك الحين لَم يكن كافيًا. إنفصَلتُ عن رانيا على مضَض، وهي لَم تأسف عليّ بعدما علِمَت مِن أبيها سيرة والدي. ولا بدّ أنّها شكَرت ربّها لأنّها لَم تتزوّجني كي لا أُعاملُها يومًا كما يُعامِلُ أبي أمّي.
بعد ذلك، صارَت حياتي فارغة ومصبوغة بالحزن واليأس. لَم أقل لأمّي ما كان السّبب الحقيقيّ وراء عدَم زواجي، بل اخترَعتُ لها سببًا مُقنعًا كي لا أزيدُ مِن تعاستها.
والتجأتُ إلى الكحول، لأنّني لَم أجد طريقة أخرى لنسيان وضعي البائس. صرتُ أقصدُ الحانات بعد خروجي مِن العمل، وأبقى هناك حتى أشعُرُ بأنّ عقلي بدأ يتخدّر. عندها، كنتُ أعودُ إلى البيت لأدخل غرفتي بسرعة كي لا تُلاحظ أمّي شيئًا.
بعد ذلك، باتَ لي أصدقاء مثلي، أي أناس يائسون تعرّفتُ إليهم في الحانات، وكنّا نجلسُ سويًّا نعدُّ الكاسات، ونتبارى ما بيننا لنرى مَن بإمكانه أن يشربَ أكثر مِن دون أن يقَعَ أرضًا. كنتُ سعيدًا أنّني لَم أكن وحيدًا في تعاستي، وأنّ الكثير كان يبحثُ عن النسيان في قعر زجاجة الكحول.
شربي هذا أثّرَ طبعًا على نوعيّة عملي ومُعاملتي لزملائي، ولوّحَ لي مديري بأنّه على وشك التخلّي عن خدماتي. لَم أتأثّر بالأمر، فطردي كان سيكون بمثابة تتويج لفشل حياتي.
حاولَت والدتي التكلّم معي عن غياباتي المُتكرّرة وعن تصرّفاتي الغريبة في البيت، إلا أنّني بقيتُ أتفادى المواجهة كي لا أقولُ لها أشياء مؤذية وأُحزِنُ قلبها.
أنا متأكّد مِن أنّ حياتي كانت ستُدمَّر كليًّا لولا تلك المرأة التي صادفتُها في الحانة. كنتُ جالسًا كعادتي على الطاولة أُغرِقُ نفسي بسلسلة كؤوس مِن الكحول، عندما جاءَت سيّدة في الأربعين مِن عمرها وجلسَت بالقرب منّي. هي لَم تقل شيئًا بل صارَت تُحدّق بي بإمعان. سألتُها ما الذي تُريدُه منّي، مؤكّدًا لها أنّني لا أنوي التعامل معها، فقد كان مِن الواضح أنّها مِن رائدات الليل وتبيع محاسنها. لكنّها قالَت لي:
ـ وجهكَ مألوف لي... أنتَ تُشبه إلى حدّ كبير شخصًا أعرفُه جيدًا... إسمه توفيق.
ـ وهل ستظلُّ سمعة أبي تُلاحقُني أينما ذهبتُ؟!؟
ـ أنتَ إبن توفيق؟ الشبه بينكما لافتٌ! وليس فقط جسديًّا بل، كما أرى، تتشارَكان التسليات ذاتها.
ـ لستُ مثل أبي! لا تقولي ذلك!
ـ حقًّا؟ أراكَ جالسًا في هذه الحانة كلّ ليلة، إمّا وحدكَ أو مع هؤلاء الفاشلين. وسرعان ما ستطلبُ رؤيتي على انفراد وأصطحبُكَ إلى مسكَني... كما فعلتُ مع والدكَ.
ـ أنتِ مجنونة! أريدُكِ أن تتركيني وشأني، فمزاجي لا يسمحُ لي بتحمّل كلامكِ المؤذي.
ـ وأين الأذى بِقول الحقيقة؟ أنظُر إلى نفسكَ! شاب بسنّكَ يجدرُ به التمتّع بالحياة بطريقة سليمة وصحّيّة، وبصحبة فتاة شريفة يتزوّجها ويُؤسّس معها عائلة.
ـ حاولتُ فعل كلّ ذلك، لكن...
وسرَدتُ لها قصّتي مِن البداية، وهي استمعَت إليّ بِصمت ولَم تُقاطعني حتى انتهَيتُ مِن الكلام. ثمّ قالَت لي:
ـ تقول لي إنّكَ شاب قويّ ساعَدتَ والدتكَ وأخوَتكَ وحمَيتهم مِن أبيكَ... لكنّكَ بالفعل إنسان ضعيف إستسلَم عند أوّل عقبة. رفضَكَ أب حبيبتك؟ العرسان يُرفضون كلّ يوم لأسباب عديدة! عليكَ أن تشكُر ذلك الرجل، فهو خلّصكَ مِن عروس لَم تكن تحبّكَ، فهي لَم تُناضل مِن أجلكَ بل حكَمَت عليكَ على الفور، وكأنّها لا تعرفُ شيئًا عنكَ! الحياة مليئة بالمصائب وشرب الكحول لن يحلّها، بل سيُخدّرُكَ لدرجة أنّكَ لن تعود قادرًا على إيجاد الحلول المُناسبة. إسمعني جيّدًا، كلّ هؤلاء الجالسين في هذه الحانة وكلّ حانات البلاد لهم أولاد، وأولادهم يتزوّجون ويُنجبون ويسعدون، ولَم أرَ يومًا أيّ منهم هنا في الحانة. إذهب إلى بيتكَ ولا تعود، فهذا المكان هو مقبرة الآمال والأحلام. إن كنتَ لا تريدُ أن تمسيَ مثل أبيكَ، أخرج ركضًا ولا تنظر وراءكَ. وإن لَم تفعل، فسيأتي يوم وتصبّ كلّ الغضب الذي في قلبكَ على أمّكَ وأخوتكَ. هل هذا ما تُريدُه؟
ـ لا! لا!
ـ لا أُريدُ أن أراكَ هنا مجدّدًا. غدًا صباحًا ستذهب إلى عملكَ، وفي قلبكَ يقين بأنّ الأمور ستصطلح قريبًا بفضل تركيزكَ على إيجابيّات الحياة، وهي كثيرة.
ـ ما اسمكِ؟
ـ هذا لا يهمّ، فلَم يعُد لديَّ هويّة بعدما سرقَها منّي الليل وروّاده. الوداع.
خرجتُ مِن الحانة وكأنّني تلميذ مدرسة وبّخَته مدرّسته، وقصدت البيت أغسلُ وجهي وأنام. وبالرّغم مِن الصّداع الذي انتابَني في الصّباح، إبتسَمتُ عندما تذكّرتُ تلك المرأة، فهي لَم تحاول الإستفادة منّي وإغراقي في الرذيلة، بل فعلَت جهدها لإنقاذي. ومِن أجل قلبها الكبير وقلب أمّي الحزين وقلب اخوتي الهشّ، ومِن أجل قلبي المجروح، أخذتُ نفَسًا عميقًا وقرارًا بمواصلة حياتي كما أرَدتُها أن تكون، أيّ مليئة بالأمل والعطاء والإنجازات.
أنا اليوم زوج سعيد وأبُ فخور. فلقد تزوّجتُ مِن زميلة لي كانت مُغرمة بي سرًّا، وهي لَم تسأل مَن هو أبي، ولا أهلها بعد أن عاشَروني وعرفوا حقيقة قلبي. ولا يمرّ يوم مِن دون أن أزور أمّي بعد أن تزوّج جميع أخوَتي... وأبي الذي باتَ يمكثُ في البيت بعد أن أصابَته أمراض كثيرة بسبب الإكثار مِن الرذائل.
ويا لَيتني أصادفُ مُنقذتي ولو مرّةً لأشكُرها وأخبرَها عن حياتي الجميلة. لكنّها تعيشُ في ليلٍ لا أريدُ الغوص فيه مجدّدًا، لأنّه يبتلعُ كلّ مَن يجذبه إلى أضوائه الكاذبة.
حاورته بولا جهشان