تربّيتُ على الحفاظ على القيَم والمبادئ، وأشكرُ أهلي على ذلك. لِذا كنتُ أعطي للصداقة قيمة كبيرة، وأعملُ جهدي لأكون محطّ ثقة أصدقائي وأن أقِفَ إلى جانبهم قي وقت الشدّة. لكنّ الناس لا يُشاركون كلّهم نظرتي هذه، بل لا يتردّدون باستغلال الآخرين لأغراضهم الشخصيّة. فكَم تفاجأتُ بالذي فعلَته صديقتي مروة بي، ولا أزالُ حتى اليوم أسألُ نفسي كيف استطاعَت أن توقِع بي مِن دون أن يُسبّب لها ذلك أيّة وخزة ضمير.
وهكذا لَم يخطر ببالي أبدًا أنّ لِمروة دخل في اختفاء هاتفي المحمول، لا بل أخذَت تُحلّلُ معي لِمعرفة أين أضعتُه. لَم نصل إلى نتيجة طبعًا، واستأتُ كثيرًا لأنّ كلّ حياتي موجودة في ذلك الجهاز كالكثير مِن الناس. في اليوم التالي إشترَيت آخر مُستعملاً فراتبي لَم يكن يسمحُ لي بالحصول على واحد جديد.
سرعان ما نسيتُ أمر الهاتف بعد أن اعتبرتُ أنّني نسيتُه في مكان عام وأخذَه سارق ما، إلى حين جاءَ مازن حبيبي إلى بيتنا ليطلب يدي. كان ذلك اليوم الأجمل في حياتي، خاصّة بعدما رحّبَ به أهلي ووافقوا بسرور، لأنّ ذلك الشاب كان يتمتّعُ بسيرة ممتازة وكذلك أهله، وهو قادر على تأمين حياة مُريحة لي، أي لدَيه ما يتمنّاه الأهل لابنتهما. كنتُ أبقَيتُ أمر علاقتي معه سرًّا فلَم يكن مسموحًا لي أن أتلاقى بالشبّان بالرغم مِن إصرار مازن على التعرّف إلى أهلي منذ البدء. فهو لَم يكن يعرفهم كما أعرفُهم وخفتُ أن يمنعوني مِن رؤيته، الأمر الذي كان حطَّمَ قلبي. لكن بعد قبول أبوَيَّ بحبيبي، لَم أعد أخاف مِن شيء بل أستطيع التحضّر للزفاف والحياة الزوجيّة بكل ارتياح.
إلا أنّ فرحتي لَم تدُم، لأنّ مازن فسَخَ خطوبته معي مِن دون تفسير. لَم يقل لي شيئًا سوى: "لقد خابَ أملي بكِ، لستِ الإنسانة التي أريدُ ربط حياتي بها ولستِ الأم التي أتمنّاها لأولادي... كان يجدرُ بي الحذر مِن فتاة تواعدُ شابًا بالسرّ عن أهلها". تصوّروا شعوري في تلك اللحظة، فالذي أحبُّه بجنون قد تركَني وأهانَني في آن واحد. حاولتُ طبعًا معرفة المزيد، إلا أنّه لَم يعُد يُجيبُ على اتّصالاتي أو رسائلي، وحظرَني على مواقع التواصل الإجتماعيّ.
بكيتُ كلّ دموعي وسألتُ نفسي إن كان مازن حقًّا صادقًا معي أم أنّه ضحِكَ عليّ منذ البدء، وإلا لماذا يقطعُ علاقته بي هكذا فجأة؟ لَم يفهم والدايَ أيضًا سبب هذا التغيّر المفاجئ وعملا جهدهما على مواساتي. مروة هي الأخرى وقفَت إلى جانبي مؤكّدةً لي أنّ مازن هو إنسان غير موزون وعليّ شكر ربّي لأنّه بانَ على حقيقته قبل أن أقترنَ به. فمَن يعرف ما كان سيفعله بي بعد الزواج؟
مرَّت الأشهر وأنا في حزن كبير واستفهامات كثيرة، ومِن ثمّ استطعتُ استعادة ولو بعض الأمل في الحياة. شكرتُ الله على إعطائي الناس الذين ساندوني في محنتي ورضختُ لإرادته، أي تابعتُ حياتي بهدوء... إلى حين علِمتُ أنّ مازن تزوّجَ مِن مروة! أجل، مِن صديقتي الحميمة التي كبرتُ معها وتقاسمتُ كلّ شيء معها، تلك نفسها التي أكّدَت لي أنّ حبيبي رجل سيّىء وعليّ نسيانه.
متى تسنّى لها أن تُطبق مخالبها على مازن وتحمله على حبّها والزواج منها؟ ماذا كان يجري بينهما طوال ذلك الوقت؟ ألهذا السبب تركَني خطيبي؟ تساؤلات عديدة لَم أحصل على أجوبتها، لأنّ مروة هي الأخرى إمتنعَت عن الكلام معي ومنعَتني مِن الإتّصال بها.
تصوّروا حيرتي وحزني وغضبي بعد أن خانني أعزّ شخصَين إلى قلبي! إستنكرَ أبوَايَ ما حصل، وردّا الأمر إلى حظّي القليل في الحياة. أيّ حظ يتكلّمان عنه وما دخله بالغش والخيانة؟
كنتُ سأظل أجهل حقيقة ما حصل لولا ذلك الزميل الذي قالَ لي بعد أشهر طويلة على وقوع المصيبة، خلال فترة الاستراحة في العمل:
ـ ألَم تجدي حبيبًا بعد؟
أجبتُه ظانّةً أنّه يتكلّم عن مازن:
ـ صدمتي قويّة للغاية يا توفيق، ولستُ بِصدد البحث عمَن يُحطّمُ قلبي مِن جديد.
ـ هل أنتِ مُتأكّدة مِن الذي تقولينه لي؟ فمِن الواضح أنّكِ في صدَد البحث... وبطريقة جريئة جدًّا. للصراحة، لقد تفاجأتُ كثيرًا بكِ، فلَم أكن أتصوّرُكِ هكذا.
ـ ماذا تعني؟!؟
ـ أعني الصوَر التي نشرتِها على موقع التعارف الذي أنا أيضًا مُنتسب إليه، والتي تدلّ وبوضوح على رغبتكِ بإظهار محاسنكِ لنَيل إعجاب الرجال. أعترفُ بأنّني كدتُ أتّصل بكِ لكنّني تراجعتُ عن ذلك لأنّنا زميلان.
ـ أيّ موقع هذا؟ وأيّ صوَر تتكلّم عنها؟ أرِني أيّاها على الفور!
فتَحَ زميلي هاتفه ودخَلَ الموقع وأراني صفحتي الخاصّة، أو بالأحرى التي فُتِحَت باسمي مِن دون علمي وهي تُظهرُ مِن حيث الكلام المكتوب فيه والصوَر المنشورة عليه أنّني أبحثُ عن رجال، أيًّا كانوا. تاريخ تأسيس الصفحة كان يعود إلى أشهر عديدة، أي إلى ما قبل ترك مازن لي. خرجَت صرخة منّي وكدتُ أقَع أرضًا مِن كثرة غضبي، فشيء قال لي إنّ لهذه الصفحة دخل بقطع مازن علاقته بي. نظرتُ بإمعان إلى الصوَر وتذكّرتُ أنّني التقطُّها بنفسي داخل غرفتي لإرسالها لِمازن، لكنّني غيّرتُ رأيي في آخر لحظة لأنّني كنتُ أرتدي ملابس النوم مُستلقيةً على سريري. فهمتُ طبعًا أنّ مروة هي التي سرقَت هاتفي وفتحَت صفحة بإسمي على ذلك الموقع، لتُظهرني وكأنّني إنسانة خفيفة أبحثُ عن رجال في الفترة نفسها التي كنتُ أواعدُ فيها مازن.
هكذا إذًا...
شرحتُ لزميلي ما الذي حصَلَ حقًّا، فلَم أكن أريدُ تشويه سمعتي في العمل، وسألتُ نفسي ما عليّ فعله بعد ذلك؟ هل أنسى الأمر أم أفضح مروة أمام مازن ليعرف الحقيقة؟ فبالرّغم مِن فظاعة ما فعلَته التي تسمّي نفسها صديقتي، كان على الرجل الذي يُريدُ الزواج بي ويدّعي حبّي أن يستفسر منّي قبل أخذ قرار تركي، على الأقل لمعرفة سبب التصرّفات المنسوبة لي. وهذه النقطة بالذات هي التي حملَتني على نسيان الموضوع ومتابعة حياتي. ففي آخر المطاف كان هذان قد تزوّجا ولَم يعد هناك مِن منفعة بالرجوع إلى الوراء.
لكنّ توفيق لَم يَنوِ نسيان الموضوع بل أخَذَ على عاتقه، ومِن دون معرفتي، فضح مروة. لِذا صارَ يُراسلُها عبر ذلك الموقع بشكل يوميّ. في البدء، هي لَم تُجِب على رسائله لكن جمال كلام زميلي كان لا يُقاوَم. عندها وُلِدَ بينهما إعجاب واضح، وبعد فترة، إعترفَت له بأنّ تلك الصوَر ليست لها وبعثَت له صورَها الحقيقيّة.
الحقيقة أنّ مروة لَم تكن تحبّ مازن، بل أرادَت أخذه منّي والإستفادة مِن حياة زوجيّة مُريحة. ولهذا السبب قبِلَت بمُلاقاة توفيق في مكان ما لأنّه كان وسيمًا للغاية ويعرفُ كيف يُكلّم النساء.
وذات يوم، قال لي زميلي:
ـ أعطِني رقم خطيبكِ السّابق.
ـ ولماذ تُريدُه؟ إسمَع، إن كنتَ تنوي إخباره بحقيقة ذلك الموقع، فاعلَم أنّني لستُ بحاجة إلى تبرير نفسي أمام أحد. فهو لَم يُعطِني أيّ فرصة بل حكَمَ عليّ بثوانٍ، ولَم يتردّد عن الزواج بأفضل صديقة لدَيّ. أنا لَم أعد أريدُه.
ـ لا... لا أريدُه أن يعود إليكِ بل أنوي تلقينه درساً هو وتلك الخائنة. ثقي بي وأعطِني رقم مازن.
أعطَيتُه الرقم بدافع الفضول، وهذا ما قالَه لي بعد يومَين:
ـ لدَيّ أخت وإبنة خال وابنتَا عمّ... ولهذا السبب سمحتُ لنفسي أن آخذ لكِ حقّكِ... قد تغضبين منّي إلا أنّني فعلتُ ما يُملي عليّ ضميري.
ـ ماذا حصل؟ تكلّم!
ـ أعطَيتُ موعدًا لمروة بعد أن اتّصلتُ بمازن لأخبره أين سيجدنا نحن الاثنَين، وهو لَم يتأخّر عن القدوم بعدما أرسلتُ إلى هاتفه كامل الحديث الذي تبادلتُه مع زوجته. عند وصوله، وقبل أن يبدأ بالصراخ على مروة، فضحتُ أمرها أمامه في ما يخصّ سرقتها لهاتفكِ وخلق حساب على ذلك الموقع باسمكِ ونشر صوَركِ. هي لَم تستطع إنكار شيء بل صارَت تتمتمُ كلمات غير مفهومة مُظهرةً ذنبها. فهِمَ مازن أنّها ضحِكَت عليه حين كشفَت له عن وجود صفحتكِ على موقع التعارف ثمّ صارَت تتقرّب منه لتحمله على الزواج منها... لِتحاول خيانته لاحقًا معي! صفعَها بقوّة وقال لها قبل أن يُغادر إنّه سيقوم بتطليقها فور اتّصاله بالمحامي. أنا متأكّد مِن أنّه سيتّصل بكِ قريبًا جدًّا.
لا أنكّرُ أنّني سُعِدتُ جدًّا بالذي حصَلَ لمروة بفضل زميلي، إلا أنّ فكرة اتّصال مازن بي أزعجَتني إلى أقصى درجة، فأنا لَم أعد أريدُه بعد الذي فعلَه بي. ليكن ذلك درسًا له وحسب.
وصلَتني فعلاً رسالة مِن خطيبي السّابق يطلبُ منّي فيها الإذن بمكالمتي بعد أن اكتشفَ حقيقة ما حصل، إلا أنّني طلبتُ منه أن يدعَني وشأني. حاوَلَ مرّات كثيرة التواصل معي قبل أن يستوعبَ أخيرًا أنّني لَم أعد أريدُه. وعلِمتُ لاحقًا أنّه سافَر، لكنّني لَم أتأثّر بالخبر.
قد تظنّون أنّني وقعتُ بحبّ توفيق بعد الذي فعلَه مِن أجلي أو حتى تزوّجتُه، لكنّ ذلك لم يحصل. فلو أرَدتُ أن أحبّه لكنتُ اخترتُه قبل مازن فهو يعمل معي منذ فترة. لكنّ ذلك الشاب صارَ مِن أعزّ أصدقائي وكنتُ أسعَد الناس عند حضوري فرَحه وولادة ابنه لاحقًا.
بِما يخصّني، إلتقَيتُ بعد سنتَين بشاب حرّكَ قلبي الذي كان قد تألّمَ كثيرًا، فما مِن شيء يدوم، ومهما جرحَتنا الحياة فسيلتئم ذلك الجرح يومًا ونُتابع طريقنا مِن دون النظر إلى الوراء.
أنا اليوم مُتزوّجة وحامل وحياتي جميلة. عملتُ جهدي لإيجاد زوج مُتّزن وحكيم لا يحكمُ على الناس والأحداث بسرعة، بل يُركّز على الحوار والأدلّة الحسّيّة قبل اتّخاذ أيّ قرار. أظنّ أنّ قصّتي مع مازن كانت بمثابة مسودّة أفادَتني كثيرًا لأكتب لاحقًا أجمل قصّة حبّ.
حاورتها بولا جهشان