النفس الطيبة لا تتغيّر

لو لَم تتغيّر أمور البلد إقتصاديًّا لمَا فكّرتُ بتاتًا بالهجرة، إلا أنّ الوضع لَم يعُد يُطاق ولَم أعتَد الجلوس في البيت مِن دون عمَل. شابٌ مثلي لا يجدرُ به صرف مال أهله بل مُساعدتهم خاصّة أنّني كنتُ البكر بين الأولاد. لِذا سمعتُ مِن إبن عمّي الذي يقطنُ في فرنسا وحضّرتُ أوراقي ثمّ سافرتُ إليه لأعمل معه في شركة تجاريّة يملكُها... هذا قبل أن يعترفَ لي ماهر فور وصولي فرنسا أنّه بالفعل نادل في مطعم يحتاجُ إلى شبّان لا يطلبون الكثير، أي مُهاجرين لا يفكّرون سوى بترك بلدهم بأيّ ثمَن. تفاجأتُ كثيرًا لهذا الخبَر، فقد كان ماهر فخر العائلة لأنّه، أو هكذا اعتقدنا، ذهَبَ إلى أوروبا فارغ اليدَين وصارَ يملكُ شركة ناجحة تدرُّ عليه الخيرات. هو جعلَني أقسمُ له بعدَم البوح بالحقيقة لأحد، ووعدَني بالمُقابل أن يسعى ليجد لي عملاً أفضل مِن الذي دبَّره لي لأنّني أحملُ شهادة بالهندسة.

وبما أنّني كنتُ قد تكبّدتُ عناء السفَر إلى أوروبا لَم يعد بوسعي العودة، لِذا قبلتُ أن أعمَلَ في ذلك المطعم كنادل مثل إبن عمّي والكذب على أهلي كما هو فعَلَ، بانتظار الحصول على وظيفة لها علاقة بالهندسة.

سكنتُ مع ماهر في ستوديو صغير للغاية ونمتُ على الأرض على فرشة إسفنج غير مُريحة. مِن حسن حظّي أنّ إبن عمّي كان يعمل ليلاً في المطعم مرّتَين في الأسبوع، لأتمكّن مِن النوم على سريره وإراحة ظهري الذي عانى مِن النوم على الأرض.

وعندما وصَلَ آخر الشهر، حوّلتُ لعائلتي مبلغًا يوازي أكثر مِن ثلاثة أرباع راتبي الصغير لأوهمهم بأنّني أجني الكثير. لكنّني لَم أكن قادرًا على الإستمرار طويلاً هكذا، فكان عليّ شراء الأكل والشرب والملابس أيضًا. عندها فكّرتُ أن أفعل كماهر، أي أخذ نوبة ليليّة إضافيّة حتى لو كان ذلك مُتعبًا للغاية وقد يؤثّر على صحّتي. لَم أكن أريدُ خذلان أهلي مهما كلَّف الأمر.

لكنّ إبن عمّي حاوَلَ إقناعي بعدَم أخذ نوبة ليليّة، خاصّة إن كانت تتوافق مع نوبته ولَم أفهَم لماذا حتى اعترفَ لي:

 

ـ إسمع... صِرنا كالأخوة فنحن نسكن ونأكل ونشرب سويًّا... لِذا يُمكنني مُصارحتكَ... أنتَ تعلم أنّ الراتب الذي نتقاضاه حتى لو احتسبنا الإكراميّات ليس كافيًا لتعيش منه عائلتانا... فلقد قمتُ بالقبول بِعمل آخر، لنقل إنّه غير قانونيّ.

 

ـ ماذا؟َ!؟

 

ـ إسمعني أرجوكَ... الأمر يقتصر على نقل بعض الأغراض مِن مكان إلى آخر ليلاً.

 

ـ مخدّرات؟!؟

 


ـ للحقيقة أنا لا أسأل عمّا في الطرود ولا أُريدُ أن أعلم. لكنّ هذا العمل الإضافيّ يُوازي أضعاف راتبي في المطعم. ولَم أكن لأقول لكَ ما أفعلُه لولا رغبتكَ بالعمل في المطعم ليلاً.

 

ـ لا أدري ما أقوله يا ماهر... أنتَ تعلَم تمامًا أنّكَ تُخاطر بسمعتكَ ومستقبلكَ، فهكذا أمور نهايتها السجن.

 

ـ الأمر مؤقّت صدّقني.

 

أسفتُ لِماهر لأنّه لطالما كان شابًّا نزيهًا وجدّيًّا، وأعتقدُ أنّ الضغط العائليّ هو الذي قادَه إلى هكذا طريق. ففي بلداننا الشرقيّة، نعلّقُ أهميّة قسوة على الجاه والمراكز ليتباهى بنا أهلنا أمام الجميع، الأمر الذي قد يدفعُ بالبعض إلى الكذب أو الإنغماس في الممارسات المشبوهة.

لَم يعرض ماهر عليّ الإنضمام إلى أعماله غير الشرعيّة، وشكرتُه ضمنيًّا على ذلك لأنّني كنتُ سأستاء كثيرًا، ورحتُ أعملُ في المطعم ليلاً أيضًا، الأمر الذي أنهكَني.

هل أنّ الله يُحبُّني بشكل خاص أم أنّ الصّدَف لعبَت دورًا أساسيًّا بباقي الأحداث؟ كلّ ما أعرفُه هو أنّ فرصتي جاءَتني في مقرّ عملي، أي المطعم. فكان هناك زبون صارَ المُفضّل لدَيّ وأتبادلُ معه الحديث حين يأتي إلى المطعم ويكون العمل خفيفًا. السيّد كمال سُرَّ بلياقتي ولباقتي ومعرفتي الواسعة التي كانت ظاهرة لمَن تحدَّثَ معي، ووجَدَ أنّ عملي كنادل هو ظلمٌ لي. فقال لي ذات يوم:

 

ـ كم تتقاضى هنا؟

 

ـ ليس الكثير سيّدي لكنّه أفضَل مِن لا شيء. أرسلُ لأهلي مُعظم ما أجنيه وأتدبّرُ أمري بين الأكل هنا وشراء ما هو ضروريّ.

 

ـ لقد قلتَ لي إنّكَ تحملُ شهادة جامعيّة... في الهندسة، أصحيح ذلك؟

 

ـ أجل يا سيّد كمال لكنّني لَم أجِد عملاً في مجالي هنا، الله كريم!

 

ـ أنا بحاجة إلى مُساعد، ما رأيكَ؟

 

ـ ماذا تقصد بِمساعد؟

 

ـ لدَيّ شركة إستيراد وتصدير وصرتُ في سنّ مُتقدّم، وأريدُ مَن يقومُ بتذكيري بالمواعيد ومُرافقتي إلى الإجتماعات. لا أقصد أنّكَ ستصير سائقي فلدَيّ مَن يقودُ سيّارتي في المسافات البعيدة، أنا أحتاج فقط إلى مُرافق ومُساعد. سأُعطيكَ ما يُناسب درجة تعليمكَ إلى جانب تأمين صحّي. فكّر بالأمر.

 

ـ أوراقي ليست قانونيّة سيّدي فلقد جئتُ بتأشيرة سياحيّة، والمطعم لَم يُسجّلني كعامل شرعيّ لدَيه لِذا لا أُبارح عملي أو حتى الغرفة التي أتقاسمُها مع ابن عمّي.

 

ـ دَع الأمر لي.

 

أخبرتُ ماهر عن الأمر ففرِحَ لي كثيرًا، ووعدتُه بأن أُدبّر له عملاً مع السيّد كمال بعد وقت. وهكذا بدأتُ أُعاونُ ذلك الرجل الطيّب. وللحقيقة كان العمَل معه مُمتعًا للغاية إذ تعلّمتُ أمورًا عديدة عن عالم التجارة، ما أعطاني حافزًا إضافيًا كي لا أُخيّبَ آمال الذي قدَّمَ لي مُستقبلاً أفضل. تركتُ غرفة إبن عمّي لأنتقل إلى ستوديو خاص بي إستأجرتُه مِن راتبي، مع أنّ الأستاذ كمال عرَضَ عليّ دفع إيجاره إلا أنّني رفضتُ بتهذيب.

 

بقيتُ على تواصل مع ماهر والإلتقاء به أسبوعيًّا وكان يقصُّ عليّ أخبار زملائي والزبائن السابقين. وعندما قدَّمَ سائق الأستاذ كمال إستقالته، ركضتُ أخبرُ ماهر بالأمر ليأخذ مكانه. لكنّه قال لي:

 

ـ أشكرُكَ لأنّكَ بقيتَ على وعدكَ لي... إلا أنّني سأرفضُ... "جماعة الليل" وسّعوا أعمالهم ويُريدوني بشكل دائم معهم.

 

ـ لكن يا ماهر...

 


ـ أعلمُ ما ستقوله لي ولدَيكَ كلّ الحق. إسمع... أنا لستُ مثلكَ بل أنتَ أفضَل منّي.

 

ـ هذا ليس صحيحًا... عندما كنّا صغيرَين كنّا دائمًا سويًّا وحسبتُكَ كأخي... أنتَ إنسان جيّد وطيّب يا ماهر، فلا تضيّع نفسكَ هكذا... أعرضُ عليكَ أن تخرج مِن العالم الذي إنغمستَ فيه، أمدُّ لكَ يدي، فخُذها!

 

ـ لقد اعتدتُ على جني المال مِن دون تعَب... إلى جانب ذلك، "الجماعة" لن يقبلوا بسهولة إنسحابي. أدعو لكَ بالتوفيق ولا تنسَني!

 

حاولتُ كثيرًا مع ماهر إلا أنّه بقيَ على موقفه، للأسف. مِن جانبي، نلتُ منصبًا أفضل بعد أن صارَت حالتي شرعيّة وتعلّمتُ أسرار مهنة التجارة. وزادَ السيّد كمال راتبي، الأمر الذي ساهمَ بتحسين أمور أهلي وزيارتي للبلد كلّ ستّة أشهر.

في تلك الأثناء، صارَ ماهر أكثر غيابًا عنّي إلى أن انقطَعت أخباره نهائيًّا. وعلِمتُ بعد ذلك أنّه مسجونٌ بتهمة نقل مخدّرات، تمامًا كما تنبّأتُ له.

حين رحتُ أزورُ إبن عمّي وجدتُه نحيلاً ومُكتئبًا، فعملتُ لرفع معنويّاته إلا أنّني لَم أنجَح بذلك فكان سيقضي سنوات وراء القضبان. وقبل أن أُغادر، قال لي:

 

ـ سيُرسلون إلى أهلي بعض المال شهريًّا... أعنّي بذلك "الجماعة".

 

ـ ألَم يكن مِن الأفضل لو أنّكَ حرٌّ وتُرسل أنتَ لذويكَ المال مِن عمَلكَ الشريف؟

 

ـ بلى، بلى... لكن هكذا هي الظروف.

 

ـ لا! ما حصَلَ لكَ هو نتيجة خياراتكَ يا ماهر. أنتَ لستَ ضحيّة في حين أتَت لكَ فرصة لِترك "جماعتكَ". العمل الشريف يتطلّب منّا أن نتعب مِن أجله وأنتَ فضّلتَ المال السهل. عائلتكَ تأكلُ وتشربُ مِن مال ملوّث، لا تنسَ ذلك. على كلّ حال، سأكون موجودًا عندما تخرج. لن أترككَ، لكن في حينها سنتصرّف على طريقتي، أتسمع؟

 

ـ ألا تزال تؤمِن بي؟

 

ـ يحقّ لنا جميعًا بفرصة ثانية، وأنتَ في الأساس رجل طيّب ومن السهل عليكَ العودة إلى طيبتكَ.

 

تزوّجتُ مِن شابة فرنسيّة أعطَتني ولدَين جميلَين، فبنات بلَدي طمِعنَ بجنسيّتي الفرنسيّة والمال الذي صرتُ أجنيه. وبقيتُ أزورُ إبن عمّي بطريقة مُنتظمة.

يوم خرَجَ ماهر مِن وراء القضبان كنتُ بانتظاره على باب السجن، فتعانقنا وصعدنا في سيّارتي الجميلة التي حمَلَته على الإبتسام:

 

ـ أرى أنّكَ نجحتَ حقًّا بعملكَ!

 

ـ أجل والحمد لله وللسيّد كمال... صرتُ المُدير الإقليميّ للشركة ولدَيّ عملٌ جيّدٌ لكَ.

 

ـ توظّفون خرّيجي سجون؟

 

ـ نوظّفُ كلّ مَن أرادَ حقًّا العمَل ولا يخافُ مِن التعَب.

 

ـ وهل سأتعبُ كثيرًا؟

 

ـ كثيرًا، لكنّكَ ستجني المال النظيف.

 

ـ ولا تزال تثقُ بي بعد كلّ الذي تعرفه عنّي؟

 

ـ أنتَ إبن عمّي وأخي وأعلَمُ أنّ تربيتكَ كانت حسنة. اليوم هو ولادة جديدة بالنسبة لكَ. لِنقُل إنّنا عُدنا بالزمَن إلى الوراء وها أنتَ ماهر الذي يتحضّرُ للسفر إلى فرنسا، وأنّ الأدوار قد انقلبَت إذ أنّني الذي سيُؤمّنُ لكَ عملاً. إتّفقنا؟

 

ـ إتّفقنا.

 

لَم أندَم على إعطاء ماهر فرصة جديدة، إذ انّه أراني حماسًا لا مثيل له وجدّيّة في العمل. هو الآخر تزوّجَ بعد سنتَين مِن فتاة مِن بلَدنا كانت تُعجبُه حين كان لا يزال هناك.

ماذا كان حصَلَ لِماهر لو أدَرتُ له ظهري؟ كان سيعودُ مِن دون شكّ إلى "الجماعة"، ويُكملُ العمل معهم وينتهي به المطاف حتمًا في السجن. فمصير تجّار الموت هو العَيش في الخوف والسجون.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button