لقد انتظَرَ باسم زوجي ترقيَته في عمَله منذ فترة طويلة، وكان الأمر بالنسبة له بمثابة اعتراف لجهود كبيرة قامَ بها لتحسين سَير عمليّات الشركة. لكنّ الموضوع طالَ وطالَ، الأمر الذي ولَّدَ لدَيه قلَقًا كبيرًا وشيئًا مِن الغضب. فالجدير بالذكر أنّ هناك احتمال أن تنال إحدى زميلاته تلك الترقية، فقط لأنّها أنثى، حسب قول زوجي. فالمُدير على ما يبدو، رجُل يهوى السيّدات كثيرًا. وحسب باسم أيضًا، ستستعملُ سُهى زميلته أو استعملَت أنوثتها للوصول إلى ذلك المركز المرموق. لَم أحبّ كيف أنّ زوجي بدأ يتكلّم عن تلك المرأة بألفاظ بشعة ونعوت تمسُّ بأخلاقها وشرَفها، خاصّة أنّه لَم يملُك أيّ دليل على إتّهاماته. قد تكون سُهى تستحقُّ الترقية بالفعل، وما أدراني؟ على كلّ الأحوال، حاوَلتُ تهدئة باسم وتطمين باله، بأنّه سيترقّى في وقت مِن الأوقات إن لَم يكن في القريب العاجِل، وبأنّ عليه مُتابعة عمَله بضمير ومُثابرة بغضّ النظَر عن النتيجة.
لكنّ زوجي لَم يتراجَع، فبدأ يُراقبُ سُهى مِن أوّل الدوام حتى آخِره، ويسألُ باقي الموظّفين عن سلوكها في الشركة. لَم يتجاوَب أحَد معه وحاوَلَ أحَد زملاء باسم تهدئة روعه وحمَله على نسيان تلك الأفكار، إلا أنّ زوجي زادَ إصرارًا وصارَ يرى خوَنة ومُتواطئين مِن حوله. وسرعان ما باتَ مهووسًا بسُهى وعلاقتها المشبوهة بالمُدير، لِدرجة أنّه فقَدَ النوم والشهيّة على الأكل.
وهكذا لَم يعُد باسم الزوج والأب المُحبّ، بل صار إنسانًا مليئًا بالغيرة والبُغض والغضب، وينزعجُ مِن كلّ شيء. وأخذَ يُبدي ذلك الانزعاج عاليًا ضاربًا عرض الحائط بمشاعر الآخَرين. تمنَّيتُ لو تنتهي مسألة الترقية بسرعة بطريقة أو بأخرى لأسترجعَ زوجي الحبيب. لكنّ المسألة طالَت بعد أن تغيَّرَ مجلس الإدارة في الشركة، وبدأ الأعضاء الجدُد بدراسة ملفّات الشركة مِن جديد. لِذا أرجأ مُدير باسم موضوع الترقيات إلى أجَل غير مُسمّى. وهكذا استمرَّ عذابي وعذاب الأولاد، واضطُرِرنا لسماع النقّ والتذمّر والاتّهامات على مدى أيّام وأسابيع.
للحقيقة لَم أفهَم كلّيًّا سبب حالة زوجي، إلا حين اجتمَعتُ بحماتي واثَرتُ أمامها ما يحصل في حياة ابنها وحياتنا نحن، فهي هزَّت برأسها وقالَت:
- لطالما كان باسم يغارُ مِن أخيه أو زملائه في المدرسة... فبنظره عليه أن يكون الأشطَر والأوّل في كلّ شيء حتّى لو هو لا يستحقّ ذلك. هو يُريدُ التقدير والتبجيل طوال الوقت. الحقّ يقَع جزئيًّا عليّ، فأخوه كان ولَدًا مُتفوّقًا في المدرسة، ورأيتُ فيه بذرة رجُل مُهمّ للغاية. قد أكون أهمَلتُ باسم مِن هذه الناحية فامتلأ إمتعاضًا... لستُ أدري. أرجو أن ينال تلك الترقية، فكما أعرفُه، سيقلبُ حياتكم إلى جحيم يوميّ.
لَم يُطمئنَني كلام أم باسم، فقرّرتُ أن أُنظَّمَ برنامجًا خلال فرصة العيد للترفيه عن زوجي وأولادي. لِذا حجزتُ غرفتَين في فندق في الجبَل، حيث تُقام نشاطات بيئيّة كالرحالات سَيرًا على الأقدام في الطبيعة أو على الدرّاجات الهوائيّة. قبِلَ باسم مُرافقتنا على مضَض فارتاحَ بالي وامتلأ بالأمل.
وصَلنا الفندق المذكور، لكنَ زوجي رفَضَ الخروج مِن الغرفة إلا لتناول الوجبات، فأخذتُ الأولاد وقُمنا سويًّا بالنشاطات العديدة التي أعادَت لنا البسمة والراحة. عُدنا إلى البيت بعد ثلاثة أيّام، وعادَ الهمّ يُحيطُ بنا.
وفي أحَد الأيّام، عادَ زوجي والبسمة على وجهه وقبّلَني على خدّي بقوّة قائلاً:
ـ لقد ضبطُُّهما سويًّا!!!
ـ مَن؟
ـ مَن؟!؟ سُهى والمُدير طبعًا! زوجكِ يا سيّدة، هو رجُل مُثابِر وذكيّ للغاية! هنّئيني!
ـ على ماذا؟ هل نلتَ الترقية؟
ـ لِما الاستهزاء؟ أنتِ تعرفين أنّني لَم أنَلها... بعد! لكنّني صِرتُ أعرفُ ما يجري على التمام وكيف أنقضُ ترقية سُهى إن حصلَت.
ـ لدَيكَ دليل على تلك العلاقة؟
ـ للحقيقة، لا. لكن...
ـ مِن دون دليل لا تستطيع فعل شيء، يا عزيزي. إضافة إلى ذلك، مُراقبة الناس بهدف التشهير بهم هو خطيئة.
ـ كفاكِ مواعِظ! أرى أنّكِ لستِ إلى جانبي... زوجتي تنقلِبُ ضدّي! أنا لوحدي في هذه المعركة! حسنًا... أنا على قدَر الحِمل!
ـ باسم، ستفقدُ صوابكَ مِن جراء تلك المسألة. نحن نُعاني منكَ في البيت، حذارِ!
ـ لن تعانوا بعد أن أفوز بالترقية وأجلُب إلى البيت المزيد مِن المال!
ـ المال ليس كلّ شيء، ونحن نُريدُ زوجًا وأبًا مُحِبًّا وحاضِرًا بيننا.
لكنّ فرحة باسم كانت قصيرة الأمَد، فاتّضَحَ أنّ سهى لَم تكن برفقة مُديرها لدواعٍ شخصيّة بل للعمَل، وكان هناك موظّف آخَر معهما، الأمر الذي ينفي تمامًا ما كان يدورُ في رأس زوجي. لكنّه لَم يستسلِم بل زادَ تصميمًا وشراسةً، لِدرجة أنّه صارَ يُهملُ عمَله الذي كان يبرَع فيه. للحقيقة، وُلِدَ في قلبي امتعاض تجاه الرجُل الذي تزوّجتُه وأنجَبتُ منه، فلَم أعُد أعلَم مَن هو بالفعل. فالذي رأيتُه منه في الأواني الأخيرة لا ينطبِقُ على الصورة التي كانت لدَيّ عنه. هل هو تغيّرَ أم كان هكذا مِن البداية ولَم تأتِ فرصة ليظهر جانبه الداكِن؟
نهاية زواجنا إنطلقَت مِن سهرة أقامَتها الشركة لموظّفيها وعائلتهم، فاصطحبَني باسم ورحنا إلى ذلك الفندق الفخم. هناك تعرّفتُ إلى زملاء زوجي ومُديره. ثمّ سحبَني باسم مِن يَدي وعرّفَني على سُهى وبسمة بشِعة على وجهه. بعد ذلك، سألَني جانبًا عن رأيي بها، فقلتُ له إنّها إنسانة لطيفة وجميلة وأنيقة... وحسب! فماذا أقولُ عن شخص لَم أتبادَل معه سوى كلمات معدودة؟ وطوال السهرة، لَم يترك نظر زوجي سُهى أو المُدير، في مُحاولة منه لإيجاد أيّ دليل على نظريّته. وحين عُدنا إلى البيت قال لي:
ـ ما رأيكِ؟
ـ سهرة لطيفة.
ـ أعني عن هذَين العشيقَين؟
ـ لَم أرَ شيئًا مُريبًا.
ـ أنتِ على حقّ... فأنا وجدتُ المُدير مُهتمًّا بكِ بشكل خاص.
ـ ربّما لأنّني زوجتكَ وهو يُقدّرُكَ.
ـ لا... أنا رجُل وأعرفُ ما يعني ذلك الاهتمام.
ـ ماذا تقصد، يا باسم؟!؟
ـ هو يهواكِ بشكل خاص.
ـ كفى! أنتَ تفقدُ صوابكَ!
ـ لا تُسيئي فهمي أرجوكِ... لستُ مُستاءً بل العكس... هذا يعني أنّ فُرَصي لِنَيل الترقية زادَت... أنا مسرور للغاية! للحقيقة أنتِ أجمَل مِن سُهى بكثير وأكثر جاذبيّة! عرِفتُ كيف أختار شريكة حياتي!
ـ كلامُكَ غير مُتّزِن يا باسم، إحترِس!
ـ ماذا لو... وأعني ماذا لو...
ـ لا تُكمِل!
ـ دعيني أتكلّم! ماذا لو أقَمنا للمُدير عشاءً على شرَفه... فمأكولاتكِ شهيّة... وتلبسين له ذلك الفستان الأسود المُثير الذي أُحبُّه كثيرًا.
ـ باسم!
ـ وخلال ذلك العشاء تبدين اهتمامًا به... بعض القصص الطريفة والنظرات الجذّابة.
ـ أنتَ مجنون!
ـ وإن هو تجاوَبَ معكِ، قد أدّعي أنّ مُكالمة مُهمّة جاءَتني وأنّ عليّ الخروج لأمر طارئ... لن أطيلَ الغياب... فقط كفاية لتتبادَلا كلامًا جميمًا أكثر و...
ـ سأنامُ لوحدي في الغرفة الليلة وأنتَ في إحدى غرف الأولاد! أنتَ مجنون ولا تعي أبعاد ما تقوله! تُريدُ أن تستعمِلَ زوجتكَ لِنَيل الترقية؟!؟ باسم!!!
ـ لن يحدُثَ شيء بينكما فعليًّا... أمور خفيفة للغاية لكن كافية ليتعلّق به.
ـ لا أريدُكَ في البيت! إذهب إلى أهلكَ على الفور!!! ولا تعد إلا حين تسترجِع صوابكَ، يا قليل الأخلاق!
ـ لن أذهَبَ إلى أيّ مكان، فهذا بيتي وأنتِ زوجتي وستفعلين كما أقول!
أخذتُ أولادي وسط الليل وقصدتُ بيت أبويَّ باكية مِن كثرة غضبي، بعدما أهانَني الرجُل الذي مِن المفروض أن يحميني ويُحافِظ على شرَفي.
حاوَلَ باسم استرجاعنا في الأيّام التي تلَت، لكنّني لَم أقبَل العودة بعد أن تبيّنَ عدَم تراجعه عن فكرته. كنتُ بالفعل قد بدأتُ أشمئزُّ منه، ولَم أتصوّر نفسي تحت سقف واحد معه. لَم أقُل لأهلي عن السبب الحقيقيّ لتَرك بيتي، إذ خجِلتُ أن يعرفوا أيّ إنسان هو أب أولادي.
بقيتُ خارج المنزل الزوجيّ لمدّة ثلاثة أشهر، أيّ إلى حين نالَ باسم ترقيته أخيرًا بسبب مهارته في العمَل وحسب، أيّ كما كان سيحصلُ مِن الأوّل مِن دون تلك التصوّرات والمُخطّطات البشِعة. عندها حاوَلتُ استعادة شيء مِن حبّي لباسم، لكنّني لَم أستطِع نسيان ما كان ينوي فعله بي مِن أجل منصِب. إضافة إلى ذلك، تغيّرَ زوجي كثيرًا معي، إذ أنّه اعتبَرَ أنّني خنتُ عهدي له بعدَم قبول مُساعدته، فبقيَ يوبّخُني وينعَتُني بالزوجة غير النافِعة. هو لَم يرَ أبعاد ما كان يُريدُني أن أفعل مع مُديره، لِذا... طلّقَني! أجل، قرأتم جيّدًا! للحقيقة لَم أزعَل بل تفاجأتُ كثيرًا بقراره. لكنّني ارتحتُ مِن فكرة العَيش معه على صعيد يوميّ بعد أن اشمأزَّيتُ منه إلى أقصى درجة. تمَّ الطلاق وتقاسَمنا حضانة الأولاد، لكنّهم بقوا معي عند أهلي في مُعظم الوقت.
كيف تظهَرُ على إنسان نعرفُه جيّدًا صفات بهذه البشاعة؟ وهل بإمكاننا أن نعرفَ حقًّا أحدًا؟ جوابي هو لا، على الأقل استنادًا لتجربتي الشخصيّة، فلا شيء دلَّ مُطلقًا على ما كان سيحصل، بل لطالما خِلتُ أنّ زوجي هو أفضل رجُل في العالَم. يا لَيتنا نستطيع قراءة أفكار الناس، فنكتشِف أسرارهم ومخاوفهم وعقَدهم النفسيّة، ونوفَّرَ على نفسنا الكثير مِن العناء والحزن والخذلان!
حاورتها بولا جهشان