المكتوب لا يُقرأ مِن عنوانه

قصّتي هي حَول الأحكام المُسبقة التي يُطلِقُها الناس، وكيف يتصرّفون تبعًا لها، ومدى تأثيرها على حياة الآخَرين. فأنا كنتُ ضحيّة مُجتمَع حكَمَ عليّ منذ صِغَري، ولَم يتراجَع عن حكمه حتّى بعد أن أثبتُّ للجميع أنّهم مُخطئون.

فلقد ولِدتُ بعد أربعة صبيان، وبيني وبين الأخ الأصغَر عشر سنوات. فأرادَت والدتي ابنة، فصلََّت واتّبعَتَ حميات خاصّة... إلا أنّها أنجبَت ولَدًا خامسًا: أنا. ولكثرة غضبها ويأسها، قرَّرَت أن أكون فتاة بالقوّة. عندها بدأَت متاعبي، فمذ كنتُ طفلاً رضيعًا، هي ألبسَتني اللون الزهريّ، وربطَت رأسي بوردة حاكَتها مِن الصوف وأعطَتني كنية "فوفي" بدلاً مِن "فراس". وظنّ كلّ مَن رآني أنّني بنت، ولَم تُكذِّبهم والدتي. أمّا بالنسبة لأبي، فهو كان لا يأبَه كثيرًا لِما يحصل، فقد كان يعلَم تمام العِلم أنّ زوجته لا تفعل سوى ما في بالها ولا منفعة مِن مُناقشتها. إخوَتي وجدوا الأمر طريفًا في البدء ثمّ انشغلوا بحياتهم الخاصّة، إلا أنّ وقتًا جاء واعتقدوا أنّ لدَيهم أختًا بالفعل.

كبرتُ وأنا ألبسُ الفساتين، وصارَ شعري طويلاً تربطه أمّي بمشابِك ملوّنة ولا تُهديني سوى الدمى. لكن في داخلي كنتُ ولَدًا أنظرُ في واجهات المحلات إلى الألعاب المُخصّصة للصّبيان، كالسيّارات وما أشبَه. إلا أنّني اعتقدتُ أنّ ما يحصلُ لي طبيعيّ جدًّا، خاصّة عندما صِرتُ أُساعِد أمّي بالجلي وتنظيف البيت. كنتُ أحبّ كثيرًا جلساتي معها، حين كنّا نضَع المساحيق على وجهَينا ونُسرِّح شعر بعضنا ونضحك سويًّا.

يوم دخلتُ المدرسة إضطرَّت والدتي لقصّ شعري الجميل وبكينا معًا. ثمّ ألبسَتني لأوّل مرّة سروالاً وقميصًا. وأعترفُ أنّني شعرتُ بانزعاج كبير بعدما تعوّدتُ على التنانير والفساتين، وكنتُ أنتظرُ بفارغ الصبر موعد عودتي إلى البيت لأخلَع تلك الملابس المُزعجة. وعلى مرّ الوقت، باتَت لي حركات وأذواق خاصّة بالبنات، فهكذا تربَّيتُ وعلى ذلك تعوّدتُ.

لاحَظَ طبعًا رفاقي في المدرسة كيف أنّني أمشي وأتحرّك كالبنات، وصاروا يسخرون منّي ويُنادوني "فوفي" كما سمِعوا أمّي تفعل حين كانت تنتظرُني عند باب المدرسة وتراني قادمًا إليها مِن بعيد. في البدء لَم أنتبِه إلى ما كان يجري، لكن بعد حين، صارَت الأمور مُبالغًا بها إلى حدّ التنمّر، فاشتكَيتُ لأمّي وهي راحَت تُقابِل المُديرة. تمّ تأنيب المُتنمّرين... لفترة قصيرة، وباتَت المدرسة بالنسبة لي مكانًا رهيبًا أخافُ التواجد فيه. وبدأتُ أمرَض بصورة دائمة كَي أبقى في البيت أطوَل مُدّة مُمكِنة.

إستمرَّت الأوضاع على حالها إلى حين انتشَرَ خبَر "أنوثتي" في كلّ مكان، خاصّة الحَي والمعارف ومعارف المعارف. وشعَرَ اخوَتي وأبي بخجَل كبير فقرّروا أنّ الوقت حان لوضع حدّ لهذه المهزلة. فوقفوا في وجه أمّي، ولأوّل مرّة استطاعوا كَسر إرادتها وحَملها على الانصياع لرغبتهم: كان عليّ أن أكون صبيًّا حقيقيًّا. إضافة إلى ذلك، هدَّدَها أبي بالطلاق، بعد أن صارَ محطّ سخرية زملائه في العمَل وأصدقائه، وفضَّل خسارة زوجته على خسارة كرامته وتشويه اسمه واسم أجداده. وابتداءً مِن ذلك الموقف الصرم، تغيّرَت حياتي بشكل جذريّ، فتخلّصَت والدتي مِن كلّ الملابس وأدوات الزينة النسائيّة التي كانت مُخصّصة لي. وأعترفُ أنّني لَم أفهَم هذا القرار المُفاجئ، في حين لَم يعترِض أحَد مِن قَبل على سَير حياتي. إضافة إلى ذلك، قامَ إخوَتي بما كان يجب أن يفعلوه منذ سنوات، وهو اصطحابي معهم لمُشاهدة مُباريات رياضيّة، ورحلات ومُخيّمات حيث يختلط الشبّان ويتكلّمون عن أمور خاصّة بهم. أحبَبتُ مرافقة إخوَتي، فحتّى ذلك الحين هم تجاهلوني واعتبروني صغيرًا بالنسبة لهم و"مُختلفًا"، فعمِلتُ جهدي لأبدوَ مُهتمًّا بطريقة حياتهم. لكن في بالي كانت هناك أمور أخرى: تصفيف الشَعر والماكياج. كتمتُ تلك الأفكار كَي لا أخسَر هذا الانتباه الجديد، وافتخَرَ بي ذكور العائلة. وحدها والدتي كانت مُستاءة لِما يحصل، إلا أنّها وقفَت جانبًا كَي لا تخسَر زوجها وعائلتها. لكن حين كنتُ أتواجَد معها لوحدنا، كنّا نُطلقُ العنان لحياتنا السابقة بالتحدّث عن التسريحات الجميلة والماكياج وكلّ جديد في ذلك المجال.

مرَّت السنوات ولَم أستطِع التخلّص تمامًا مِن حركاتي الأنوثيّة بالرغم مِن مُحاولاتي. فالعادات التي نكتسبُها حين نكون صغارًا هي صعبة التبديل. فعلتُ جهدي لأتأقلَم مع باقي رفاقي، وابتكَرتُ لنفسي شخصيّة أخرى وكأنّني مُمثِّل أقومُ بدور للسينما أو المسرَح. بكلمة، لَم أكن على طبيعتي إلا حين كنتُ في البيت بين جدران غرفتي أو مع أمّي. ففي عَينَيها، كنتُ أرى الحبّ لمَن أنا حقًّا والتقبّل، الأمر الذي افتقدتُه مع أيّ كان.

وحين صرتُ مُراهقًا، بدأتُ أشعرُ بانجذاب تجاه الصبايا، فلا تنسوا أنّني لَم أكن مثليًّا بل فقط ما يُسمّونه "مُخنّثًا" بسبب حركاتي وطريقة لبسي "الفنّيّة". لكنّ الفتيات لَم تكنّ مُهتمّات بأمثالي، بل بالشبّان الأقوياء ذوي الرجولة الواضحة. كنتُ بالنسبة لهم الصديق والأذن الصاغية لمشاكلهنّ، والناصِح في ما يخصّ الموضة وآخِر الصيحات. قبِلتُ بهذه الصفات لأبقى قريبًا منهنّ، لكنّني أدركتُ أنّني لن أتخطّى "منطقة الصداقة" أبدًا. يا إلهي... ماذا أفعَل؟!؟ فأنا كنتُ شابًّا حقيقيًّا لكن ذا أذواق رفيعة وناعِمة.

وبعد أن أنهَيت مدرستي، وجدتُ مِن المُناسِب لي أن أدخُل معهدًا لتعليم تصفيف الشَعر والماكياج، الأمر الذي كنتُ أحبّه أكثر مِن كلّ شيء. فمنذ صغري وأنا أُصمِّم في رأسي التسريحات لجميع المُناسبات وخاصّة للعرائس، وأضيف عليها أدوات الزينة والماكياج. عارَضَ أبي موضوع دخولي المعهد، وأجبرَني على العمَل معه، الأمر الذي كان مرفوضًا تمامًا بالنسبة لي. عندها تشجّعَت والدتي واقترحَت عليه أن أعمَل معه نصف دوام وأذهب بعد ذلك إلى المعهد، مُضيفة ببسمة أنّها مُتأكّدِة مِن أنّني سأترك المعهد بعدما أفضِّل العمَل الخشِن مع الرجال. إلا أنّها كانت مُتأكّدة مِن العكس، وكانت على حقّ.

تعِبتُ كثيرًا خلال تلك السنوات لكنّني لَم أستسلِم، ففعَلَ والدي جهده لتنمية "رجولتي" أثناء العمَل معه، على أمَل أن تتغلّب على أنوثتي الداخليّة، مِن دون جدوى طبعًا. فحلمي كان أن أُزيّن النساء بمئة لون لتَلمَع كأقوى شمس.

برعتُ في المعهد وصِرتُ المُفضَّل لدى استاذي الذي دعمَني كثيرًا لأنّه رأى فيّ بذرة مُصفِّف ناجح، وأرادَ أن يكون اسمه يومًا مقرونًا باسمي. مُعظم رفاقي في المعهد كانوا مثلي، أي يتمتّعون بحسّ أنوثيّ ولا أدري إن كانوا مثليّين أو كشأني، ولَم يهمّني الأمر أبدًا. فكنّا نُشكِّل صفًّا يملأه الحماس والابداع. إستسلَمَ أبي أخيرًا بعدما أدركَ أنّني كما أنا، ولن يستطيع تغييري.

بعد تخرّجي بنجاح، ضمّني مُصفِّف مشهور إلى صالونه بعد أن أوصى بي أستاذي، وتعلّمتُ بالفعل كيف يكون التنفيذ. فبذلك المحلّ، لا مكان للتلكؤ والتردّد أو الكسَل. كان علينا أن نكون جاهزين للزبونات الراقيات وإلا تمّ طردنا بلحظة.

عمَلي عند ذلك المُصفِف كان أمرًا كبيرًا كاسمه وكان الراتب أيضًا كبيرًا، وذلك ساعَدَ ذكور العائلة على تقبّل الأمر، فهكذا هم الناس، يهمّهم أوّلاً الشهرة والمال، فارتحتُ أخيرًا مِن التلميحات البشِعة والنظرات الساخِرة مِن قِبلهم.

في الصالون تقرّبتُ مِن إحدى زميلاتي، وهي الأخرى ظنَّت أنّني مثليّ، فصادقَتني وأخبرَتني عن مشاكلها العاطفيّة واستمعتُ إليها ونصحتُها. وسرعان ما صِرنا "ثنائيًّا" ناجحًا في العمَل. كانت مُنى جميلة للغاية وذات شَعر رائع فبدأتُ أرسمُ لها سرًّا التسريحات الجميلة التي تليقُ بها.

إستمرَّ الوضع هكذا لمدّة سنتَين، وزادَ حبّي لمُنى لدرجة لا توصَف. لكنّني خفتُ أن أخسَرها إلى الأبد يوم أخبرَتني أنّها خُطِبَت وزواجها باتَ قريبًا. أهدَيتُها على مضَض رسمة تسريحة فرَح كنتُ قد ابتكَرتُها لها، على أمَل أن أُنفّذها لها في فرحَنا أنا وهي. ولشدّة اعجابها بالرسمة، أرَتها للمُصفِّف المشهور، وهو ذُهِلَ بالفكرة، ثمّ طلبَني وقالَ لي إنّه ينوي شراء حقّ التسريحة ووضعها باسمه. رفضتُ بقوّة، فتلك التسريحة كانت لحبيبة قلبي وليس لسواها! وأمامَ رفضي القاطِع، سألَني صاحب الصالون ما الذي أريدُه لأقتنِع، فأجبتُه: "أحبُّها... وأريدُها... إقنِعها بي". نظَرَ إليّ الرجُل وأجابَ بذهول: "أنتَ تهوى النساء؟ أمر عجيب! حسنًا... سأفعل ما بوسعي لكن عليكَ أن تقومَ أنتَ أيضًا بما سأمليه عليك."

أقامَ المُصفِّف حفلاً خصيصًا لتنفيذ الخطّة، في مطعم جميل يُطلُّ على البحر، وردَّدَ لي ما يجب أن أفعله. وبعد العشاء، أخذتُ مُنى بنزهة على الشاطئ بحجّة البحث في التفاصيل المُتعلّقة بفرَحها وبالأخصّ بالتسريحة. أمسكتُها بِيَدها ومشينا على الرمال بعدما خلَعنا حذاءَينا. ثمّ توقّفتُ عن المشي ونظرتُ إليها مُطوّلاً قائلاً: "قَبل أن تصبحي لغيري وأخسرَكِ..."، وقبّلتُها على شفتَيها! هي تفاجأَت كثيرًا ليس فقط بسبب القبلة، بل لأنّني أنا الذي أُقبّلها. تلبّكَت الصبيّة كثيرًا لكنّها لَم تغضَب منّي بل قالَت: "حسبتُكَ... أعني... ظننتُ أنّكَ لا تهوى النساء... لكنّ قبلتكَ كانت قبلة رجُل لامرأة". أمسَكتُ وجهها بيَديّ ونظرتُ إلى عَيَنيها وقلتُ:

 

ـ أحبُّكِ يا مُنى... أحبُّكِ منذ البداية.

 

ـ كَم مِن مرّة تمنَّيتُ أن تكون... عاديًّا! لماذا لَم تقُل شيئًا مِن قَبل؟

 

ـ خفتُ أن تبتعدي عنّي، ففضّلتُ البقاء في "منطقة الصداقة" لأكون قريبًا منكِ. سامحيني على جرأتي، ربّما لَم يكن يجدرُ بي تقبيلكِ.

 

ـ بالعكس، مِن الجيّد أنّكَ فعلتَ ذلك... الآن أفهَم قصد المُصمّم حين هو كلّمني عنكَ منذ أيّام، وأشادَ بكَ وقالَ لي إنّ عليّ النظَر إليكَ مِن زاوية مُختلفة! هل هو على عِلم بمشاعركَ تجاهي؟

 

أخبرتُها القصّة وكيف أنّه يُريدُ شراء التصميم منّي وكيف تمّ الاتّفاق بيننا.

قمتُ بتسريح شَعر حبيبتي ... في عرسنا، ثمّ أهدَيتُ التسريحة للمُصفِّف الذي أجرى عليها بعض التعديلات ووضعها باسمه. أنجَبنا ولدَين ولَم يُصدّق أحدًا أنّ "المُخنّث" تزوّجَ وأنجَبَ!

كدتُ ألا أذوق طعم الحبّ والسعادة بسبب أحكام الناس عليّ وتصوّراتهم. ما شأنهم وشأني؟ ما الذي يُزعجهم بحركاتي وميولي؟ هل أنّ حياتي تؤثّر عليهم إلى هذا الحدّ؟!؟

اليوم لدَيّ صالوني الخاص وإسمي على كلّ لسان وتقصدني زبونات مِن جميع أنحاء العالم العربيّ. ولا يزال الكثير يتّهمني بالمثليّة بالرغم مِن معرفتهم بأنّني زوج وأب. أمّا بالنسبة لأهلي، فهم فخورون بي لأقصى درجة... بعدما صرتُ أنعَم عليهم بما رزقَني الله.

وحدها أمّي صادِقة بمشاعرها تجاهي. هل هي أخطأت بطريقة تربيتها لي؟ أجل، فلقد تعذّبتُ كثيرًا بسبب حكم الناس عليّ، لكنّها أتاحَت لي بتفجير مواهبي التي كانت ستظلّ مدفونة تحت ذكوريّتي. على كلّ الأحوال، لَم تقصد والدتي الأذيّة طبعًا، فكيف لي أن أحكم عليها؟

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button