كانت الخالة ثريّا تأتي لزيارتنا بين الحين والآخَر وتستقبلها أمّنا برحابة صدر وتُقدِّم لها كلّ ما هو لذيذ وشهيّ وتُعطيها الطعام في مُستوعبات لتأخذه معها. فالحقيقة أنّ تلك المرأة الأربعينيّة كانت فقيرة وتعيشُ مِمّا يُعطيها أهل البلدة مِن طعام ولباس. لَم أستغرِب مُعاملة أمّي لها، فلقد ربينا هكذا، أيّ أن نُساعِد مَن هو بحاجة مِن دون حسبان، فإن أنعَمَ الله علينا، فعلينا بدورنا أن ننعَم على غيرنا.
لكنّ حالة الخالة ثريّا كانت تُشغِلُ بالي، إذ أنّني سألتُ والدتي مرارًا عن سبب فقرها هذا وخاصّة وحدتها، وفي كلّ مرّة تفادَت الإجابة، ما أجَّجَ فضولي طبعًا. فكبِرتُ وفي نيّتي معرفة قصّة تلك المرأة التي لا يتكلّم عنها أحَد، فلقد سألتُ مَن هم حولي وتفادوا أيضًا الإجابة.
مع السنوات، نسيتُ الموضوع وركّزتُ على دراستي إذ أنّني كنتُ قد صرتُ في الصفوف الثانويّة وأردتُ أن أدخُل لاحقًا أفضل جامِعة. لِذا تفاجأتُ كثيرًا يوم قيلَ لي إنّ الخالة ثريّا توفَّت وعليّ مُرافقة أهلي إلى مراسم الدفن. حزِنتُ مِن أجلها، إذ أنّها باتَت جزءًا مِن حياتنا وها هي ستغيب عنّا إلى الأبد.
لكن حين دخَلنا قاعة التعازي، لَم أجِد سوى بعض الأناس المألوفين لدَي، ومُعظمهم أقارِب لنا. ألَم تكن تعرفُ ثريّا أحَدًا، ألَم يكن يعرفُها أحَدٌ؟ زادَ حزني عليها لأنّها عاشَت وحيدة في العوز، وماتَت أيضًا وحيدة.
لدى عودتنا إلى البيت، أطلَعتُ والدتي على مشاعري حيال حياة وموت ثريّا وهي وافقَتني الرأي، لكنّها قالَت:
ـ هي لًم تكن هكذا طوال حياتها.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ لا شيء، لا شيء.
ـ ما الأمر يا ماما؟ لماذا هذا التكتّم حيال حياة الخالة ثريّا؟ فلَم أستطِع يومًا معرفة شيئًا عنها!
ـ إنّها قصّة طويلة...
ـ لدَيّ مُتّسَع الوقت، هيّا إبدَئي!
ـ الآن؟ أنا مشغولة جدًّا. ربّما في وقت لاحق.
تركَتني والدتي وبدأت تُحضِّر وجبة الطعام فاحترَمتُ عدَم رغبتها بالكلام، لكنّني لَم أستسلِم، فقصدتُ جدّتي العجوز التي تسكنُ على بعد أمتار منّا. وبعد أن ألقَيتُ التحيّة عليها وقبّلتُها مئة قُبلة قلتُ لها:
ـ لَم تذهبي إلى دفن الخالة ثريّا.
ـ بالكاد أستطيع التحرّك، أنظري إليّ!
ـ لكنّكِ كنتِ موجودة في حفل زفاف قريبتنا منذ أسبوعَين وأطلقتِ الزغاريد عاليًا! لماذا لَم تكوني في دفن الخالة ثريّا؟
ـ لأنّني لَم أرِد الذهاب!
ـ لكن لماذا؟!؟
ـ ما هذا الفضول!
ـ الكلّ يتفادى التكلّم عن تلك المرأة مع أنّكم جميعًا ساعدتموها في مِحنتها.
ـ الله يُريُدنا أن نُساعِد أخانا الانسان.
ـ ويُريدُنا أن نُصلّي لِراحة روحه عند مماته!
ـ لقد صلَّيتُ لراحة روحها وأنا في بيتي.
ـ جدّتي... لن أتراجَع، أُريدُ معرفة كلّ شيء عن المرحومة ثريّا!
ـ حسنًا! حسنًا!
أخذَت جدّتي نفَسًا عميقًا وبدأت بالكلام:
ـ شعَرنا بالأسى حيال ثريّا بعدما وجدَت نفسها مِن دون أيّ شيء... بالرغم مِن أنّها تسبَّبَت بموت رجُل.
ـ ماذا؟!؟ بموت مَن؟؟؟
ـ زوجها.
ـ وما دخلكم بموت زوجها؟!؟
ـ زوجها، رحمَه الله، كان... ابني.
ـ ثريّا هي زوجة خالي؟!؟ لكنّ خالي وزوجته مُسافران منذ سنوات لا تُحصى ويعيشان في البرازيل!
ـ هذا ما قلناه لكِ وأخواتكِ، لكنّ الكلّ هنا يعرفُ الحقيقة.
ـ أكمِلي! كيف تسبَّبَت الخالة ثريّا بموت خالي؟!؟
ـ نحن نعلَم أنّ لا دخلَ لها بالذي حصَل لكن... لولاها لَما ماتَ ابني. ولقد أخفَينا القصّة عنكم كَي لا تخرج مِن البلدة ويعرِف بها الآخرين ويؤثِّر ذلك على فرَصكم بالزواج، فلا أحَد يُحِبّ الفضائح.
ـ لستُ أفهَم شيئًا للحقيقة. هل لكِ أن تبدَئي بالقصّة مِن أوّلها؟
ـ حسنًا... كانت ثريّا في ما مضى امرأة رائعة الجمال و...
ـ رائعة الجمال؟!؟
ـ أجل، قَبل أن تقَع المُصيبة، صدّقيني. لكن قَبل أن تلتقي بخالكِ، كانت مخطوبة لِشابّ وهي تركَته مِن أجل ابني لأنّها وقعَت بحبّه ولأنّه كان يُناسبها أكثر مِن ذلك الخطيب الذي اتّضَحَ أنّه انسان قاسٍ ومُستبِّد. تزوّجَ خالكِ مِن ثريًّا وبالفعل سافَرا إلى البرازيل لكنّهما عادا بعد سنوات قصيرة لأنّ أشغال ابني هناك لَم تكن بالنجاح الذي توقّعَه. فرِحنا طبعًا لعودتهما خاصّة أنّهما سكنا في البلدة معنا... ولأنّ ثريّا كانت حامِلًا أيضًا.
ـ ثريّا حامِل؟ أين ابنها أو ابنتها؟
ـ لو تكفّين فقط عن مُقاطعتي!
ـ آسِفة يا جدّتي، لن أتفوّه بكلمة واحِدة بعد الآن!
ـ إلا أنّ الخطيب السابق، ولدى معرفته بأنّ ثريّا عادَت إلى البلَد، بدأ يُلاحقها ليُقنعها بِتَرك زوجها والعودة إليه، الأمر الذي رفضَته قطعيًّا لأنّها بالفعل تُحِبّ خالكِ. إستعمَلَ الخطيب القديم شتّى الطرق لاقناعها، إلى حين التجأ إلى الأساليب القاسية. فذات يوم، هو خطَفَ ثريّا وأخذَها إلى بيت أهله على أمَل أن يُطلِّقَها زوجها حين يظنّ أنّ زوجته خانَته بالذهاب طوعًا مع رجُل آخَر. لكنّ بعض السكّان رأوا كيف هي أُخِذَت عنوةً وبدأَت تصرخ ليُنقذها أحَد، فركضوا يُخبرون خالكِ بالذي حدَث وخاصّة مَن هو الخاطِف إذ أنّهم تعرّفوا على سيّارته.
أخَذَ خالكِ بعض الأصدقاء وراحوا يُفتّشون عن ثريّا إلى حين علِموا بمكانها بالتحديد. لكنّ الخطيب القديم كان مُتحضِّرًا جيّدًا ومُتسلِّحًا بمسدّس و...
ـ يا إلهي! آسفة يا جدّتي، آسِفة! أكمِلي!
ـ ولدى قدوم ابني ورفاقه، بدأ ذلك النَدل بإطلاق النار عليهم وأصابَ خالكِ برصاصة مُميتة. أفلتَت ثريّا منه وركضَت إلى زوجها المُلقى في الأرض وصارَت تصرخُ كالمجنونة على الفاعِل الذي ركلَها بكامل قوّته على بطنها عن قصد. وفي يوم واحِد، فقدَت ثريّا زوجها وابنها.
ـ المسكينة... لكن... لماذا حمَّلتموها ذلك الذنب؟
ـ لأنّها كانت السبب... عليكِ أن تفهمي وجَع أمّ وأخت وأخ... وجَع يُفتِّش عن مُذنِب، أيّ كان. وبما أنّ الخطيب صارَ وراء القضبان أيّ بعيد المنال، صبَّينا غضبنا على ثريّا. لكن بعد وقت، إستوعَبنا أنّ علينا إحاطتها... عن بعد، فكلّ شيء فيها يُذكِّرنا بالفاجِعة.
ـ هذا ليس عدلًا يا جدّتي!
ـ نحن أناس بسيطين، تقودُنا العواطِف... ولا نُحِبّ الفضائح على الاطلاق، لِذا كتَمنا هويّة ثريّا عن جيلكم، فما ذنبكم؟
ـ لكن أن تصِل المسألة إلى حدّ عدَم حضوركِ دفنها...
ـ لن تفهمي أسبابي، فلا داعي لِشرحها.
ـ لكن لماذا لَم تأتِ ثريّا للعَيش معنا؟ فأمّي كانت لطيفة معها. لماذا تُرِكَت لوحدها؟
ـ ربّما لأنّنا لَم نرِد أن تُذكَّرنا بصورة دائمة بابننا... لن تفهمي.
ـ صحيح... لن أفهَم كيف أدَرتم ظهركم لامرأة خُطِفَت، وقُتِلَ زوجها أمامها، ثمّ فقدَت جنينها، الشيء الوحيد الذي يربطها بحبّ حياتها. لن أفهَم كيف تركتموها لوحدها في حين كانت بحاجة إلى دعمكم وعامَلتموها طوال حياتها وكأنّها مُتسوِّلة تعطفون عليها لإرضاء ربّنا. ولن أفهَم كيف أنّكِ لَم تأتِ إلى دفنها بعدما دفَنتِها حيّةً كلّ يوم لسنوات. فقدتِ ابنكِ يا جدّتي وتألّمتِ؟ هي الأخرى فقدَت ابنها وتألّمَت. لكنّكِ على خلافها، نِلتِ الدعم والعاطفة مِن قِبَل كلّ مَن حولكِ. أنا مُتأكِّدة مِن أنّكِ مَن حمَلتِ الآخَرين على ابعاد ثريّا، فلطالما كنتِ رأس حربة العائلة.
نظرَت جدّتي إليّ بمزيج مِن الغضب والندَم وبدأَت بالبكاء، ثمّ تمتمَت: "سامحيني يا ثريّا... سامحيني". أحَطُُّها بذراعَيَّ وقبَّلتُها على رأسها وقلتُ لها:
- لا أظنّ أنّ للندَم منفعة الآن... يا لَيتَني علِمتُ بقصّة ثريّا قَبل موتها، لأقنَعتُ أمّي باستقبالها في بيتنا بصورة دائمة. أتعلَمين شيئًا يا جدّتي؟ كنتُ مُتردِّدة لِتَرك البلدة والذهاب إلى المدينة لألتحِق بالجامعة، لكنّني الآن مُقتنِعة بالذهاب، فكيف لي أن أعيشَ وسط أناس يهمّهم سمعتهم وحقدهم أكثر مِن مُعاناة امرأة بريئة؟ لن أُصلّي فقط لراحة روح ثريّا، بل أيضًا لروحكِ، فهي ارتاحَت الآن، أمّا أنتِ، فعذابكِ الحقيقيّ بدأ للتوّ".
حاورتها بولا جهشان