المرض ليس أمر مخجل

كلّ مَن يرى ندبَتي يعرفُ على الفور أنّني خضعتُ لعمليّة قلب مفتوح. لكنّ اليوم أحملُ هذه العلامة كوسام ولَم أعدُ أخفيها وكأنّها عارٌ أو دلالة على أنّ هناك شائبة في "البضاعة". فمِن المعلوم أنّ الناس لا يُحبّون مَن هم مُختلفون عنهم أو يُعانون مِن مرَض ما، فذلك يُذكّرُهم بأنّ أجسادهم وعقولهم وحياتهم هشّة لِدرجة أنّ كلّ شيء جائز. وهم يعيشون في وهم كبير وهو أنّهم لا يُقهَرون وسيُخلِّدون.

تلك العمليّة كلّفَتني الكثير لكنّها أربحَتني ما لا ثمَن له: نفسي. إليكم قصّتي:

مرَض القلب أمرٌ شائع في عائلتنا، وكنتُ أعتقدُ أنّ القدَر سيُجّنبني تلك المعاناة، إلا أنّ الجينات قرّرَت عكس ذلك وسرعان ما صِرتُ أشعرُ بأنّ جسمي لا يعملُ كما يجب. كنتُ في السابعة والعشرين مِن عمري وأستعدُّ للزواج مِن مالِك، حبّ حياتي، بعد طول انتظار.

باتَ ينقطعُ نفَسي عند قيامي بأبسَط الأمور وأشعرُ بتعَب دائم. أحسستُ بألم في قفصي الصدريّ وبدقّات قلب غير مُنتظِمة. تجاهلتُ تلك العلامات إلى أن بدأَت رجلاي بالتورّم، عندها اضطرِرتُ لرؤية طبيب العائلة الذي أحالَني على الفور على مُختصّ بالأمراض القلبيّة، وهو نفسه الذي يُتابع أمّي وخالَتي. وبعد العديد مِن الفحوصات والصوَر، تقرَّر أنّ عليّ الخضوع لعمليّة قلب مفتوح بسبب مُشكلة في الصمّامات. وقَعَ عليّ الخبَر كالصاعقة، فكنتُ الوحيدة في عائلتي التي احتاجتَ لهكذا جراحة. لِما أنا بالذات وفي هذا السنّ المُبكّر؟ شعرتُ بالظلم الشديد، الأمر الذي أزالَ البسمة عن وجهي وتفاؤلي بالحياة. مالِك هو الآخر ذُهِلَ لكنّه عمِلَ جهده للترفيه عنّي ورَفع معنويّاتي. فكلّ ما كان عليّ فعله هو تأجيل زواجنا إلى حين أتعافى كليًّا. شكرتُ ربّي على هكذا خطيب، ووافقتُ على إجراء العمليّة التي لَم تكن سهلة أبدًا. للحقيقة، خفتُ أن أموت قبل أن يتسنّى لي ذوق طعَم الحياة مع مالِك تحت سقف واحد.

فترة النقاهة كان صعبة للغاية إذ أنّني مكثتُ أوّلاً في قسم العناية الفائقة لمدّة خلتُها لن تنتهي، قبل أن أُنقَل إلى غرفتي في المشفى. زارَني العديد وبقيَ مالِك إلى جانبي طوال الوقت. وعندما عدتُ إلى البيت أخيرًا، كان الطبيب والجرّاح قد أعطياني تعليمات صارمة عليّ اتّباعها إن لَم أُرِد أن أعود إلى غرفة العمليّات.

 


لكن لكثرة إنشغال بال خطيبي، أو هكذا ظننتُ، هو أصرَّ أن نتزوّج بأسرع وقت بالرغم مِن أنّه سمِعَ الأخصّائيَّين يقولان إن السفَر ممنوع في الأشهر الأولى وكذلك العلاقات الجنسيّة. لَزِمَ الأمر تدخّل والدتي لإفهامه أنّ عليه التروّي، فمَن صَبُرَ سنوات يستطيع أن يصبُر أشهر قليلة.

بالكاد استطعتُ مجاراة مالِك بالذهاب إلى العشاء معه ومع أصدقائه كما جرَت العادة، لكنّني فعلتُ ذلك مِن أجله كي لا يشعر بالوحدة. إلا أنّه قال لي على حدة في إحدى الأمسيات حين كنّا في مطعم مع أصحابه:

 

ـ هل جلبتِ معكِ شالاً؟

 

ـ ولِمَ أفعَل، فالطقس لطيف.

 

ـ أعني... لتغطية ندبَتكِ.

 

ـ الأمر لا يُزعجُني يا حبيبي.

 

ـ لكنّ تلك الندبة قبيحة للغاية والكلّ ينظرُ إليها باشمئزاز.

 

ـ باشمئزاز؟!؟ لَم أُلاحِظ شيئًا... إنّها ندبة ناتجة عن عمليّة جراحيّة وليس إلا.

 

ـ أعرفُ ذلك لكن... لِمَ لا تُغطّيها؟ إفعلي ذلك مِن أجلي يا حبيبتي.

 

للحقيقة تأثّرتُ كثيرًا بكلام مالِك لِدرجة أنّني كدتُ أن أبكي، فكان مِن الواضح أنّه يخجلُ بي أمام رفاقه وكأنّني كنتُ قد فعلتُ شيئًا مشينًا، وهو مَن يشمئزّ مِن منظر الندبة. بعد تلك الحادثة، فضّلتُ عدَم الخروج مع مالِك إلى العلَن أو حتى مِن دونه، فصرتُ أرى ندبتي قبيحة للغاية.

منذ ذلك الحين، لاحظتُ على خطيبي أنّه يتصرّفُ معي وكأنّني لا أزالُ مريضة بالرغم مِن أنّه علِمَ مِن الطبيبَين أنّ قلبي صارَ أفضل مِن قَبل أي أنّني لَم أعُد أعاني مِن شيء بل أصبحتُ إنسانة جديدة. حاولتُ إفهامه أنّني بخير وأنّ الأمر يتطلَّبَ بعض الوقت فقط، إلا أنّه بدأ يبتعد عنّي شيئًا فشيئًا وكأنّني أحمِلُ مرضًا مُعديًا.

بكيتُ في الليالي كي لا أجلِبَ لنفسي المزيد مِن الشفقة مِن قِبَل مالِك، ورجوتُ أن ترجع الأمور إلى ما كانت عليه بعد الزواج.

رأيتُ تقاربًا بين موقف خطيبي وموقف مُحيطي، فقالَت لي أمّي ذات يوم:

 

ـ أين مالِك؟ لَم يُعد يزورُنا كالسابق... لا تُفرِّطي به يا ابنتي فإن غيَّرَ رأيه، مَن سيتزوّجكِ؟

 


ركضتُ إلى غرفتي كي لا ترى والدتي دموعي. هكذا إذًا... صِرتُ بضاعة مضروبة؟ لِما لا نُعطي مالِك جائزة ترضية لأنّه سيقبلُ بي؟!؟

وعندما أخبرَني خطيبي أنّه لن يقترِنَ بي لأنّه وجَدَ صبيّة "لا تُعاني مِن أيّ خطب" شعرتُ بحاجة مُلّحة لصفعه. لكنّني اكتفَيتُ بالقول:

 

ـ ومتى تسنّى لكَ التعرّف إلى أخرى وإقامة مشاريع زواج معها، أيّها الخائن؟!؟ أين ذهَبَ مالِك المُحِبّ والذي قرَّرَ دعمي والوقوف إلى جانبي خلال محنتي الصحيّة؟ صحيح أنّني خضعتُ لعمليّة كبيرة تركَت آثارًا على جسدي، إلا أنّ قلبي أصبح أفضل مِن قلبكَ بكثير! لن آسف عليكَ بل على السنوات التي أضعتُها عليكَ، فلو علِمتُ أنّكَ لا تُحبّني، لوجدتُ انا غيركَ!

 

تزوَّجَ مالِك بعد ثلاثة أسابيع فقط وأنا غرقتُ في الكآبة، فهكذا حدَث أثَّرَ كثيرًا على نقاهتي التي تتطلّبُ هدوءًا وراحة جسديّة ومعنويّة. ذكّرَتني أمّي بالذي قالَته لي وغضِبَت منّي وكأنّني المُذنبة. وحدها خالتي دعمَتني قائلة:

 

ـ المجتمع لا يرحَم يا حبيبتي... لكن ما جنَينا منه؟ لا شيء. لِذا عليكِ السيَر على طريق حياتكِ مِن دون الإلتفات يمينًا أو يسارًا. ما يهمّ هو أنّ تكوني بسلام مع نفسكِ، فالناس لن تجلبَ لكِ هذا السلام. لَم يترككِ مالِك بسبب جراحتكِ بل لأنّه وغد، وأنتِ بأفضل حال مِن دونه، صدّقيني.

 

أراحَني كلام خالتي بعض الشي لكنّ الحزن كان قد سكَنَ قلبي المسكين الذي عانى ما يكفيه.

عدتُ إلى عملي وأعدَّ لي زملائي حفلاً جميلاً وبدأتُ أسترجِع حياتي القديمة، أي تلك ما قَبل مالِك. فلقد راجعتُ بِبالي ما حدَثَ بيني وبين خطيبي طوال سنوات خطوبتنا، واستنتجتُ أنّه لَم يُضِف على حياتي أيّ شيء سوى أنّني شعرتُ بأنّ أحدًا يُحبّني. لكنّني لَم أُحرِز معه أي تقدّم على الصعيد النفسيّ والإجتماعيّ والفكريّ. عندها فقط نسيتُه كليًّا.

مِن جانبه، أنجَبَ مالِك توأمًا وعاشَ بهناء مع زوجته... إلى أن قرَّرَ، بعد سنتَين فقط، أنّها لَم تعُد تُناسبُه. فتركَها مع ولدَين صغيرَين ليَلحق بأخرى. إنسان بلا ضمير أو وفاء، فشكرتُ ربّي أنّني لَم أكن مكان تلك المسكينة، ونظرتُ إلى عمليّتي وكأنّها بركة مِن الخالق.

لَم يكتفِ القدَر بذلك، فسنة واحدة بعد هجرِه لزوجته وولدَيه، وقَعَ مالِك ضحيّة حادث سير مروّع ترَكَه مُقعدًا. عندها، تخلَّت عنه الصبيّة التي خطبَها، تمامًا كما هو تركَني، أي بسبب حالته الصحيّة. أربكَني الخبَر، فلَم أعُد أعلَم إن كان عليّ أن أحزَن لِمَا جرى له أم العكس. عدتُ وقرّرتُ نسيان مشاعري والتركيز على حياتي التي عدتُ وبدأتُ أستمتعُ بها، وكأنّها فرصة ثانية للتعرّف على الدنيا وجمالها.

وأظنُّ أنّ موقفي مِن الحياة والناس والمنظار الذي بتُّ أرى منه كلّ ما يُحيطُ بي مِن أمور إيجابيٌة، هو الذي جلَبَ لي الرجل الذي أنا زوجته اليوم وأمّ أولاده.

علِمتُ أنّ مالِك عادَ إلى بيت أهله حيث يقومُ بعمله عن بعد مِن على حاسوبه، إلّا أنّه لَم يعُد يخرجُ إلى أيّ مكان، الأمر الذي لَم يُفاجئني، فهو يعتبرُ المرَض والإعاقة أمرَين مُخجلَين. فبدلاً مِن أن يعُيد حساباته ويندَم على أفعاله ويُحاول إصلاحها، إنغلَقَ على نفسه ليبكي على حالته. هو لَم يُحاول حتى إعادة التواصل مع ولدَيه، أي أن يكون على الأقل أبًا صالحًا إن لَم يكن زوجًا جيّدًا لأحد.

ماتَ والدا مالِك وهاجَرَ إخوَته وهو بقيَ لوحده، الأمر الذي حيّرَني وأثارَ شفقتي عليه بالرغم مِن الذي فعلَه بي. ماذا يدورُ في عقل إنسان كمالِك حين يكون أسير كرسيّ مُتحرِّك ووحدة قاتلة؟ لن أعرِفَ الجواب يومًا ولا يهمّني الأمر كثيرًا فأنا مشغولة بالإهتمام بعائلتي الجميلة وتبادل حبّ صادق معهم. فهذا هو ما يهمّ حقًّا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button