المرحوم خطيبي...

ماتَ أديب، خطيبي، وماتَت معه آمالي. فإضافة إلى حبّي الكبير له، كان المسكين سيأخذُني معه لنعيش في بلد أكون بعيدة فيه عن كلّ مشاكلي العائليّة والاجتماعيّة. سبقَني أديب إلى المهجر ليُحضِّر لنا مُستقبلاً كريمًا... ولقيَ حتفه هناك بعد أن دهسَته شاحنة. يا للميتة الرهيبة! فحبيب قلبي نُقِلَ إلى البلد في علبة صغيرة بعد أن استحالَ تجميع كلّ أجزاء جسده. أٌقيمَت له جنازة سريعة ومؤلمة، وبعد ذلك نسيَني أهله وكأنّني لَم أكن يومًا خطيبة إبنهم. أظنّ أنّهم أرادوا وضع كلّ ما يُذكّرهم به جانبًا، لكنّهم لَم يُفكّروا بألمي وضياعي أيضًا. لكنّني بقيتُ مُصرّة على إبقاء التواصل بيننا، مِن خلال زيارات قمتُ بها شهريًّا لأمّه المفجوعة.

مرَرتُ بأوقات صعبة جدًّا لِدرجة أنّني فقدتُ عمَلي، لأنّني كنتُ قد تغيّبتُ أسابيع بكاملها عن الشركة وطفَحَ كَيل مُديري منّي، فأعطاني راتبًا إضافيًّا طالبًا منّي رؤية طبيب نفسيّ والابتعاد عن شركته بصورة نهائيّة. الكلّ تخلّى عنّي فجأة، حتى ذويّ، فكان لدَيهم همّ أكبر وهو إيجاد وسائل للعَيش وسط حالة إقتصاديّة صعبة. هم لَم يُحبّوني أصلاً لأنّني كنتُ مُختلفة عنهم، بعد أن قرّرتُ وبإصرار أن أُنهي تعليمي ونَيل شهادتي بدلاً مِن العمَل باكرًا. لِذا وصفوني بِـ "البورجوازيّة" وانغلقوا على بعضهم أكثر. ففكرة السفَر بعيدًا عنهم باتَت هاجسًا لدَيّ، وكَم كانت فرحتي كبيرة حين قرَّرَ أديب أن يبحث عن رزقه وراء البحار. لكن بعد موته وجدتُ نفسي حيث بدأتُ، الأمر الذي كان صعبًا تقبّله.

إنتهَيتُ بإيجاد عمَل آخر في شركة أخرى، وأخفَيتُ عن أرباب العمَل والزملاء قصّة أديب ليتفاءلوا بالخير بي وليس العكس. خلعتُ الملابس السوداء التي ارتدَيتُها لحوالي السنة، وأجبرتُ نفسي على الابتسامة مُدّعية أنّ حياتي جميلة وقلبي مليء بالفرَح.

 

كنتُ أعلَم أنّهم سيُحبّوني في تلك الشركة، فأنا إنسانة صامتة، وأقومُ بعمَلي بجدّيّة وتفانٍ. ولَم أكن مُخطئة، فباتَ لي زملاء لطيفون يتقاسمون معي أوقات الراحة ويدعوني للخروج معهم أحيانًا بعد الدوام. كنتُ قد صرتُ فردًا مِن "الشلّة"، الأمر الذي جلَبَ لي بعض العزاء.

كنتُ قد انتبهتُ طبعًا لاهتمام زميل لي بي، وإسمه رامي، لكنّني عاملتُه كباقي الزملاء، فكان مِن المُستحيل بالنسبة لي التفكير برجُل غير أديب. قلبي كان مُلكه حصرًا... وإلى الأبد. لكنّ رامي بقيَ مُصرًّا على الفوز بقلبي، وباتَ مِن المُستحيل تجاهله، لِذا أخبرتُه يومًا قصّتي وهو تأثَّرَ كثيرًا لِما حصَلَ لي ولأديب. بعد ذلك، وعدَني رامي بأنّه سيكفّ عن مُلاحقتي شرط أن يُصبحَ صديقي المُقرّب. وهو جعلَني أعِده بأنّني سأعتبرُه شخصًا جديرًا بثقتي وأعيشُ معه صداقة حقيقيّة. في الواقع، كنتُ قد قرّرتُ مُراقبة هذا الصديق الجديد وعدَم إعطائه ثقتي إلا إذا اتّضَحَ أنّه أهل لها بالفعل، فلَم أكن يومًا غبيّة أو أُصدّق الوعود المجّانيّة.

وعلى مرّ الأسابيع والأشهر، تبيَّنَ أنّ زميلي المُقرّب يكنُّ لي بالفعل مودّة صافية وأنّه يدعمُني شخصيًّا وغيابيًّا. فهو أثنى عليّ عند المُدير الذي رقّاني، ولدى الشلّة التي حضنَتني كثيرًا. واستمَعَ رامي بلا ملّلَ لمشاكلي كلّها وأعطاني نصائح قيّمة أفادَتني كثيرًا. وهكذا، ومِن دون أن أدري، نما في قلبي تعلّق برامي تحوّلَ مع الوقت إلى حبّ. لكن حين أدركتُ حقيقة مشاعري نحوه، عادَت إلى بالي ذكرياتي وأديب وطريقة موته البشعة، فتراجعَت مشاعري نحو زميلي. كنتُ أعي أنّني لَم أكن السبب في موت خطيبي، ولا داعٍ لأنّ أشعرَ بالذنب حيال ما جرى له، كما شرَحَ لي رامي، لكنّ الأمر لَم يكن بِيَدي.

 

وبعد مرور سنة على بدء صداقتي مع رامي، طلب مني يومًا موعدًا قائلاً إنّ الموضوع بغاية الجدّيّة ولا ينبغي أن يسمعَه أحد غيري، فرحتُ إلى ذلك المكان الهادئ حيث كان بإنتظاري. خفتُ أن يطلبَ رامي يدي، فماذا كان سيقول لي غير ذلك؟ إلا أنّ الموضع كان مُخالفًا تمامًا إذ أنّه قال لي بتردّد:

 

ـ لا أعرفُ مِن أين أبدأ، فأنا خائف عليكِ. أنتِ إنسانة هشّة وقد يصدمُكِ الخبر.

 

ـ تكلّم... أنا أقوى مِمّا تتصوّر. هل ماتَ أحد أعرفُه؟

 

ـ بل العكس.

 

ـ لَم أفهَم قصدكَ.

 

ـ قامَ أحدٌ مِن الموت.

 

ـ كفاكَ ألغازًا! ما الأمر؟!؟

 

ـ أديب... حبيبكِ السابق...

 

ـ رحمه الله.

 

ـ أديب على قيد الحياة. لا تُقاطعيني مِن فضلك! بل إستمعي إليّ حتى أُنهي كلامي. أعلمُ أنّكِ ستقولين إنّ لا حقّ لي بالذي فعلتُه، لكن دافعي الأساسيّ كان التعرّف أكثر إلى الشخص الذي استولى على قلبكِ إلى الأبد. فكيف لي أن أنافِس ميتًا؟ لذا قلتُ لنفسي إن عرفتُ ما الذي أحبَبتِه فيه، فقد أفوزُ بذلك القلب المجروح. سألتُ أناسًا كثيرين عن أديب خلال أشهر طويلة، وكلّهم قالوا لي الأشياء نفسها عنه، أيّ إنّه إنسان خلوق وطيّب... ما عدا رجُل واحد... شخص يعرفُه تمام المعرفة والذي قال لي أشياء كثيرة أخرى عنه.

 

- يا لكَ مِن إنسان ماكِر! تُريدُ تشويه سمعة مَيت لِحَملي على حبّكَ!

 

ـ بل العكس تمامًا. دعيني أُكمِل حديثي واحكُمي عليّ عندما أنتهي.

 

ـ أكرهُكَ!

 

ـ وأنا أُحبُّكِ! ولن أسمَحَ لأحد بأن يُدمِّر حياتكِ حتى لو عنى ذلك فقدانكِ. فهذا هو الحبّ الحقيقيّ. أنا لَم أفعَل ما فعلتُه لإقناعكِ بي، لأنني أعي أنّني قد أفقدُكِ إلى الأبد. القرار هو قرارُكِ وحسب... كنتُ أقولُ إنّ رجُلاً قصَّ لي كيف أنّ أديب نصَبَ عليه وأخَذَ ماله قبل أن يُسافر إلى الخارج، لأنّه كان ماهرًا بالنصب والاحتيال. أجل، هكذا كان خطيبكِ يا آنسة، له حياة أخرى لَم يعرِف بها سوى ضحاياه. وحين هو وصَلَ ذلك البلد، تعرّفَ إلى أناس يُشبهونه ونصَبَ برفقتهم على أشخاص لا يجب التلاعب بهم لأنّ لهم نفوذًا في بلدهم. وهذا ما لَم يحسِب أديب حسابه. وحين شعَرَ بأنّ حياته باتَت بخطر، إختلقَ خبَر موته آملاً بأن يُترَك بسلام. ولتنجَح خطّته تمامًا، أوهَمَ أقرَب الناس إليه بأنّه ماتَ، إلا أنّه عادَ سرًّا إلى بلدنا منذ حوالي السنة.

 

ـ أنتَ تكذب! وكيف علِمَ ذلك الرجُل بكلّ ذلك؟!؟

 

ـ لأنّه لاحَقَ الموضوع عن كثَب بعد أن شكّ بِخبَر موت أديب. فرواية الحادث المُريع لَم تُقنِعه، فحسَب قوله تلك الصدفة جاءَت في وقت مُناسب جدًّا. لِذا تقصّى عن الأمر وفهِمَ ما حصَل. إلا أنّه يجهل أين يتواجَد أديب مع أنه بحَثَ كثيرًا عنه. فبلَدنا كبير للغاية وفيه أماكن كثيرة للاختباء، وكان هناك تكتّم كبير حول الموضوع مِن قِبَل أهله.

 

ـ عائلته تعلَم أنّه لَم يمُت؟!؟ لقد بكوا وانتحبوا وصرخوا في الجنازة! ولا أزالُ أزورُهم حتى اليوم وتبكي أمّه لدى ذكره. وهي لَم تخلَع اللباس الأسوَد! كلامكِ غير صحيح.

 

ـ هم يحمونَه، فالعديد يُريدُ إسترجاع حقّه منه أو الانتقام. دعيني أكمِل، فصِرتُ قريب مِن الانتهاء مِن الكلام.

ـ

أكمِل، مع أنّني لا أُصدّق كلمة تخرجُ مِن فمكَ.

 

ـ حسنًا... قضيتُ أشهر وأنا أفتّشُ عن أديب بواسطة أصدقاء أصدقائي أو معارف معارفي، لدرجة أنّني ألّفتُ شبكة واسعة غطَّت مُعظم أراضي البلد... ووجدتُه أخيرًا! لَم يكن الأمر سهلاً على الاطلاق، فهو اختارَ لنفسه إسمًا آخر واتّخذَ مهنة جديدة بعيدة كلّ البُعد عن التصوّر إذ أنّه يُصلِحُ الأحذيّة.

 

ـ ترَهات! أديب لا يعرفُ كيف يُصلِحُ الأحذية، فهو كان مُحاسبًا في شركة!

 

ـ مَن سيشكُّ به حين يُصبحُ إسمه فؤاد ويُصلِح أحذية الناس في بلدة صغيرة؟ بالفعل خطّة ذكيّة! لكن بقيَ لي أن أتأكّد مِن أنّه بالفعل هو... ومَن سيتعرَّف إليه أكثر منكِ؟

 

ـ أنا؟!؟ تُريدُ إقحامي في وهمكَ حول خطيبي المتوفّي؟!؟

 

ـ فكّري في الأمر... ليس هناك مِن وسيلة أفضل لتكذيبي... وبما أنّ غدًا تبدأ فرصة نهاية الأسبوع، تعالي معي إلى تلك البلدة النائية! إعتبريها نُزهة ترفيهيّة، فتلك المنطقة جميلة للغاية. ما رأيكِ؟

 

قضيتُ ليلةً رهيبة أتأرجَح بين القبول بالذهاب والرفض، لكن في الصباح الباكر، خابرتُ رامي لأقول له إنّني موافقة على مواجهة الحقيقة مهما كانت. فلَم أكن مُستعدّة للعَيش في الشكّ.

قادَ رامي سيّارته في الصباح المُبكِر بصمت ولَم نتبادَل الكلام إلا للضرورة. فكلانا كان مُنغمسًا في تفكيره وفي تداعيات ما سيحصل. وصَلنا أخيرًا البلدة وركَن رامي مركبته قُبالة محلّ صغير يحملُ يافطة مكتوب عليها: "فؤاد لتصليح جميع الأحذية". وبعد انتظار طال حوالي النصف ساعة، رأيتُ رجُلاً آتيًا مِن بعيد ومُتّجهًا نحو المحلّ المُقفَل. أشارَ إليه رامي قائلاً:

 

ـ إنّه هو.

 

ـ لا... أديب مُختلِف جدًّا عنه... هذا الشخص لديه لحية ويمشي ببطء ومُنحني الظهر.

 

ـ أنظري جيّدًا، أرجوكِ... تصوّريه مِن دون لحية وبمشية طبيعيّة، فكلّ ذلك مُجرّد تمثيل.

 

وفجأة تعرّفتُ إليه! ففتحتُ باب السيّارة وركضتُ نحو الرجُل الذي أمسكتُه بذراعه وأدرتُه نحوي لأتفحّص وجهه جيّدًا. عندها قال لي الرجُل: "لا تفضحي أمري، أرجوكِ!". وقفتُ صامتة أمامه لا أدري ماذا أقولُ أو أفعَل، وشعرتُ بأنّني سأقعُ أرضًا لكبر الوهلة. كان أديب على قيد الحياة طوال الوقت ولَم يأبَه لحزني وضياعي بل فكّرَ فقط بنفسه! هو لَم يُحاول تطميني عليه بأيّة وسيلة، بل تواطأ مع أهله الذين مثّلوا الدور على أكمَل وجه. نظرتُ إلى أديب جيّدًا وكلّ ما رأيتُ في عَينَيه كان الخوف. لَم أجِد أيّة علامة فرَح لرؤيتي أمامه أو شوق أو حتى ندَم، بل الخوف فقط. ثمّ هو التفَتَ حوله مذعورًا ودخَلَ بسرعة محلّه وأقفَلَ الباب وراءه. كان رامي قد لحِقَ بي خوفًا عليّ فعانقَني بقوّة هامسًا في أذني: "الأمر سيتطلّب بعض الوقت لكنّه سيزول، صدّقيني. أنا آسف لأنّني أحزنتُكِ، لكن عليكِ مواجهة الحقيقة مهما كانت مؤلمة. إنسِه، فهو جبان ونصّاب ولا يستحقّ دمعة مِن الدموع التي ذرَفتِها عليه. لِندَعه في هذا المكان المهجور يعيشُ في الخوف ليلاً نهارًا بعد أن فهِمَ أنّ أحدًا علِمَ بمكانه. فهو لن يعرف طعم النوم أو الطمأنينة، وهذا عقابه. تعالي نعود."

 

بكيتُ طوال مسافة العودة وطوال أسابيع، ليس على أديب شخصيًّا بل على مكره وأنانيّته التي لا مثيل لها. لَم أفهَم كيف استطاعَ أن يغشّني هكذا، ليس فقط بشأن موته بل أيضًا بشأن حياته الموازية كنصّاب مُحترِف. ظننتُ أنّه سافَرَ ليُؤمّن لنا حياة جميلة وتحقيق حلمي، في حين أنّه هرَبَ بعيدًا عن مُلاحقيه! يا إلهي... هل بإمكاننا أن نعرف أحدًا جيّدًا؟!؟

والجواب هو نعم، فلقد عرفتُ جيّدًا رامي بعد أن أثبتَ لي إلى أيّ حدّ يُحبُّني. فكيف لي بعد ذلك أن أرفضَه أو حتى أتصوّر نفسي مع أحد غيره؟ فبمَن أثِق إن لَم يكن فيه؟ هذا هو الحبّ الحقيقيّ الذي تمسّكتُ به لأنّه نادر الوجود... وهو صارَ اليوم زوجي وأب أولادي!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button