أوّل مرّة رأيتُها، كنتُ جالسة في أحد المقاهي أنتظرُ قدوم صديقاتي. وإذ بامرأة تمرُّ بالقرب مِن طاولتي الموضوعة على حافة الرصيف. كان شكلُها يُثير الإستغراب ولذلك نظَرَ إليها باقي روّاد المقهى بِتركيز واضح. فمع أنّ الطقس كان حارًّا كما هو الحال في فصل الصيف، إلا أنّ المرأة كانت ترتدي جزمة عالية ومعطفًا ضدّ الماء وكمّامة ونظّارات شمسيّة وحجابًا. ضحِكَ الناس عليها سرًّا ظانين أنّها تستبقُ موضة فصل الخريف والشتاء، لكنّني لَم أحذُ حذوَهم، لأنّني أدركتُ أنّها ليست مجنونة أو تحاولُ لَفت الأنظار عليها، بل العكس تمامًا. كان مِن الواضح لي أنّها تُخفي هويّتها الحقيقيّة تحت ذلك الزَي. فكان فعلاً مِن المستحيل معرفة مَن هي مهما حاوَلَ المرء.
دخلَت المرأة المقهى ومِن ثمّ خرجَت منه بعد دقائق قليلة، وعندما مرّت مِن أمامي ثانيةً ومعها قهوتها إستطعتُ التدقيق أكثر بثيابها ومشيَتها. وصَلَت صديقاتي وأخبرتُهن عمّا رأيتُه وهنّ ضحكنَ على هكذا مشهد، فالطقس كان حارًا للغاية وفكرة ارتداء هذا الكمّ مِن الثياب كان غريبًا للغاية... وتغيّرَ الحديث ونسيتُ بعد دقائق أمر "المرأة المُتنكِّرة"، كما أسمَيتُها في ذهني.
لكنّني عدتُ ورأيتُها مرّة أخرى في المكان والساعة نفسها بعد أسبوع بالتمام. عندها، ومِن دون التفكير بالذي كنتُ سأفعلُه، أوقعتُ أمام رجلَيها فوطة ورقيّة وانحنَيتُ ألمُّها. هي الأخرى إنحنَت لتلمّ الفوطة، وسمعتُها وهي تضحك للموقف. عندها شككتُ بأن تكون "المرأة المُتنكِّرة" رجلاً لأنّ صوتها كان خشنًا. إلا أنّني تراجعتُ عن نظريّتي، فالعديد مِن النساء لهنّ صوت خشن مع أنّهنّ نساء. فشكلها ومشيتها كانا لأنثى وليس لذكر. أحبَبتُ ذلك الغموض، ووعدتُ نفسي بأن أعودَ في الموعد الذي اعتبرتُه موعدًا أسبوعيًّا، لأرى إن كنتُ قادرة على فكّ اللغز لوحدي. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ قد أنهَيتُ دراستي الجامعيّة، وأقضي بِملَل فرصتي الصيفيّة إلى حين أجدُ عملاً.
وكما توقّعتُ، عادَت المرأة المجهولة إلى المقهى في الموعد المُرتقَب، لتمرّ أمام طاولتي وتدخلُ المكان ثمّ تخرجُ منه حاملة قهوتها. إلا أنّها في تلك المرّة، نظرَت هي باتّجاهي وشعرتُ بأنّها ابتسمَت لي مِن تحت قناعها، وأنا ردَدتُ لها البسمة.
كان معروفًا عنّي منذ طفولتي أنّني صبورة للغاية، لذا لَم أكن على عجلة لمعرفة هويّة تلك الإنسانة بل كنتُ واثقة مِن أنّني سأكتشفُ كلّ ما أريدُه في الوقت المُناسب. قد يقولُ البعض إنّني فضوليّة، لكنّ ذلك غير صحيح. كلّ ما أردتُه هو فكّ لغزٍ وليس أكثر. واتّضَحَ لاحقًا أنّ ذلك كان مُفيدًا للغاية "للمرأة المُتنكّرة".
ففي إحدى المرّات التي ذهبتُ فيها إلى المقهى لانتظار "صديقتي المجهولة"، وبينما كنتُ لا أزال في الداخل أطلبُ قهوتي للخروج والجلوس إلى طاولتي المُعتادة، دخَلت المرأة قبل موعدها بحوالي النصف ساعة، الأمر الذي أثارَ استغرابي لأنّها كانت بغاية الدقّة. أدَرتُ وجهي عنها كي لا تظنّ أنّني أراقبُها، وادّعَيتُ أنّني آخذ عن المنضدة محارم وسكّر، لكنّني بقيتُ أراها مِن زاوية عَينيّ. وإذ بها تدخلُ حمّام السيّدات، لتبقى فيها بضع ثوانٍ فقط وتخرج بسرعة لطلَب قهوتها وترك المكان. عندها، خرجتُ مِن دون أن تراني وأسرعتُ بالجلوس إلى طاولتي والتصرّف بطريقة طبيعيّة.
وعندما مرَّت المرأة مِن أمامي، قلتُ لها مازحةً: "لقد غيّرتِ ميعادكِ!". عندها قالت لي بصوت عرفتُ أنّها أرادته خشنًا: "يا ليتني لا آتي إلى هذا المكان قط!" وشعرتُ بمرارة كبيرة في قولها، لِذا أضفتُ: "لقد اعتدتُ على رؤيتكِ وأعتبرُكِ صديقة غير إعتياديّة، وهناك دائمًا شيء إيجابيّ في أبشع الأمور".
مِن بعد ذلك، صمَّمتُ على معرفة الحقيقة أكثر مِن قبل. فما كنتُ أعتبرُه تسلية صارَ بالنسبة لي واجبًا بل مسؤوليّة. كنتُ أشعرُ أنّني قادرة على لعب دور في الذي يُسبّب "للمرأة المُتنكّرة" ذلك الحزن.
... وقرّرتُ التصرّف. فبعد أسبوع تمامًا، قصدتُ المقهى قبل أن تصل "المرأة المُتنكِّرة"، لكنّني لَم أطلب قهوتي ولَم أجلس إلى طاولتي في الخارج، بل رحتُ أختبئ في حمّامات السيّدات. شيء قال لي إنّ المرأة لا تدخلُ الحمّامات لتغسل يدَيها أو قضاء حاجتها بل لغرض آخر. فمكوثها القصير في الداخل لَم يكن طبيعيًّا. ولَم أكن مُخطئة.
أغلقتُ باب أحد الحمّامات، وأنزَلتُ غطاء الكرسيّ ووقفتُ عليه وانتظرتُ أن تدخل المرأة. إنحنَيتُ كي لا تراني لكنّني عدتُ ووقفتُ أنظرُ إليها مِن فوق الباب. كانت قرب المغاسل، وأخرجَت شيئًا مِن حقيبة يدها ووضعَته تحت أحد المغاسل ثم خرجَت بسرعة.
بعد خروجها بثوانٍ، فتحتُ باب الحمام الذي كنتُ أختبئ فيه، وأخذتُ ظرفًا وجدتُه تحت المغسلة وركضتُ أنتظرُ أن تنتهي المرأة مِن طلَب قهوتها. وعندما مرّت مِن قربي صرختُ لها:
ـ الظرف معي، لقد أخذتُه مِن مخبئه.
ـ يا إلهي! لماذا فعلتِ ذلك؟!؟
ـ لأنّني أظنّ أنّ في داخله مالاً وأنّ أحدًا يبتزُّكِ. هل أنتِ سيّدة معروفة لتتنكّري هكذا؟ ما الذي فعلتِه لتدفعي ثمنه لإنسان بلا ضمير؟
ـ وما دخلكِ أنتِ؟!؟ أعيدي لي الظرف! أرجوكِ فسُمعتي على المحكّ!
ـ بل سنذهبُ سويًّا إلى الشرطة! فخالي شرطيّ وسيُساعدُنا. إلى متى ستظلّين تدفعين؟ وماذا سيطلبُ منكِ ذلك السافل عندما ينفذُ مالكِ؟
ـ أرجوكِ... لا أستطيع الذهاب إلى الشرطة! أعيدي لي الظرف!
في اللحظة نفسها، رأيتُ امرأة واقفة عند باب المقهى تنظرُ إلينا بمزيجٍ مِن الغضب والقلَق. عندها قلتُ للمرأة المجهولة:
ـ آه! المُبتز هو مُبتزّة! أجل! وإلا كيف له أن يدخلَ حمّامات السيّدات بدون اثارة الشبهات؟
ـ أعيدي لي الظرف! فإن هي غضِبَت منّي ستُسرِع بِفضحي.
ـ حسنًا، لكن فقط لهذه المرّة.
أعطَيتُ الظرف للمرأة المُتنكّرة التي دخلَت مُجدّدًا المقهى لتسلّم المال للمُبتزّة. أمّا أنا، فادّعَيتُ أنّني مغادرة لكنّني اختبأتُ خلف حائط مُجاور. كنتُ سأراقبُ المُبتزّة.
خرجَت "المرأة المُتنكِّرة" وذهبَت كعادتها نحو اليسار، وبعد ثوانٍ خرجَت المُبتزّة وراحَت ناحية اليمين، فلحِقتُ بها. مشَيتُ حوالي العشر دقائق وأنا أختبئ بين الحين والآخر خلف العواميد أو الحيطان، إلى أن دخلَت المُبتزّة أخيرًا مبنىً ولَم تخرج منه. فهمتُ أنّها عادَت إلى منزلها، فركضتُ إلى المخفر لأكلّم خالي وأروي له كلّ ما أعرفُه.
إستمَعَ خالي إليّ بصمت ثم عاتبَني لأنّني وضعتُ نفسي بموقف قد يكون خطيرًا. جعلتُه يُقسمُ لي بأنّ يُبقي هويّة "المرأة المُتنكّرة" طَي الكتمان الى حين يقبضُ على المُبتزّة، فآخر ما أريدُه هو إيذاء إنسانة لَم تطلب منّي شيئًا. لا أخفي أنّني لَم أكن واثقة مِن أنّ الذي أفعلُه هو مِن حقيّ، إلا أنّ تلك المؤامرة كان يجب أن تنتهي يومًا. فقد كان بإمكان المُبتزّة أن تفضحَ ضحيّتها في أيّ لحظة، خاصّة إن توقَّفَت هذه الأخيرة عن الدفع.
أقامَ خالي كمينًا مُحكمًا للمُبتزّة، مُستعينًا بشرطيّة خبّأها في حمّامات السيّدات كما فعلتُ أنا سابقًا، للقبض على الجانية لحظة استلامها الظرف. وهكذا تمّ الإمساك بالمُبتزّة وهي تأخذُ الظرف مِن تحت المغسلة وقادوها إلى القسم ليُحقّقوا معها. وبعد استجواب طويل، إعترفَت أنّ بحوزتها صورًا غير مُشرّفة لِمذيعة معروفة حصَلَت عليها عبر خطيبها السابق بعد أن تركَته المذيعة. إستُدعيَ الخطيب السابق وأُرسِلَ والمُبتزّة إلى القضاء بِجرم التواطؤ بِغرض الابتزاز. مِن جهة أخرى، إستُدعيَت "المرأة المُتنكِّرة" التي لَم تعد مجهولة بالنسبة لي، وأُقيمَت لها جلسة مواجهة مع مُبتزَّيها أدَّت إلى إسقاط حقّ المُذيعة مُقابل سجن المجرمَين لفترة قصيرة، وإتلاف الصوَر وعدَم تعرّضهما لها وإبقاء إسمها مجهولاً للعلَن.
وطيلة تلك فترة، لَم أرَ المُذيعة لا مِن بعيد ولا مِن قريب، فقد كنتُ خائفة مِن ردّة فعلها. صحيح أنّني خلصّتُها مِن ورطة كبيرة، إلا أنّني تدخّلتُ في حياتها الشخصيّة. إلا أنّها سألَت خالي عن رقم هاتفي، واتّصلَت بي بعد أن انتَهت مشاكلها، وشكرَتني بحرارة. وقبل أن تُقفل الخطّ أضافَت: "سأراكِ في المقهى في اليوم والساعة المُعتادَين!"
حاورتها بولا جهشان