لم يكن قد مضى على زواجي من مسعود سوى بضعة أشهر حين أخبرني أنّ عليه السفر للعمل في الإمارات العربية المتّحدة. لكوني معلّمة ومع اقتراب موعد العودة من العطلة، لم أكن أنوي البتّة ترك البلاد للسفر معه.
هكذا، كان عليّ تنظيم حياتي بمفردي والاعتماد على ذاتي، ومن حسن الحظ أنّ وجود كلبي الصغير المدلّل كراميل قد أسهم بالفعل بتسهيل الأمور عليّ بغياب زوجي.
في إحدى الأمسيات، وحين كنت أتنزّه أمام المبنى رأيت ذاك الرجل للمرة الأولى. اقترب وهو يقود سيارته ببطء شديد وقال:
- مساء الخير، هل يمكنك إرشادي إلى مبنى مالك؟
فوجئت بوجوده فقد ظهر عليّ كالطيف. أجبته بأنّه ليس في الشارع مبنى بهذا الاسم لكنّه أصرّ.
- بلى بلى، قالوا لي إنّه هنا.
- قد يكونون مخطئين فأنا أسكن هنا منذ زمن ولم أسمع بهذا الاسم يوماً.
أكملت طريقي لكنّني شعرت بأمر غريب. وبدا لي مشبوهاً تصرّفه وإلحاحه. عدت إلى منزلي وبعد ليلتين وفي الوقت ذاته تقريباً والمكان ذاته رأيت سيارة مضاءة تركن أمام المبنى. عرفت أنّها سيّارة المرة الماضية لكنّها الآن مزوّدة بشارة التاكسي. لم يكلّمني الرجل ولم يتحرّك من مقعده. انتظرت لأرى ما إذا كان أحد الجيران قد طلب سيارة أجرة لكنّ أحداً لم يظهر... بدا لي ذاك السلوك غريباً! هدّأت من روعي محاولةً إقناع ذاتي بأنّني أتخيّل وقرّرت الاستمرار بالخروج مع كراميل كلّ مساء كالعادة. وفي كلّ مرة كان ذاك الرجل حاضراً في سيارته أمام المبنى عاملاً على سدّ الممرّ نوعاً ما. تظاهرت بأنّني لا أراه ففي النهاية يحقّ له أن يكون هناك.
بقي الوضع على حاله مدّة أسبوعين ولم أخبر أحداً ولا حتى مسعود لأنّني أردت أن أكون السيدة القوية التي يفتخر بها زوجها. هكذا إلى أن تبدّلت الأحداث فجأةً في إحدى الأمسيات. هذه المرّة، كان الرجل واقفاً بالقرب من سيارته يدخّن سيجارته حين مررت من جانبه فأمسك بذراعي وشدّ لدرجة أن آلمني فصرخت:
- دعني وشأني! أنت تؤذيني! ماذا تريد في النهاية؟
ومن دون أن يفلتني قال بنبرة التهديد:
- لا داعي للتظاهر بأنّك تتجاهلينني يا صغيرة! هيّا تعالي معي لنمرح قليلاً.
عندئذٍ، تحوّل عزيزي الصغير كراميل إلى وحش كاسر إذ انقضّ على قدم ذاك الرجل المعتدي وعضّه بقوة شديدة فنزل منه الدم. هنا، استفدت من الفرصة لأركض وأدخل إلى منزلي وأقفل الباب بإحكام. كنت أرتجف ونفسي مقطوع! أخذت كلبي بين يديّ وقبّلته من كلّ قلبي فقد أنقذ حياتي للتوّ. ثمّ اتّصلت بزوجي وأخبرته بما حصل وأطلعته على قراري بأنّني لن أبقى ولا ثانية واحدة بمفردي.
في اليوم التالي، قدّمت استقالتي وبانتظار تأشيرة الدخول رحت أحبس نفسي في المنزل حين يحلّ اللّيل. صرت مضطربة إلى حدّ الهذيان وأشعر بأنّني ملاحقة على الدوام فأنظر إلى الجميع بقلق من حولي وأخشى من ظلّي.
وأخيراً وصلت إلى أحضان مسعود ولم أشعر يوماً بذاك الأمان الذي شعرت به يوم ضمّني حين وصلت إلى المطار.
منذ ذاك الحين صارت الحياة حلوة! عشنا كالعشّاق متلذّذين بطعم الأوقات الجميلة. تقدّمت لوظيفة معلّمة وكان عليّ الانتظار حتّى السنة الدراسية المقبلة. ثمّ جاءت حماتي تزورنا لبضعة أيام. استمتعت برفقتها وبفضل وجودها معنا ما عدت أشعر بالكثير من الوحدة خلال النهار. في أحد الأيام وهي تريني الصور التي التقطتها على هاتفها المحمول الجديد شعرت بالتوتّر الشديد. لقد رأيت رجل التاكسي في إحدى الصور!
- من هو هذا الرجل؟ سألتها بأعصاب باردة ونبرة عادية فيما كان الدم يغلي في عروقي.
- إنّه حسام ابن أخي، صديق مسعود الحميم. أنت لا تعرفينه لأنّه كان يعيش في الولايات المتّحدة الأميركية وعاد إلى البلاد منذ فترة قصيرة وقد اشترى سيارة أجرة وهو يفكّر بأن يفتح مكتباً لتأجير السيارات... وهو رجل وفيّ لزوجك ولا يرفض له طلباً!
لم أسمع باقي حديث حماتي! رأيت فقط شفتيها تتحرّكان لكنّ أيّ كلمة لم تعلق في ذهني. رحت أهزّ رأسي لها لكنّني كنت أفكّر بأمر آخر. هل وقعت بالفعل ضحيّة مؤامرة دنيئة؟ ماذا لو أراد الرجل الذي تزوّجته تفضيل راحته وسلامته على راحتي فسعى لإصابتي بالجنون من خلال إرسال ابن خاله لإخافتي حتّى أترك عملي وبلدي وعائلتي وأكون إلى جانبه؟ أم أنّ حسام ذاك قد فعل ما فعله من تلقاء ذاته؟ ولكن هل يؤذي صديقه المفضّل بهذا الشكل؟ ولكي أجد الجواب على أسئلتي الكثيرة، طلبت من حماتي رقم حسام بحجة أنّني أريد التعرّف أكثر وأكثر إلى العائلة. لم أستطع الانتظار لليوم التالي فسارعت إلى غرفتي واتّصلت به وقلبي يخفق بقوة.
- ألو حسام، أنا زوجة مسعود قريبك.
صمت لفترة فقرّرت أن أنطق بجملة تحمل معنيين.
- أنا أعرف كلّ شيء.
عندئذٍ، سمعته يبلع ريقه قبل أن يجيب:
- لم أكن موافقاً أؤكّد لك لكنّ زوجك أصرّ كثيراً. يجب أن تتفهّمي وضعه فقد كان مشتاقاً لك.
لم أشأ معرفة المزيد وقبل أن أُقفل الخط قلت له:
- لا تقل لزوجي إنّنا تكلّمنا. هو سعيد للغاية بجانبي هذه الفترة فلا تفسد علينا فرحتنا. لقد اتّصلت بك لأبلغك أنّني على علم بما فعلته وهذا كلّ شيء.
لم أكن قادرة على رؤية زوجي من جديد فتوجّب عليّ التصرّف بسرعة قبل أن يُخبره جانو عن الحديث الذي دار بيننا.
عندئذٍ، اتّصلت بشقيقي الذي يقيم في بلدي وطلبت منه الاتّصال بي عند المساء لإخباري بأنّ والدتي مريضة للغاية وأنّ وضعها يستدعي قدومي لأكون إلى جانبها. في اليوم التالي، توجّهت إلى بيروت وحين سمع أهلي القصّة لم يصدّقوا آذانهم وأقسم أخي أن يلقّنه درساً لكنّني كنت واثقة من أنّه لن يفعل شيئاً.
لم تصل لمسعود أيّ أخبار منّي فقلق واتّصل بأهلي وأبلغته والدتي أنّ ما فعله لا يُغتفر وأنّه لن يجديه نفعاً البحث عن رؤيتي من جديد. حاول بشتّى الوسائل التكلّم معي متوسّلاً أن أسامحه لكن كان من المستحيل أن أثق به.
عندئذٍ، طلبت الطلاق وهذا أمدّني بالقوّة. فهمت أنّ عليّ الاتّكال على نفسي أولاً لأنّني لست بحاجة لأحد ليحميني فأنا قادرة على الاعتناء بنفسي.
حاورتها بولا جهشان