القناعة كنزٌ لا يفنى

يوم حصلَت سهام أختي على تأشيرتها إلى الولايات المتّحدة، كنتُ أسعَد إنسانة، فإحدانا كانت ستنجو مِن الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلَاد. كنّا إبنتَين لأرملة عمِلَت جهدها على تربيتنا، ولَم تُزعجني فكرة البقاء معها بينما سهام تتدبَّر أمرها في الخارج.

إشترَيتُ لأختي بعض الحاجيات اللازمة لِسفَرها وودّعناها. بكيتُ وأمّي على فراقها طبعًا، لكنّنا أمِلنا أن تحظى بأوفر حظ في عملِها الجديد الذي مارسَته هنا، وهو التمريض. للحقيقة كنّا قد إختَرنا المهنة نفسها ونعمَل في المشفى نفسه، وحين علِمنا أنّ هناك دولاً تبحثُ عن طواقم طبيّة، أسرعَت سهام بتعبئة طلب. كنتُ أودُّ أنا الأخرى السفَر، إلا أنّ تَرك أمّنا لوحدها لَم يكن واردًا على الإطلاق.

إستأجرَت سهام ستوديو في إحدى المدُن وبدأَت العمَل في مشفى قريب، وأعربَت لنا عن إرتياحها في مهامها الجديدة. مِن جانبي، صِرتُ المُعيلة الوحيدة للبيت، فأمّي توقّفَت عن العمَل بسبب تردّي صحَّتها. حرَمتُ نفسي مِن العديد مِن الأمور، لكنّني لَم أكن مُستاءة مِن الوضع، فلطالما كنتُ، ولا أزال، إنسانة قنوعة أرضى بالموجود.

حصلتُ أخيرًا على زيادة في الراتب، بعد أن قرَّرَ المشفى أنّ السبيل الوحيد لإبقاء الأطبّاء والممّرضات عنده كان بزيادة الرواتب. زفَّيتُ الخبَر لِسهام وهي فرِحَت لي، لكنّها أضافَت:

 

ـ لا أعرفُ كيف أقولُ لكِ ذلك... لقد انتقلتُ البارحة إلى شقّة أكبر، فذلك الستوديو كان مُظلمًا للغاية، وتفحُّ منه رائحة الرطوبة كَونه موجودًا في الطابق السفليّ... وأحتاجُ إلى مُساعدة ماليّة منكِ... سأُعيدُ لكِ المبلغ، لا تخافي.

 

ـ بالطبع يا سهام... سأبعثُ لكِ ما يلزمُكِ. أمّا بشأن إعادة المال لي، فلستُ على عجلة مِن أمري.

 

وبدأتُ أُرسلُ لأختي مبلغًا ماليًا قدره نصف راتبي، لأنّها كانت وحيدة في الغربة وتصوّرتُ نفسي مكانها. وعلى خلافها، كنتُ في بلدي مع عائلتي وأصدقائي وزملائي. هزَّت والدتي برأسها لدى معرفتها بطلَب سهام وبقيَت صامتة، لكن كان مِن الواضح أنّها غير موافقة على الذي يجري. إلا أنّني كنتُ واثقة مِن أنّ أختي ستُعيدُ لي مالي حين تستطيع ذلك.

علِمتُ بسرور أنّ سهام إلتقَت برجُل وأنّ بينهما قصّة جميلة. لَم أفكّر بالحب بعد لكثرة إنشغالي بتحصيل لقمة العَيش، إلا أنّني فرحتُ لأنّ أختي عرفَت الغرام. وعلِمتُ أيضًا أنّ شقيقتي قد تتزوّج مِن ذلك الشخص، فهو كان مِن بلدنا ولا ينوي التسالي بل الإرتباط الجدّيّ لتكوين عائلة. إلا أنّ الزفاف كان سيُقام هناك ولَم يكن بمقدوري أو أمّي حضوره بسبب تكلفة تذكرة الطائرة. دعونا لها بالتوفيق وهي وعدَتنا بزيارتنا وعريسها في أوّل فرصة. توقّعتُ أن تبدأ سهام بردّ المال لي، لكنّها طلبَت المزيد بسبب تكاليف الزفاف. فهي أرادَت شراء فستان العرس بنفسها، لتُبرهِن لزوجها أنّها ليست فقيرة أو تعتمدُ كلّيًّا عليه. بعثتُ لها ما طلبَته، ومرّة أخرى إستنكرَت أمّي بصمت. لَم أُبالِ بموقف والدتي بل كنتُ ممنونة مِن المشاركة، ولو عن بُعد، بزواج أختي. لَم أكن أعلَم حينها أنّني سأُساهم في كلّ مراحل من حياة أختي. قد تنعتوني بالساذجة، لكنّني فعلتُ ما فعلتُه بداعي الحبّ. هل سهام إستفادَت مِن تلك الطيبة عمدًا؟ بالطبع هي فعلَت، لكن في تلك لفترة كنتُ لا أزالُ أصدّقُ نواياها.

 


لَم تأتِ سهام لزيارة البلد لا لوحدها ولا مع زوجها، بسبب إنشغالهما بعملَيهما والظروف الصعبة التي واجهتهُما. منعَتني أمّي مِن إرسال ولو قرشًا واحدًا لإبنتها الثانية، وغضبتُ منها كثيرًا مُعتبرةً ذلك أنانيّة مِن جانبها. ورحتُ خلسةً أبيعُ خاتمًا مِن الذهب لتحويل ثمنه لسهام التي بكَت على الهاتف إمتنانًا لي. ومرّة أخرى، هي وعدَتني بأن تسدّد لي دَينها... بعدما يولَد طفلها، فهي كانت حاملاً. لن تتصوّروا سعادتي حين علِمتُ بمجيء إبن أو إبنة لأختي! كنتُ سأصبحُ خالة وكأنّ ذلك سيُعوّضُني عن عدَم الزواج والإنجاب.

ولِدَ لأختي صبيّ، وأرسلَت لنا صورته وهو في سريره، وبكَت أمّي مِن الفرَح. أُعطَته إسم أبي المرحوم، الأمر الذي زادَ مِن تعلّقنا به.

في تلك الفترة، وجدتُ عملًا أفضل في مشفى آخر كان سيُمكنّني مِن قبض راتب أعلى والعمَل ساعات أقلّ. لستُ أدري لماذا، إلّا أنّني في تلك المرّة سمعتُ مِن أمّي حين قالَت لي: "ليس مِن الضروريّ أن تعلَم أختكِ بوظيفتكِ الجديدة، فطيبة قلبكِ صارَت أقرَب مِن الغباء". سكتُّ واستطعتُ لأوّل مرّة منذ فترة أن أتمتّع ولو قليلاً بِمالي.

وفي ذلك المشفى بالذات، كانت هناك مُمرّضة لطيفة للغاية فعلَت جهدها لمُساعدتي على الإنخراط في الطاقم الموجود. شكرتُها على مُساعدتها وهي أجابَت:

 

ـ لا تشكريني، فأنا أفعل ذلك مِن أجل سهام... أليست هي أختكِ؟

 

ـ بلى! وكيف لكِ أن تعرفيها؟ وكيف علمتِ أنّني أختها؟

 

ـ أنا قريبة صديقة قديمة لها ونحن على اتّصال دائم عبر الإنترنت. ولقد استنتجتُ مِن إسمكِ وشبهكِ بها أنّكِ اختها. لِما لا تلحقين بسهام في الغربة؟

 

ـ لا أستطيع ترك أمّي لوحدها وبوضعها الصحّيّ... إضافة إلى ذلك، إتّضَحَ أنّ سفَر سهام لَم يكن واعدًا، فهي تعاني مِن ضائقة ماليّة دائمة.

 

ـ ضائقة ماليّة؟!؟ هل نتكلّم عن الإنسانة نفسها؟ قد لا تكونين اخت سهام التي أعرفُها إذًا.

 

ـ ما قصدكِ؟

 

ـ لأنّ سهام التي أعرفُها، تعيشُ حياة جميلة للغاية وهي تقضي كلّ فُرصَها بالسفَر. سأريكِ صوَرها على الفيسبوك.

 

ـ سهام لدَيها صفحة على الفيسبوك؟ لَم أكن أعلَمُ ذلك.

 

ـ ليست بإسمها بل بِكنية أخرى.

 

ـ ربمّا بإسم زوجها إذًا.

 

ـ سهام ليست مُتزوّجة يا حبيبتي.

 

ـ أختي مُتزوّجة ولدَيها ولَد. مِن الواضح أنّنا لا نتكلّم عن سهام نفسها.

 


وفتحَت تلك المرأة هاتفها وتطبيق فيسبوك قائلة:

 

ـ هذه هي سهام التي أعرفُها.

 

لَم أُصدّق عينَيّ حين رأيتُ أختي مُستلقية على رمال ذهبيّة وأمام بحر أخّاذ! تصفحّتُ كلّ صوَرها، ووجدتُها قد زارَت أماكن عديدة إمّا لوحدها أو بصحبة صديقات، فأصابَني صداع رهيب. كنتُ قد أدركتُ أنّ أختي هي نفسها التي مِن أبي وأمّي، قد استفادَت منّي قدر المُستطاع مُختلقةً قصصًا محبوكة للغاية عن عوزها وزواجها وإنجابها، بِغرَض النصب عليّ حتى لو عنى ذلك حرماني مِن الإستفادة مِن تعَبي أو حرمان أمّها مِن العناية الصحّيّة. يا لَيتني سمعتُ مِن والدتي!

أخذتُ لقطات مِن صوَر سهام العديدة، وأرَيتُها لأمّي التي ذرفَت الدمع على قلّة أخلاق إبنتها التي تعِبَت على تربيَتها. وسألَتني ما أنوي فعله، فقلتُ لها إنّ عليّ التفكير جيّدًا قبل اتّخاذ موقف مِن الذي علِمتُه.

وبعد أيّام قليلة، بعثتُ لسهام صوَرها كلّها ومِن ثمّ طلبتُها هاتفيًّا وقلتُ لها:

 

ـ أرى أنّكِ فتحتِ الرسالة التي تحتوي على صوَركِ وتعلمين الآن أنّ أمركِ قد فُضِحَ.

 

ـ ماذا تُريدين؟!؟

 

ـ أُريدُ مالي حتى آخر قرش، أيّتُها الكاذبة المُحترِفة! ألَم يُؤنّبكِ ضميركِ حين كنتِ تزورين تلك البلدان وتستمتعين بالشمس وأنتِ على شواطئ الجزر التي لن أراها يومًا بسببكِ؟

 

ـ لن أردّ لكِ شيئًا! ما ذنبي إن كنتِ ساذجة؟

 

ـ هي ليست سذاجة بل حبّ... لكنّني لا أتوقّع منكِ أن تعلمي معنى تلك الكلمة... إن لَم تردّي لي كامل المبالغ التي أرسلتُها لكِ وبمهلة أقصاها الثلاثة أشهر، فسأشتكي عليكِ. لدَيّ كلّ المُراسلات التي تذكرين لي فيها عن حاجتكِ للمال وعن زواجكِ وإنجابكِ لولد وهميّ.

 

ـ لن تقبَل أيّة محكمة بهذه الأدّلة.

 

ـ وإن يكن... يكفي أن أتّصل بالمشفى التي تعملين فيه، أو أن أنشرَ في كلّ مكان على الإنترنت إسمكِ وما فعلتِه بي، حتى تتّسخ سمعتكِ إلى الأبد. أُريدُ استعادة مالي الذي سرقتِه منّي! لن أتردّد عن فعل ما وعدتُكِ به، صدّقيني!

 

أظنّ أنّ سهام أدركَت مِن نبرة صوتي أنّني بغاية الجدّيّة، واستوعبَت أنّني قادرة على أذيّتها قانونيًّا أو إجتماعيًّا، فبدأَت بإرسال المال لي إلى أن وفَت أخيرًا كلّ دَينها لي. إفتخرَت أمّي بي قائلة: "الآن أستطيعُ الإطمئنان، فقد كنتُ خائفة عليكِ مِن طيبة قلبكِ. فأن تكوني تحبّين أختك شيء، أمّا أن تتعرّضي منها للنصب والإحتيال فذلك شيء آخر."

إنقطعَت أخبار سهام كلّيًّا وحذفَت صفحتها على الفيسبوك كي لا نعلمَ شيئًا عن حياتها الشخصيّة. لكنّ خبر زواجها، الحقيقيّ هذه المرّة، وصَلَ إلينا. كانت أختي قد وجدَت عريسًا يُرضي طموحاتها الكبيرة، أي رجلاً مُسنًّا وثريًّا. وأنا أعلَمُ تمام العلم أنّها اختارَته مِن أجل ماله فقط، وشعرتُ بالأسف حيالها.

لن أفهَم يومًا حاجة بعض الناس للربح السريع حتى لو كان ذلك على حساب غيرهم. ألا يكفيهم أن يجدوا عملاً شريفًا ولو مُتواضعًا ويأكلوا مِن ثمره بعرَق جبينهم؟ إنّ القناعة بالفعل كنزٌ لا يفنى.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button