القرص رقم 3

بالطبع سألتُ نفسي أكثر مِن مرّة عن مصدر أموال ريحاب إبنة خالي، إلا أنّني لَم أتعمّق في الموضوع لأنّني لَم أكن فضوليّة بل أحترمُ خصوصيّات الناس. لكنّني لَم أستطع تجاهل ما تناقلَته ألسن البعض مِن قصص غير مُشرِّفة عن التي كبرتُ معها. فالجدير بالذكر أنّني كنت مُقرّبة جدًّا مِن إبنة خالي ولدَيّ معها ذكريات جميلة، إلا أنّنا افترَقنا حين دخلتُ الجامعة لأنّني اخترتُ كليّة بعيدة كلّ البعد عن البلدة وريحاب، ولكن بقينا على تواصل عبر الهاتف والإنترنت. كنّا نجتمع خلال الأعياد والأفراح، وكنتُ أشعرُ للحظات أنّنا عُدنا إلى الماضي الجميل.

كانت ريحاب إبنة عائلة محدودة الدخل لكن شرفاء لا يمدّون يدهم لأحد. ومِن هذا الفقر وُلِدَت حاجة لديها إلى المال والحصول على ما اشتهَته نفسها خلال طفولتها. لا أحاولُ تقديم أعذار لتصرّفاتها، إلا أنّني أعرفُ تلك الصبيّة أكثر مِن غيري، وأحاولُ إيجاد أسباب مخفّفة لِما فعلَته بنفسها وبالآخرين.

وحصَلَ أن اتّصلَت بي ريحاب بعد غياب طويل، وفرِحتُ لِسماع صوتها:

 

ـ لقد مضى وقت طويل يا ريحاب، كنّا نتبادل الرسائل فقط وها أنتِ تتّصلين بي.

 

ـ الحقيقة أنّني اشتقتُ لسماع صوتكِ الجميل وأريدُ أن أراكِ... أنا في المدينة بالقرب منكِ، هل لي أن أزورَكِ؟

 

ـ بالطبع! أنا بانتظاركِ!

 

وصلَت ريحاب إلى الشقّة الصغيرة التي استأجرَها لي والدي لمتابعة دراستي. تعانقنا مطوّلاً ومِن ثمّ جلسنا نتكلّم ونضحك. إلا أن ابنة خالي سكتَت فجأة ونظَرت إليّ بجدّيّة وقالَت:

 

ـ أريدُ خدمة منكِ وأعلمُ أنّكِ لن ترفضي مُساعدتي.

 

ـ ما الأمر يا ريحاب، أراكِ مهمومة!

 

ـ سأُعطيكِ هذه الأقراص المُدمجة لتحتفظي بها، وإيّاكِ أن تُريها لأحد! وأنصحُكِ بعدم فتحها، فما بداخلها... خاصّ جدًّا.

 


ـ إنّها خدمة بسيطة! بالطبع سأحتفظُ بها لكِ، لكن إلى متى؟

 

ـ سأتّصلُ بكِ عندما أريدُ استرجاعها. أشكركِ، يا ابنة عمّتي.

 

مكثَت ريحاب في شقّتي حوالي الساعة، ثمّ غادرَت بعد أن تأكّدَت مرّة أخرى مِن أنّني سأتبَع تعليماتها. ومع أنّني وجدتُ الأمر غريبًا بعض الشيء، فقد إعتبرتُه أمرًا يخصّ ريحاب وحدها. وضعتُ الأقراص المُدمجة في خزانة ملابسي ونسيتُ الأمر.

لكنّ أخبار إبنة خالي إنقطَعت، وحين أردتُ إرسال بضع كلمات لها، لَم تصل إليها وكأنّها أقفلَت خطّها أو غيّرَت رقمها. لكن إتّضَحَ لي أنّ ريحاب سافرَت خارج البلاد كما علِمتُ مِن أبيها حين سألتُه عنها. مرّة أخرى، لَم ينشغل بالي، فريحاب كانت مليئة بالمُفاجآت... كعادتها.

نسيتُ أمر الأقراص المُدمجة إلى حين بدأ ما أسمَيتُه "كابوسي". فتلك الأقراص كانت ذات قيمة كبيرة لدى العديد مِن الناس، وكان الحصول عليها بمثابة العودة إلى الأمان بالنسبة إليهم. فالحقيقة أنّ ريحاب كانت مُبتزّة مِن الدرجة الأولى، وهذا كان مصدر مالها الذي تساءَل عنه الناس. فذات مساء، وأنا عائدة مِن بيت صديقة لي، أوقفَني رجل في الخمسين مِن عمره وأمسكَني بذراعي قائلاً بصوت خافت:

 

ـ قالت لي إنّ "الغرَض معكِ... أُريدُه... كَم تطلبين فيه"؟

 

ـ أتركني! مَن تكون وعمّا تتكلّم؟!؟

 

ـ أريدُ القرص رقم 3 الخاص بي... هذا ما قالَته لي.

 

ـ مَن قال لكَ ذلك؟

 

ـ ريحاب... أعلَم أنّها سافرَت، وعندما اتّصلتُ بها أكّدَت لي أنّ الأقراص معكِ وأنّ عليكِ بيعي القرص رقم 3.

 

ـ صحيح أنّ ريحاب أعطَتني أقراصًا، لكنّها لَم تقل لي أن أبيعها لأحد بل أن أحتفظَ بها. لن أعطيكِ شيئًا!

 

عندها غضِبَ الرجل بشدّة وبدأ يصرخ فيّ:

 

ـ سأدفعُ لكِ المبلغ الذي تُريدينه أيّتها الفاجرة! أعطِني القرص أو قتلتُكِ وقتلتُ نفسي!

 

صرختُ مِن كثرة خوفي وأفلتُّ منه وبدأتُ أركضُ في الليل. لكنّ الرجل صَرَخَ بي وأنا أبتعدُ: "أعرفُ أين تسكنين! هي أعطَتني عنوانكِ."

دخلت شقّتي وأنا ألهثُ، وأوصدتُ الباب وبدأتُ بالبكاء. بأيّة مُصيبة زجّتني إبنة خالي؟ لمعرفة الجواب، وضعتُ قرصًا مِن الأقراص في حاسوبي المحمول وانصدَمتُ بمحتواه: رأيتُ ريحاب في السرير مع رجل لَم أرَه بحياتي وهما في أوضاع حرجة. باقي الأقراص كانت مُتشابهة لكن مع رجال آخرين. أمّا القرص رقم 3 فكان فيه الرجل الذي أوقفَني وعلِمتُ حينها مدى يأسه لاسترجاع الدليل على خيانة ما أو خوف مِن أن يُظهره الفيديو وهو عارٍ. لا بدّ له أن يكون إنسانًا معروفًا في مجاله أو ثريًّا.

 


إحترتُ طبعًا لأمري، فما كان بين يدَيّ خطير للغاية... وكان الرجل قد هدّدَ بقتلي. بالطبع فكّرتُ بإعطائه ما يُريد لكن ماذا عن توصيات ريحاب لي؟ هل كنتُ سأضعُ إبنة خالي في خطر لو تخلّيتُ عن القرص؟ هل عليّ أن أُبلغ الشرطة؟ لكنّ ذلك سيُرسل إبنة خالي مُباشرة إلى السجن. يا إلهي!

في الصباح، إتصلتُ بوالد ريحاب وطلبتُ منه رقمًا أتكلّم مِن خلاله مع إبنته لأمر بغاية الأهميّة. حاوَلَ خالي التخلّص منّي بأعذار مُفبركة، لكنّني أصرَّيتُ على خطورة الوضع. وأخيرًا أعطاني رقمًا على مضض وركضتُ أستفسرُ مِن ريحاب عن الأقراص والرجل. قالَت لي:

 

ـ لقد قلتُ للرجل رقم 3 أن يشتري القرص منكِ، بيعيه له ونتقاسم المبلغ عند عودتي.

 

ـ أقبضُ مالاً حرامًا؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ إنّكِ تنامين مع رجال وتسجّلين كلّ شيء لتبتزيهم لاحقًا! ألا تخافين الله؟

 

ـ الله لَم يُعطِني المال الذي أريدُه! بيعي القرص ولا تمثّلي دور العفيفة!

 

ـ لن أفعل! وقولي لذلك الرجل أن يتركني وشأني أو ذهبتُ إلى الشرطة.

 

ـ تُريدين سجني وتناسي ما بيننا؟

 

ـ أنتِ التي نسيتِ ما بيننا يا ريحاب! تُعطيني أقراصًا قد تُدخلني متاعب كبيرة أو تودي بحياتي؟ هل هذا هو مفهومكِ للصداقة والقرابة؟ سأرمي الأقراص!

 

ـ لا! لا تفعلي! سأرسلُ لكِ أحدًا ليأخذها منكِ.

 

ـ ريحاب... لماذا فعلتِ ذلك بنفسكِ؟ كنتِ فتاة طيّبة وبريئة.

 

ـ وفقيرة! وكم أمقتُ الفقر! ها أنا ثرّيّة وسعيدة!

 

ـ سعيدة؟ هل أنتِ سعيدة حقًّا؟ تُمارسين الفحشاء مع غرباء ومِن ثمّ تُتاجرين بحياتهم.

 

ـ لَم أُجبر أحدًا على خيانة زوجته أو قبول خدمات فتاة غريبة. هم كلّهم مذنبون!

 

إنتظرتُ أن يأتي مرسال ريحاب ويأخذ منّي ذلك الحمل الثقيل، لكنّ الرجل الذي هدّدَني جاء قبله ليطرق بابي ويصرخ عاليًا أنّه سيُبلّغ الشرطة عنّي ويسجنني و"السّاقطة". ركضتُ أفتحُ له حاملة القرص رقم3 راجيةً أن يسكتَ ويُجنّبني الفضيحة. عندما أخذَ القرص منّي سألًني كَم أريدُ مِن مال فأجبتُه: "لا أريدُ منكَ شيئًا، إرحل فقط ولا تعود... واتعِظ مِن الذي حصَلَ معك، فالله يُحبّكَ لأنّكَ وقعتَ عليّ وليس على ريحاب". إختفى الرجل بلحظة وارتاحَ قلبي.

في اليوم التالي أتى شابٌ غليظ المظهر ليأخذ الأقراص نيابةً عن ريحاب، وسألَني بغضب أين القرص الناقص فأجبتُه: "عادَ لصاحبه وإن كان لا يُعجبُكَ الأمر، فاضرب رأسكَ بالحائط أنتَ وتلك القليلة الأخلاق!". وأقفلتُ الباب في وجهه بغضب.

في اليوم نفسه ذهبت واجتمعتُ بوالدَيَّ وأخبرتُهما بكلّ ما حدَث، فقد كنتُ خائفة مِن شريك ريحاب. طمأنَني والدي وبكَت والدتي واعدةً أن تكلّم أخاها. وبقيتُ في البلدة إلى أن أكّدَ لي خالي أنّني بأمان. فهو كان يعلمُ ما تفعله إبنته لكن ليس بالتفاصيل، وكان حزينًا جدًّا لِما آلَت إليه أحوال ريحاب. لكنّه لَم يتخلَّ عنها آملاً أنّها ستعود يومًا إلى الطريق الصحيح.

لكنّ ريحاب لَم تتُب بل تابعَت التجارة بجسدها، بمساعدة شريكها الذي أيضًا كان قوّادها... وانتهى الأمر بهما في السجن بعد ثلاث سنوات.

وفي أحد الأيّام، خلال مُشاهدتي برنامجًا تلفزيونيًّا، رأيتُ مُقابلة مع رجل القرص رقم 3. كدتُ أصرخُ لكنّني عدتُ وابتسمتُ، فهو كان يتكلّم ببراعة عن القيَم والأخلاق، واصفًا نفسه بأنّه أشدّ مُدافع عن الترابط العائليّ والزوجيّ. مُنافقٌ آخرٌ يلبسُ ثوب العفّة في العلَن وثوب الإثم في الخفاء. فلولا تصوير ريحاب له خفية، لكان استمرّ بالكذب على زوجته ومعاشرة بنات الليل ليُرضي غروره. وأبشَع ما في الأمر أنّه، خلال المقابلة، طلَبَ إنزال أشدّ العقوبات بالذين يخونون زوجاتهم وأزواجهم لأنّ ذلك مرفوض أخلاقيًّا ويُغضب الله. أفلا يعرفُ أنّ بإمكانه الكذب على مَن شاء لكن ليس على الله الذي يعلم ويرى كلّ شيء؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button