كم تفاجأت حين اكتشفت حقيقة صديقتي، ولا أزال أتساءل كم مِن الوقت يلزم المرء لمعرفة غيره معرفة عميقة؟ فغادة كانت إنسانة وصفتها بالعادية والشفافة، ولم تعطني يومًا سببًا لأشك بالذي تقوله لي وللآخرين.
تعرّفتُ إلى غادة خلال مؤتمر للمعدات الطبيّة للشركة التي أعمل لدَيها. وهي كانت على رأس الفريق المُنظّم الذي يهتمّ بهكذا مُناسبات مِن الألف إلى الياء. فحين أرسلَني مُديري للإستفسار عن بعض النقاط، وجدتُها إنسانة مرحة ولطيفة وأخَذنا نتحدّث عن أمور عديدة. وبعد المؤتمر، عدتُ ورأيتُها خلال البوفيه الذي كان لذيذًا للغاية. هنّأتُها على أدائها، وهي أثنَت على فستاني وأناقتي وتبادَلنا أرقام الهواتف... وصرنا صديقتَين. كانت غادة في سنّي أي في الثلاثين مِن عمرها، لكن، على خلافي، لَم تكن مُتزوّجة أو لها أولاد بالرغم مِن مظهرها الجميل وعملها الناجح. لَم أسألها عن الأمر إلا عندما صرنا مُقرّبَتين، وهذا ما قالَته لي:
ـ للحقيقة لَم يعُد يهمّني أمر الرجال بعد... بعد الذي جرى للمسكين خطيبي.
ـ كنتِ مخطوبة؟
ـ أجل، لِشاب إسمه شادي الذي توفّيَ قبل زفافنا بأسبوع... ومنذ ذلك الوقت باتَ ذكراه كلّ ما أريدُه في حياتي.
ـ يا إلهي... ما هذا الخبر المُحزن! كيف ماتَ؟
ـ في حادث سير مروّع أثناء وجوده في أوروبا... تصوّري أنّني لَم أزر قبره يومًا بسبب المسافة، فهو مدفون حيث مات.
ـ ولماذا لَم تسترجع عائلته الجثّة؟
ـ لأنّه كان يتيم الأبوَين وولدًا وحيدًا... كنتُ كلّ شيء بالنسبة له: حبيبته وأخته وامّه، ومعي كان يلقى الحنان الذي حُرِمَ منه. كان رجلاً رائعًا إذ عرفَ كيف يردّ لي ذلك الحنان... فكيف لي أن أحبّ غيره يومًا؟ دعينا مِن هذا الحديث الآن وتعالي نتسوّق!
بقيَت قصّة غادة تشغلُ بالي لفترة ومِن ثمّ نسيتُها. وحده زوجي كان يُردّدُ كلّما جئتُ على ذكر صديقتي: "المسكينة... يا لَيتكِ لَم تخبريني الذي جرى لِغادة... قصّة حزينة و... غريبة". لَم أفهَم أين الغرابة في أن تخسَرَ فتاة خطيبها، لكن للرجال نظرة مُختلفة للأمور عن نظرة النساء.
مرَّت الأشهر حتى أخبرَني مُديري بأنّه ينوي إرسالي إلى أوروبا لإبرام عقد مع شركة هناك وتذكّرتُ على الفور ما قالَته لي غادة فسألتُها:
ـ قلتِ إنّ شادي مدفون في أوروبا وإنّكِ لَم تزوري قبره يومًا.
ـ صحيح ذلك ولكن ما الذي ذكّرَكِ بِشادي؟
ـ أجيبيني عن هذا السؤال أوّلاً: في أيّ بلد بالذات؟
ـ في ألمانيا.
ـ يا إلهي! ما هذه الصدفة! في ألمانيا! هيا، إحزمي حقيبتكِ لأنّني سأحقّقُ حلمكِ.
ـ أيّ حلم؟
ـ زيارة قبر خطيبكِ! أنا مُسافرة إلى ألمانيا بعد أسبوع... لا تخافي، سأدفعُ أنا تكاليف سفركِ لأنّني أتقاضى راتبًا مُضاعفًا عندما يُرسلوني خارج البلاد. أليس عرضًا رائعًا بالنسبة لكِ؟
ـ للحقيقة... لَم أتوقّع... لقد فاجأتني... وماذا عن عملي؟ لا أستطيع تركه.
ـ بلى، بلى، فلا أحد غير قادر على التوقّف عن العمل لأيّام قليلة. لدَيكِ أسبوع واحد، هيّا!
قبَّلتُ صديقتي بِفرح وكأنّها هي التي تُتيح لي تحقيق حلم عزيز عليَّ، وامتلأ قلبي بالفخر. زوجي هو الآخر إفتخَرَ بي إلا أنّه عادَ وحذّرني مِن أنّ غادة قد لا تكون جاهزة لزيارة قبر خطيبها هكذا بصورة مُفاجئة وأضافَ: "أشارطُكِ بأنّها ستختلقُ ألف عذر لعدَم مُرافقتكِ". ضحكتُ في سرّي، فأنا مِن اللواتي يصعب عليهنّ تقبّل الرفض.
لكن قبل يوم واحد مِن سفرنا، وبعد أن راجعنا توقيت نشاطاتنا في ألمانيا، إتّصلَت بي غادة لتُخبرني بأنّها لا تستطيع ترك أبيها الذي أُدخِلَ لتوّه إلى المشفى بسبب نوبة قلبيّة. وهي كانت قد خسِرَت أمّها قبل أن أتعرّف إليها بقليل، ولا يُمكن لسواها الإهتمام بذلك الرجل العجوز والمريض. كنتُ قد تعرّفتُ إلى أب غادة أثناء إحدى زياراتي الخاطفة لها، وعلِمتُ أنّ قلبه ضعيف خاصّة بعد موت زوجته، لِذا لَم أجد سببًا لِعدَم تصديق غادة، فتمنّيتُ لِمريضها الشفاء العاجل وطرتُ في الصباح الباكر.
لكن قبل رحيلي كنتُ قد أوصَيتُ زوجي بالإطمئنان على صديقتي وأبيها، ففكرة تركها هكذا كانت تُزعجُني كثيرًا. فأنا صديقة وفيّة أعرفُ معنى الصداقة الحقيقيّة، أي أن يُساند الإنسان أخاه في وقت الشدّة، ولو استطعتُ إلغاء سفري لفعَلت.
بقيتُ أطمئنُّ على غادة وأبيها مِن ألمانيا، وكانت الأخبار جيّدة إذ قالَت لي إنّ الرجل عادَ إلى بيته بعد ثلاثة أيّام.
إلا أنّ زوجي كان يُخبّئ لي مُفاجأة غير سارّة لدى رجوعي، مفادها أنّه قصَدَ المُستشفى المذكور للإطمئنان على أب غادة لكنّه لَم يجده هناك أو في أيّ مكان آخر. وأضافَ: "ألَم أقل لكِ إنّها ستخترعُ الحجج لِعدم السفر معكِ؟". أسفتُ أن تكون صديقتي قد استعملَت هذا الأسلوب معي، لِذا رحتُ أدقّ باب بيتها للإعتذار لها عن الضغط عليها لفعل ما كان سيُسبّب لها الأسى ويُحرّكُ في قلبها ذكريات مؤلمة. فتَحَ لي أبوها ودعاني للدخول ريثما تعود غادة مِن السوبر ماركت. وجدتُه فعلاً بصحّة جيّدة، لكنّني سألتُه عن قلبه الذي كان مريضًا. فقال لي:
ـ أنا بخير يا إبنتي... قلبي تلقّى ضربة كبيرة عند موت زوجتي، فخسارة النصف الآخر أمر صعب التحمّل.
ـ يُمكنّني تصوّر ذلك... غادة هي الأخرى فقدَت نصفها الآخر، لكنّها في سنّ يُساعدُها على تحمّل الصدمة، على الأقل جسديًّا. أعني بذلك طبعًا شادي خطيبها الذي ماتَ في ألمانيا. كنتُ أنوي اصطحابها معي إلى ذلك البلد لتتمكّن مِن زيارة قبره لكنّها لَم تقبل.
ـ وكيف لها أن تزور قبر انسان لَم يمت؟
ـ بلى... لقد ماتَ قبل زفافهما بأسبوع واحد! ألستَ على علم بذلك؟!؟
ـ أيّ زفاف تتكلّمين عنه؟ الرجل لَم يُصدّق أنّه فسَخَ خطوبته مِن إبنتي! آه يا غادة، يا حبيبتي... متى ستواجهين الحقيقة؟
ـ أيّة حقيقة عليها مواجهتها؟
ـ أنّ شادي لم يكن يُريدُها.
ـ لكنّهما كانا مخطوبَين!
ـ صحيح ذلك... فلقد تعلّقَت به تعلقًّا مرَضيًّا لِدرجة أنّها صارَت تغار عليه بطريقة جنونيّة، وتلحقُ به أينما ذهب وتتصّل به على مدار الساعة حتى في وسط الليل أو في الصباح الباكر! وفي آخر المطاف، أدركَ شادي أنّه لن يستطيع العَيش مع إمرأة مثلها، وصارَ يكرهُها لدرجة أنّه غيّر رقم هاتفه مرّات عديدة وأماكن وجوده المُعتادة. لكنّها صارَت تتصّل به في مقرّ عمله وتنتظره قرب الشركة أو أمام منزله. وذات يوم قصدَني ليتوسّل إليّ بإقناعها بتركه وشأنه، وخلَعَ أمامي خاتم الخطوبة لتفهَمَ إبنتي أنّه لَم يعُد يريدُ الإرتباط بها.
ـ يا إلهي... المسكينة... لِذا اخترعَت قصّة موته في بلد غريب.
ـ هذه كانت توصية الطبيب النفسيّ الذي زارَته غادة، لكنّه قال لها إنّ عليها اعتباره ميّتًا وليس تصديق ذلك، فهي تبكيه فعلاً حتى أنّها لبِسَت الأسود حدادًا عليه. هي تعي مِن وقت لآخر أنّه لا يزال حيًّا لِتعود وتصدّق قصّة موته التي نسجَتها بنفسها. أظنّ أنّ مِن الأفضل لو تدخل إبنتي المصحّة لبعض الوقت.
ـ يا إلهي... المصحّة؟
ـ أجل فجلساتها مع الأخصّائيّ لَم تأتِ بالنتيجة المرجوّة، وقد تحتاج إلى أدوية. الحقّ يقَع حتمًا عليّ، فخلال طفولتها لَم أكن موجودًا بل دائم الغياب بسبب عملي، ولقد وجدَت في شادي الرجل الذي عليها التمسّك به مهما كلّفَ الأمر للحصول على حنان إفتقدَته.
بقيتُ أتصرّف مع غادة بشكل طبيعيّ، ولَم أقل لها إنّني علِمتُ الحقيقة عن شادي إلى حين أُدخِلَت المصحّة بعدما حاولَت الإنتحار مِن كثرة حزنها على خطيبها المتوفّي. صرتُ أزورُها أسبوعيًّا ولَم أُلاحظ عليها أيّ تحسّن بل العكس. وبعد سنتَين، فقدَت المسكينة عقلها كليًّا بعدما صارَت تتّهمُني بأنّني سرقتُ شادي منها، ولَم تعُد تريدُ رؤيتي.
حزنتُ كثيرًا على غادة، فلا شيء في مظهرها أو تصرّفاتها كان يدلّ على الجنون النائم في ثنايا عقلها.
لَم أترك أب صديقتي الذي كان وحيدًا، بل اعتبرتُه عمًّا لي أطهو له وأغسلُ ثيابه إلى حين توفّي إثر نوبة قلبيّة حادّة. لَم تعرف غادة أنّ أباها رحَلَ، أوّلاً لأنّ أحدًا لَم يُخبرها بذلك، وثانيًا لأنّها نسيَت أنّ لها أبًا لكثرة تركيزها على شادي الذي كان تارةً قد ماتَ في ألمانيا، وتارة أخرى خانَها مع كلّ النساء اللواتي تعرفهنّ ومِن بينهنّ ممرّضات المصحّة.
لقد مضى على جنون غادة أكثر مِن عشر سنوات، ولا أزالُ أذهب لرؤيتها خلسةً مِن وقت إلى آخر، فأختبئ خلف الباب وأنظرُ مِن النافذة الصغيرة. شكلها تغيّرَ للغاية، فهي باتَت نحيفة جدًّا تحدّقُ في الحيطان أو تكلّم شخصًا وهميًّا بلطافة أو بغضب، حسب مزاجها والأفكار التي تأتي على بالها.
كم أنّ عقل الإنسان هشّ وفقدانه يعني فقدان التواصل مع الواقع وكلّ ما يُحيطُ به، وكَم مِن ناس صُدموا في حياتهم ويُخبّئون في قرارة نفسهم جنونًا قد يستفيقُ بين اللحظة والأخرى ليُدمّرهم ومَن حولهم.
حاورتها بولا جهشان