الضوء في آخر النفق

كنّا بالكاد نأكل، ولقد أمضَيتُ ليال عديدة أحلم بأطباق لن أتذوّقها يومًا بسبب فقرنا. وقد لمتُ والدي كثيرًا على حالنا، لأنّه كان، وبكل بساطة، رجلاً كسولاً يُفضّل قنّينة الكحول على العمل. كما لِمتُ أيضًا أمّي، فهي الأخرى أخَذَت تلد الأخوة والأخوات وكأنّنا أغنياء، لِدرجة أنّني تمنَّيتُ لو تصدر الدولة قانونًا يمنع الفقراء مِن الانجاب. فكيف تصوَّرَ هذَان الشخصان أنّ بإمكانهما إطعام وإلباس وتعليم تسعة أولاد وتأمين حياة كريمة لهم؟ كم أنّ الجهل قاسٍ!

قضيتُ أوّل سبع سنوات مِن حياتي ألعب بشبه ألعاب وجدتُها مرميّة في الشارع، ومِن ثمّ مع رفاقي الذين كانت حالتهم تشبه حالتي. علاقتي مع أخوَتي كانت أقل مِن عاديّة، فقد كانوا يُمثّلون بالنسبة لي منافسين على لقمة عَيشي.

وأصبحتُ رئيس ما أسَميناه "شلة الخمسة"، أي أكثر الأولاد حنكةً ودهاءً في الحيّ. وكان الناس يهابوننا بالرغم مِن صغر سنّنا. بالطبع لم يتدخّل أبي ولا أمّي لوضع حدّ لممارساتي، فكان أبي دائم السكر ووالدتي منشغلة بأولادها الكثر.

عندما بلغتُ سنّ الخامسة عشرة، كنتُ قد أصبحتُ متمرّسًا بالسرقة والاحتيال، لا أتردّد عن مدّ يدي إلى جيوب المارّة لأحصل على ما يكفي لشراء ما لم يُؤمنّه لي والداي. لم أتقاسم غنائمي مع أخوَتي، بل فقط مع أعضاء الشلّة الذين كانوا يُبادلوني بالمثل. فالذي كان بيننا كان أقوى مِن رابط الأخوّة.

دخلتُ قسم الشرطة لأوّل مرّة في سنّ السادسة عشرة، عندما قبَضَ عليّ أحد الشرطيّين بالجرم المشهود. حاولتُ الفرار منه إلا أنّني سلّمتُ نفسي له بعدما رأيتُ كيف تخلَّت عنّي باقي الشلّة. مدى استيائي كان لا يُقاس، وبدا لي السجن مكانًا جميلاً وبعيدًا عن الخونة الذين أقسموا لي على الوفاء والتفاني.

 


حين علِموا في البيت ما حلّ بي، هزئوا منّي ولم يتكبّد أحد عناء زيارتي، وحده أبي توجّه إلى القسم فقط لأنّه كان مجبرًا على ذلك كَوني قاصرًا. هناك، طلَبَ مِن المحقّق إبقائي عندهم "لأتعلّم الدرس جيّدًا". ومِن ثمّ وقَّعَ على بعض الأوراق واختفى عن نظري.

حاكموني في محكمة الأحداث بسبب سنّي، وأرسلوني إلى مؤسّسة تشبه السجن لقضاء سنة بكاملها فيها. مِن بعد ذلك كان عليّ نسيان حياتي السابقة وإلا أرسلوني إلى سجن حقيقيّ للبالغين.

دخلتُ المؤسّسة وكأنّني فاتح قويّ يستعرض مملكته الجديدة. إلا أنّ باقي السجناء لم يُعيروني الأهميّة التي انتظرتُها، بل تجاهلوني كليًّا وشتمَني البعض منهم ووعَدني بتلقيني دروسًا تجعل منّي صبيًّا مطيعًا. لا أنكر أنّني خفتُ في ذلك اليوم مِن الذي كان ينتظرني وندمتُ، ولو بعض الشيء، على ما فعلتُه لينتهي المطاف بي في هكذا مكان.

المسؤولون كانوا صارمين معنا، وكرهتُ النظام هناك بعد أن قضيتُ حياتي في الشارع أفعل ما يحلو لي ساعة أشاء. لكنّي انصعتُ للأوامر إذ لَم يكن باليد حيلة، واعدًا نفسي بالتعويض عن تلك الصّرامة فور خروجي.

مرَّت الأشهر بصعوبة، خاصّة أيّام الزيارات حين كان يأتي أهل السجناء لرؤيتهم، أمّا أنا فلم يتذكّرني أحد مِن أهلي. هل كنتُ أستحقّ هذه المعاملة مِن قِبَل الذَين أوجداني ومِن ثمّ رمياني؟ بالطبع لا، فمثل الكثير مِن الجناة هم ضحايا منزلهم وعدم اكتراث أهلهم بهم.

بعد سنة، خرجتُ أخيرًا مِن بين جدران المؤسّسة، واعدًا نفسي بالعدول عن فعل أيّ شيء يُعيدني إلى الحبس، إلا أنّ أفراد الشلّة ظهروا مجدّدًا بعدما اختفوا مِن حياتي بجبن. كلّ واحد منهم أعطاني عذرًا لتبرير تخلّيه عنّي. ولأنّني كنتُ أحملهم في قلبي، قرّرتُ، وللأسف، أن أسامحهم. وعدنا إلى ممارساتنا القديمة، إلا أنّ أحد أصدقائي اقترَحَ هذه المرّة أن نقوم بعمليّة سطو لبقّالة صاحبها عجوز لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

لم أكن موافقًا، خاصّة أنّني كنتُ أعرف العم خليل منذ صغري، وكان يُعطيني دائمًا الحلوى مجّانًا وبعض المأكولات التي لم أكن قادرًا على شرائها. إلا أنّني إشتركتُ بالسطو لسبب واحد، وهو حماية ذلك العجوز مِن الأذى لأنّ أصدقائي كانوا قد زادوا عدائيّة خلال السنة الأخيرة. وهكذا دخلنا البقّالة مقنّعين وحاملين العصي ومهدّدين. أعطانا الرجل ما في صندوقه، وحين قرّرنا الرّحيل، وضَعَ يده على صدره ووقَعَ أرضًا ميّتًا. كان العم خليل قد قضى جرّاء نوبة قلبيّة. وقفتُ مكاني عاجزًا عن استيعاب ما حصل، بينما، وللمرّة الثانية، فرّ رفاقي مِن دوني.

 


حين دخلَت الشرطة المكان، وجدوني قرب جثّة العجوز فقبضوا عليّ. صحيح أنّنا لم نتسبّب مباشرة بجريمة، لكنّ النتيجة كانت الموت ولم يكن هناك أحد سوايَ ليدفع الثمن، فبسبب شيَمي لم أشِ بباقي الشلّة. حكموا عليّ بالحبس عشر سنوات قضيتُها مِن دون زيارات، لا مِن أهلي ولا مِن رفاقي. لكن في تلك المرّة، فهمتُ أنّ على حياتي أن تأخذ مجرىً مختلفًا وإلا هدَمتُ مستقبلي كليًّا.

لِذا بدأتُ أقرأ في كتب مكتبة السجن، وساعدَني بذلك المسؤول عنها، وهو سجين أيضًا كان يهوى المطالعة. وهو الذي أخبرَني أنّ باستطاعتي متابعة دراستي التي تركتُها باكرًا والحصول على شهادة، ولو بسيطة، في اختصاص أكاديمي أو مهنيّ. إخترتُ الميكانيك، فكنتُ مولعًا بالموضوع، وأسأل نفسي دائمًا عن كيفيّة تشغيل الآليّات وتصليحها.

يوم بعد يوم وشهر بعد شهر ومِن ثمّ على مرّ السنوات نلتُ شهادتي، أي مفتاحي إلى حياتي ما بعد الخروج. في تلك الأثناء، إستعملتُ مشغل السجن للتمرين على ما تعلّمتُه إلى أن أصبحتُ متمرّسًا.

ولكثرة اجتهادي وتقيّدي بالقوانين وعدَم دخولي المناكفات التي تحصل غالبًا بين السجناء، تمّ إخلاء سبيلي قبل الأوان بثلاث سنوات.

عند خروجي، ذهبتُ فورًا إلى كاراج بعثَني إليه مدير السجن حيث تمكنتُ مِن بدء العمل. شعرتُ بفرحة لا توصَف، لأنّني كنتُ، ولأوّل مرّة في حياتي، سأكسب مالي بعرق جبيني.

لكنّ أفراد الشلّة لم يكونوا مستعدّين لإفلاتي وخسارة عنصر مهمّ ومنتج، فبحثوا عنّي ووجدوني. وأمام رفضي القاطع لمعاودة ممارساتنا غير الشرعيّة، إنقلبوا ضدّي وهدّدوني بمصير بشع لو بقيتُ أرفض. لم أكترث لكلامهم، فكنتُ قد أصبحتُ مستقلاً ماديًّا عنهم وطردتُهم مِن دون أسف.

حاول هؤلاء الناس التعرّض لي عدّة مرّات ولكن مِن دون جدوى، لأنّني كنتُ أعرف حيَلهم وطريقة عملهم عن ظهر قلب، فابتعدوا عنّي أخيرًا.

بعد بضع سنوات صرتُ مدير الكاراج، بعدما أراد صاحبه التقاعد ولم يجد أفضل منّي لأخذ مكانه. ليس ذلك وحسب، بل أعطاني ابنته زوجة لي، الفتاة نفسها التي كنتُ قد أُغرِمتُ بها سرًّا.

واليوم، بعدما صارَت لي عائلة خاصّة بي، أنظر إلى مشواري وأحمد ربّي على أنّه أعطاني الفكر اللازم لوضع حدٍّ لحياة الانحلال. وأنا البرهان الحيّ على أنّ الانسان يقدر أن يُغيّر أحواله مهما كانت صعبة أو بشعة. فمِن ولد فقير متروك مِن أهله عاش في الشارع مِن السرقة ودخَلَ مرّتَين السجن، صِرتُ رجلاً محترمًا وكادحًا مع زوجة مُحبّة وولدَين رائعَين.

فلتكن قصّتي عبرة لكلّ مَن على وشك الاستسلام ولا يرى ذلك الضوء في آخر النفق، فهو موجود حقًّا، حتى ولو كان خافتًا. كلّ ما علينا فعله هو السير باتجاهه لرؤيته والمضيّ في الطريق السليم.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button