إستمعَت السيّدة مُنى إليّ بِصمت، وعندما انتهَيتُ مِن الكلام قالَت لي:
ـ لقد أضَعتِ وقتي بتذمّركِ وبكائكِ... عودي إلى عملكِ ودَعيني أذهب إلى صديقاتي، فلدَينا إجتماعنا الأسبوعيّ ولا أطيقُ تفويته.
ـ ماذا؟!؟ لقد أضَعتُ وقتكِ؟َ!؟ أقول لكِ إنّ زوجكِ يريدُ ممارسة الجنس معي وإلا اتّهَمني زورًا بالسرقة... وهذا جوابكِ؟!؟
ـ سمِعتِ ما طلبَه منكِ... فنفّذيه مِن دون مُناقشة! هل اعتقدتِ أنّني سأُدافعُ عنكِ حفاظاً على زوجي العزيز؟ ها ها ها! لَم يعُد زوجي فعلياً منذ سنوات عديدة، ولا آبه أبدًا لِما يفعله أثناء لياليه، ومع مَن.
ـ أنتِ إمرأة مثلي وتعلَمين معنى الشرَف.
ـ لَم أعُد إمرأة منذ حَرَمَني مِن أنوثتي وكرامتي وفضَّلَ عليّ الخادمات.
ـ لكنّني غير موافقة! لا أريدُ السيّد مُحسن!
ـ هو يُريدُكِ ولقد اعتادَ نَيل كلّ ما يُريدُه، حتى لو كان ذلك بالقوّة. عادةً يستعملُ المال كطعم، لكنّه على ما يبدو شعَرَ أنّكِ لستِ كالأخريات.
ـ الأخريات؟
ـ أجل، مثل صديقتكِ يُمنى. هل تظنّين حقًّا أنّها رحلَت مِن أجل والدتها؟ لقد سئِمَ مُحسن منها، فأعطاها الكثير مِن المال لترحل... وتجد له بديلة.
ـ يا إلهي! باعَتني يُمنى؟!؟
ـ المال... كلّ شيء يدورُ حول المال ولكّل منّا ثمَن. سترَين، ستفعلين ما يُريدُه زوجي منكِ، في البداية رغمًا عنكِ، ومِن ثمّ، بعدما تحصلين على المال والهدايا منه، سيروقُ لكِ الأمر. أعلَم عمّا أتكلّم، فهو فعَلَ الشيء نفسه معي، إلا أنّه تزوّجَني ليُنجب وحسب. واليوم أنا سجينة ذلك المال.
ـ لن أبيعَ شَرَفي بأيّ ثمَن! أفضّلُ دخول السجن على ذلك!
ـ ها ها ها! كَم أنّكِ ساذجة! ربمّا السبب هو سنّكِ اليافع، فأنتِ حقًّا صغيرة. نشّفي دموعكِ واذهبي إلى مهمّاتكِ، هيّا!
وأمام فظاعة موقف زوجة ذلك الرجل الفاسق والفاسد والمُغتصِب، تراءى لي أنّ الموت قد يكون حَلّي الوحيد، فما عساني فعل بعدما تواطأ الجميع ضدّي؟ صديقتي باعَتني، وسيّد البيت إبتزَّني وزوجته أدارَت نظرها عن تلك الجريمة.
قضيتُ اليومَين التاليَين في غرفتي الصغيرة بعدما ادّعَيتُ أنّني مريضة. كنتُ أريدُ كَسب الوقت، لكنّ كذبتي انقلَبت ضدّي حين قرَّرَ السيّد مُحسن أن يجلبَ لي طبيبًا، ليس مِن خوفه على صحّتي، بل لأشفى بسرعة ويتسنّى له إشباع رغباته معي. وكَم كان خوفي كبيرًا حين وصَلَ الطبيب، حاملاً شنطته الصغيرة بِغرَض الكشف عليّ وبالتالي كشف كذبتي.
أغلَقَ الرجل باب غرفتي وراءه، وأخرَجَ سماعته لكنّني أوقفتُه قائلة:
ـ لا تُتعب نفسكَ يا دكتور، فأنا لا أُعاني مِن شيء. لقد كذبتُ بشأن مرَضي.
ـ ماذا؟ لقد أضعتِ وقتي، فهناك مرضى حقيقيّون وهم بحاجة إليّ.
ـ أنا آسفة... تلك كانت طريقتي الوحيدة لـِ...
ـ لماذا؟
ـ لا شيء... قد تكون صديق العائلة... أو قد لا تُصدّقني. ما نفع الكلام حين الكون بأسره ضدّي؟ يا لَيتكَ تُعطيني قرصًا أم شرابًا يأخذُني على الفور إلى دنيا أخرى.
ـ تتمنّين الموت وأنتِ في سنّكِ؟ ماذا تركتِ لمَن هم أكبر منكِ؟ أنا متأكّد مِن أنّ متاعبكِ أقل سوءًا ممّا تتصوّرين. فأنتِ مراهقة وترَين العالم بنظرة مُتطرّفة بعض الشيء.
ـ يا لَيت كان ذلك صحيحًا! فالسجن بانتظاري وأنا بريئة. أيّ عار أختار؟
وبدأتُ بالبكاء، وحاولَ الطبيب مواساتي وحَملي على التكلّم. وأمام رفضي القاطع قال لي:
ـ إسمعي... لَم أفهم شيئًا مِن الكلام المُبهَم الذي خرَجَ مِن فمكِ، إلا أنّني أعرفُ أمرًا واحدًا: الحقّ أقوى مِن الباطل، والبريء، مهما ظُلِمَ، سينتصرُ يومًا. مِن الواضح أنّكِ وسط أزمة حقيقيّة استهَنتُ بها في البداية. عندما أخرجُ مِن غرفتكِ ستعودين وحيدة ولن أقدر على مُساعدتكِ. كوني شجاعة ولا تخافي، لستُ صديق أحد، بل طبيب استُدعيَ لتوّه للكشف على مريضة. قد أكون كاذبًا، لكنكِ لن تخسري شيئًا إن وثقتِ بي، فلطالما تشعرين أنّكِ خسرتِ كل الناس وتريدين الموت. هيّا، أريني شجاعتكِ.
مرّة أخرى رويتُ ما جرى لي، وتمنَّيتُ مِن كلّ قلبي ألا يتخلّى هو عنّي كما فعَلَت صديقتي والسيّدة مُنى مِن قبله. ولحظة ما لفظتُ آخر كلمة، قامَ الطبيب مِن على سريري وفَتَح باب غرفتي ونادى السيّد مُحسن. شعرتُ بِخوف لا يوصَف وكدتُ أن يُغمى عليّ، فلَم أعدُ أتحمّل هذا الكمّ مِن الظلم.
وحين حضَرَ السيّد مُحسن قال له الطبيب:
- هذه الفتاة مريضة للغاية، وعليّ أخذها إلى المشفى بأسرع وقت! الزائدة الدوديّة ملتهبة وقد يُصيبُها تسمّم عام. وفي حال بقيَت هنا، لن أكون مسؤولاً عن موتها بل أنتَ، وستواجه لوحدكَ التداعيات. سأقلُّها بنفسي، فلدَيَّ مُعاينات في المشفى عليّ القيام بها.
عند سماعي ذلك، وضعتُ يديّ على بطني وبدأتُ أئنُّ بقوّة، الأمر الذي أخافَ سيّد البيت الذي حاوَل المفاوضة، إلا أنّ الطبيب بقيَ مُصرًّا حتى أقنعَه.
وهكذا خرجتُ مِن البيت مع الطبيب. لكنّني قلتُ له عندما جلستُ بالقرب منه في سيّارته:
ـ ما نَفع خروجي مِن البيت؟ فالسيّد مُحسن لَم يكن يحتجزُني، وهو قادر على التبليغ عنّي حتى وأنا بعيدة.
ـ ليس إن بلّغتِ أنتِ عنه قبل أن يفعل، ولأنّني لا أريدُكِ أن تبقي دقيقة واحدة في ذلك البيت الفاسد. إسمعي، لدَيّ إبنة بمثل سنّكِ ولا يسعُني حتى تخيّلها مكانكِ.
ـ لن تُصدّقَني الشرطة.
ـ بلى... لأنّني أُصدّقُكِ. فمهنتي هي تخفيف آلام الناس، وبتُّ قادرًا على رصد تلك الآلام، فقد رأيتُ بل لمستُ ألمكِ بوضوح. إلى جانب ذلك، لاحظتُ نظرات السيّد مُحسن إليكِ عندما دخَلَ الغرفة، ولَم تكن أبدًا نظرات ربّ عمل إلى عاملته، بل كانت مليئة بالرغبة لدى رؤيتكِ بلا غطاء.
أخذَني ذلك الرجل الطيّب على الفور إلى قسم الشرطة، حيث طلَبَ مُحقّقًا كان يعرفُه كونه أحد مرضاه القدامى، فرويتُ قصّتي للمرّة الثالثة. صحيح أنّني لَم أكن أملكُ أيّ دليل على براءتي أو حتى نوايا السيّد مُحسن، إلا أنّ وجود الطبيب معي وإلى جانبي أعطى لحديثي مصداقيّة كبيرة. قال لي المحقّق:
ـ بغياب أدلّة ملموسة، لا يسعني القبض على ذلك الرجل، لكن باستطاعتي استدعاءه لطرح بعض الأسئلة عليه. قد يكون ذلك كافيًا لإخافته وإقناعه بعَدم اتهامكِ بالسرقة. وإن فعَلَ، فسأفتحُ تحقيقًا تكونين للأسف فيه المُتهمّة الرئيسيّة. لكن كوني على ثقة بأنّني سأبذلُ جهدي لإظهار براءتكِ.
أوصلَني الطبيب أمام بيت أهلي، وقلتُ لهم إنّني أخذتُ إجازة طويلة مِن عملي.
ومساء اليوم التالي جاءَني إتصال مِن السيّد مُحسن:
ـ أيّتها الفاسقة! كيف تجرئين على التبليغ عنّي وتلطيخ سمعَتي؟ أنا سيّدكِ!
ـ أوّلاً لستَ سيّدي، بل الله وحده سيّدي. أنتَ مُستخدمي وحسب. ثانيًا، أنتَ الذي لطّختَ سمعتكَ وليس أنا. لن أكون إحدى ضحاياك! أنا إنسانة حرّة وقادرة على الدفاع عن نفسي. في البدء، كنتُ خائفة منكَ، إلا أنّني فهمتُ أنّ للحق أصدقاء وللأبرياء سنَد. تُريدُ المضيّ بالقضيّة؟ أنا جاهزة! لكن إعلَم أنّ حتى لو ربحتها، لن ينسى الناس أنّكَ قد تكون رجلاً فاسدًا ومريضًا جنسيًّا، وسيُشيرون إليكَ بالأصابع، وسيُضايقون أولادكَ في مدارسهم وسيبتعد عنكَ الأصدقاء والأهل. إنّ الناس يُحبُّون القصص والشائعات ويبنون عليها يقينًا ويتصرّفون بمُقتضاه. ستكون الخاسر الأكبر، صدّقني.
ـ أيّتها الفاجرة!
لَم يسمع منّي السيّد مُحسن بسبب عنفوانه، فهو لَم يتقبّل أن تنتصر عليه فتاة، لا بل خادمة. لِذا ادّعى عليّ وقامَ المفتّش بواجبه، أي أنّه تحرّى عن صديقتي يُمنى ووجدَها، وحقّقَ معها إلى أن اعترفَت بالحقيقة. ومِن ثمّ استجوبَ السيّدة مُنى التي بقيَت مصرّة على كتم ما تعرفه إلى حين أوقعَت نفسها بالكلام. كان جليًّا أنّني بريئة، فأسرَعَ السيّد مُحسن بسحب شكواه، إلا أنّ العدالة طالبَته بدفع ثمن أخطائه. وهكذا دخَلَ السجن لمدّة ليست بطويلة، ولكن كافية لتدمير حياته وعلاقاته. إستغلّت زوجته الفرصة لطلَب الطلاق والحصول على ما تُريدُه مِن أملاك ومال. وبقيَ اسمي سرّيًّا ولَم يعرف أحد أنّني الفتاة الفقيرة التي تغلّبَت على رجل ثريّ ذي سمعة جيّدة.
وكلّ الفضل يعودُ طبعًا إلى ذلك الطبيب الذي لن أذكر إسمه. فهو الذي آمَنَ بي وخلّصَني مِن مخالب عائلة فاسدة. وما هو أهمّ مِن كلّ ذلك، لقد أعطاني الشجاعة والقوّة اللتَين عملَتا منّي إمرأة واثقة مِن نفسها لا يقفُ شيء في طريقها مهما كان صعبًا.
لن أنساك يا دكتور... وليحمِكَ الله ويُغدق عليكَ النِّعم وعلى عائلتكَ، فأمثالكَ قليلون والعالم بحاجة إلى نزاهتكَ وروحكَ الطيّبة ليُصبح مكانًا أفضل.
النهاية.
حاورتها بولا جهشان
