الستّ نوال

تعرّفتُ إلى طارق حين كان في الخمسين مِن عمره وكان مُدمّرًا عاطفيًّا، فهو عاش قصّة حبّ طويلة الأمَد إنتهَت بطريقة قاسية. بعد ذلك، لَم يجرؤ على فتح قلبه مُجدّدًا، وقضى وقته وحيدًا ومُنكبًّا على عمَله. هو ظنّ أنّ ذلك سيحميه مِن صدمة جديدة وأنّه قادر على العَيش مِن دون رفيقة. لكن كلّ شيء تغيَّرَ بفضلي، ربمّا لأنّه رأى فيّ إنسانة صادقة ومُحبّة وقنوعة.

تأثّرتُ كثيرًا لدى سماع قصّته مع خطيبةٍ لعِبَت بعواطفه طوال سنوات، وبقيَت تؤجّل موعد زواجهما إلى حين هي استطاعَت التغلّب على مشاكلها الشخصيّة وإيجاد مَن يليقُ بها أكثر. يا للماكرة... لقد إستعملَته لتحظى برفقة ودعم وعواطف لفترة كانت تعرفُها محدودة! وعدتُ طارق بأنّني لن أتصرّف مثل تلك المرأة الشنيعة، وأنّني لَن أُبارحَ جانبه إلا إذا أرادَ هو ذلك. فلقد أحبَبتُه، وكيف لا أفعَل؟ فطارق كان إنسانًا بالفعل لا يُقدَّر بثمَن بسبب تفانيه المُطلَق لحبيبته، وما هو أهمّ: قدرته على التعبير عن حبّه لها. شكرتُ ضمنًا التي سبقَتني لتركه لي، فلو هي بقيَت معه لَما عرفتُ إنسانًا نبيلاً مثله.

تواعدنا يوميًّا، الأمر الذي أتاحَ لي التعرّف إلى طارق بشكل أفضل... وإلى علاقته بنوال، أم حبيبته السابقة. فتلك المرأة لَم توافق على ما فعلَته به إبنتها، بل اعتبرَت تصرّفها غير لائق ومِن دون سبب، لِذا بقيَت تلك الأمّ على تواصل مع الذي كان يجدرُ به أن يُصبحَ صهرها. فحصَلَ مرارًا أن أكون برفقة حبيبي حين تتّصل به نوال لتسأل عن أحواله. إستغربتُ الأمر، وهو شرَحَ لي أنّها إمرأة حنونة وعاقلة، وأنّ لا داعي أن ينشغل بالي بها فهي بالفعل عجوز يُناهز سنّها الثمانين. سألتُه لِما يُبقي تلك العلاقة حيّة بعد مرور سنوات على نهاية قصّة حبّه، فأجابَ أنّه يشعرُ وكأنّه مُدين لها لوقوفها بجانبه ضدّ إبنتها.

لاحقًّا عرفتُ مِن حبيبي أنّه يُساعدُ نوال ببعض التصليحات في منزلها، ويجلبُ لها حاجياتها بين الحين والآخر. للحقيقة، لَم يُزعجني أن يكون طارق يُساعدُ إمرأة كبيرة في السنّ، بل فقط أنّ تلك العجوز هي أمّ حبيبته السابقة. أرَدتُه أن يبتعِد عن كلّ ما ومَن يُذكّره بالهجر والخذلان. نصحتُه بالإبتعاد عن نوال، وهو وعدَني بأن يجِد طريقة لقطع الصلة بينهما. بعد ذلك، لَم تعد نوال تتّصل بطارق، على الأقل ليس حين نكون معًا. نسيتُ الأمر برمّته لإنشغالي بالتنسيق مع حبيبي لقضاء حياتنا سويًّا، أيّ الزواج.

علاقتي بأمّ طارق كانت جيّدة، فهي أحبَّتني بعد فترة، أي بعد أن تأكّدَت مِن أنّني لستُ كالتي سبقَتني وأنّني لن أؤذي إبنها. بدأتُ أُناديها "حماتي" مُسبقًا وهي نادَتني "إبنتي"، أيّ أنّ كلّ شيء كان يسيرُ كما يجب.

لكنّ الأمور تفاقمَت حين سمعتُ كيف أنّ نوال تُكلّم طارق. كنّا في السيّارة عائدَين ليلاً مِن السينما، حين رأيتُ هاتفه يُضيء مِن دون إصدار أيّ صوت. قلتُ له:

 


ـ لا بدّ أنّكَ نسيتَ تشغيل صوت هاتفكَ بعد خروجنا مِن الصالة.

 

ـ آه... معكِ حقّ يا حبيبتي.

 

ـ ألا تُريدُ الإجابة؟

 

ـ لاحقًا... لاحقًا.

 

ـ بل الآن، فقد يكون الأمر مُستعجلاً ليتّصل بكَ أحد في هكذا وقت مُتأخِّر.

 

إضطرّ طارق عندها أن يُجيب، وسمعتُ صوت نوال يتعالى في السمّاعة وهي تقولُ له: "لِما لا تُجيب؟!؟ لقد إنشغلَ بالي عليكَ!". أمّا هو، فتلبّكَ ولَم يعُد يعرفُ ما يقول، لأنّه وعدَني بقطع علاقته مع العجوز. بِلحظة، أخذتُ هاتفه مِن يده وأقفلتُ الخط. سكتنا طوال مسافة العودة، ونزلتُ بصمت مِن السيّارة حين وصلنا منزلي. عادَ طارق إلى بيته عالمًا تمام العلم أنّني غير موافقة على الذي يحصل.

في اليوم التالي سألتُ حبيبي كيف لنوال أن تتّصلُ به قرابة نصف الليل وأن تُكلّمه بلهجة كهذه، وهو أعطاني التفسير التالي: "هذه المرأة ليس لدَيها أولاد ذكور، وأنا الرجُل الذي دخَلَ حياتها وكادَ أن يكون صهرها... هي إعتادَت أن تُعاملني وكأنّني إبنها. أنا آسف يا حبيبتي لكنّني لَم أتحمّل فكرة التخلّي عنها، فهي بحاجة إليّ."

إحترتُ لأمري، فمِن جهة كانت نوال عجوزًا وشبه وحيدة بعد زواج إبنتها، ومِن جهة أخرى شيء بداخلي قال لي إنّ المسألة أعمق مِمّا تبدو عليه. لِذا رحتُ أسأل مِن حولي عن إسم خطيبة طارق السابقة، إلى حين توصّلتُ أخيرًا للحصول على بعض المعلومات. عرفتُ مِن أحدهم أنّ نوال إمرأة قويّة الشخصيّة وسيّدة مُجتمع معروفة.

لَم تكن تلك الصورة التي كوّنتُها عنها مِمّا قاله لي طارق، فغضبتُ كثيرًا. صحيح أنّها كانت كبيرة في السنّ كما قال، لكنّها ليست عجوزًا ضعيفة ووحيدة. لماذا يُخفي عنّي حبيبي تلك التفاصيل، ولماذا يُصرّ على البقاء على تواصل معها؟ قرّرتُ الحصول على أجوبة دقيقة قَبل أن أرتبط نهائيًّا به، فمسألة الثقة كانت بغاية الأهميّة بالنسبة لي.

إستشرتُ والدتي بعدما أخبرتُها عن سبب قلَقي، وهي سكتَت قبل أن تقول: "لا أٌريدُ زرع الشكّ في رأسكِ يا حبيبتي، لكنّني لستُ مطمئنّة في ما يخصّ هذَين الاثنَين. هناك ما يجمعهما حتمًا. لكن ماذا؟ هذا ما عليكِ معرفته. قد يكون أمرًا بسيطًا وسطحيًّا، أو العكس".

كلام والدتي أعطاني العزيمة اللازمة والجرأة الكافية لأقصد نوال في بيتها. للصراحة، لَم أكن أعلَم تمامًا ما سأقوله لها وبأيّة طريقة، لكنّني رحتُ أدقُّ بابها. فتحَت لي عاملة أجنبيّة قادَتني إلى صالون حيث انتظرتُ وصول "الستّ نوال". مِن شكل الأثاث، إتّضحَ لي أنّ تلك المرأة ثريّة ومِن الطبقة المُخمليّة. وحين ظهرَت أخيرًا أمامي، لَم أُصدّق أنّها في سنّ جدّتي، فهي كانت أنيقة ورشيقة. عرّفتُها عن نفسي، وهي نظرَت إليّ مِن أعلى رأسي إلى أسفَل قدَميّ وكأنّها تتفحّص التي أخذَت مكان إبنتها. ثمّ سألَتني عن سبب زيارتي لها فأجبتُها:

 

ـ أردتُ التعرّف إليكِ سيّدتي... فأنا أعرفُ كلّ ما يجب عن علاقة طارق بإبنتكِ وكم هو عانى مِن تركها له. إضافة إلى ذلك، أعلَم كَم أنّكِ مُصرّة على إبقاء العلاقة قائمة بينكِ وبين طارق، فغالبًا ما أكون برفقته حين تّتصلين به... ليلاً.

 


ـ وما الذي يُزعجكِ بذلك؟

 

ـ سأصبحُ زوجة طارق قريبًا، وأرى أنّ عليه ترك الماضي تمامًا. وأنتِ جزء مِن هذا الماضي.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ أقصدُ أنّني لا أُريدُكِ أن تتّصلي به مُجدّدًا، فهو لَم يعُد "صهرًا" بالنسبة لكِ. حياته معي الآن ومع أمّي التي ستصبح حقًّا حماته.

 

ـ هاهاها... كَم أنّكِ لطيفة... وساذجة! إسمعي حبيبتي... لن تأتي صبيّة في سنّكِ و... مكانتكِ لتقول لي ما عليّ فعله أو عدَم فعله. قولي لـِ "حبيبكِ" أن يتوقّف هو عن الإتّصال بي. أنا لا أُلقي نفسي على الرّجال، بل العكس. لا تنغشِّي بسنّي، فذلك لا يؤثّر على إنجذاب الرجال إليّ، بل مالي ومكانتي الإجتماعيّة لهما تأثير كبير على مَن حولي. أنتِ لا تزالين صغيرة في السنّ ولا تعرفين بعد كيف هم الناس. طارق مفتون بي مذ تعرَّفَ إلى إبنتي، ولو إستطاع آنذاك إختياري مكانها لَفعَل. إبنتي شعرَت بذلك، وحين تأكّدَت مِن أنّ خطيبها يُريدُني أنا، أسرعَت بتركه. بعد ذلك، أيّ بعد أن تزوّجَت إبنتي بسرعة وسافرَت بعيدًا، هو أفصَحَ لي بوضوح عن مشاعره تجاهي.

 

ـ لكنّكِ عجوز!

 

ـ هاهاها... ساذجة! ألَم تسمعي ما قلتُه لكِ؟

 

ـ هل... هل حصَلَ شيء بينكما؟

 

ـ لا بل أشياء! لكنّ طارق لا يعني لي شيئًا... هو ليس سوى أحد مُعجبيني الذين يحومون مِن حولي. آه... كَم أنّهم لطفاء... أحبُّهم جميعًا وأمقتُهم في آن واحد. أحيانًا أشبّهُهم بالذباب المُزعج الذي يحومُ حول قطعة مِن الحلوى. الآن إرحلي، فلقد ملَلتُ منكِ. إذهبي إلى خطيبكِ وحلّي مُشكلتكِ معه، فإن هو قطَعَ صلته بي أعدُكِ بأن أفعل كذلك. لكنّني أعلَم أنّه لن يقدر على فُراقي فأنا أمثّلُ بالنسبة له فكرة المرأة المثاليّة.

 

ـ أنتِ مجنونة!

 

ـ وأنتِ بلهاء!

 

كانت نوال على حقّ، ففي آخر المطاف، هي أذكى وأكبر منّي وتعرفُ الطبيعة البشريّة أفضل منّي. فبقيَ طارق يكذبُ عليّ ويعدُني بقطع التواصل بنوال حتى طفَحَ كَيلي. لِذا تركتُه على مضَض لأبكي على كتف أمّي التي واسَتني قدر المُستطاع.

علِمتُ لاحقًا أنّ نوال ملَّت نهائيًّا مِن طارق ورمَته جانبًا كبضاعة قديمة. وهو حاوَلَ الرجوع إليّ لكن بعد ماذا؟ وبالطبع لَم أقبَل به مِن جديد، فليذهب إلى الجحيم!

لكن بعد فترة، تعجَّبتُ من نوال تتصل بي:

 

ـ لا تسألي مِن أين جئتُ برقم هاتفكِ، فلدَيّ معارف كثيرة في أماكن نافذة. إسمعي... لا تحزني على حبيبكِ يا صغيرتي، فهو لَم يُحبّكِ كفاية... أظنُّ أنّ عليكِ شكري بدلاً مِن كرهي... أدعو لكِ بالتوفيق وبأن تجدي الرجُل المُناسب، فأنا حتى اليوم لَم أفعَل. إنّ الرجال الصالحين قليلون جدًّا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button